الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنسنة السياسة

أنسنة السياسة
20 سبتمبر 2012
كثر الحديث في الأدبيات السياسية والثقافة العربية في العقدين الأخيرين عن الغزو الثقافي وأخطار العولمة على الهويات القومية والوطنية، دون أن نلمس اي جهد عربي علمي ومدروس لوضع خطة عربية متكاملة لمواجهة تلك التحديات الثقافية، والحفاظ على تلك الهوية بمفهومها النسبي، وليس المطلق كما يذهب بعض أصوليي تلك الثقافة، في عصر الانفجار المعرفي وسقوط الموانع والحدود أمام وسائل الاتصال والتواصل الحديثة. يقدِّم كتاب “سياسة الثقافة أم ثقافة السياسة” لمؤلفه سيرجي إيفانوفيتش كوسينكو الصادر عن مشروع كلمة للترجمة، إنموذجا عن التقاليد والأعراف المتبعة منذ القديم، في فرنسا لحماية تراثها الثقافي وإثرائه وتطويره، وكيفية توظيف سياسة الثقافة لتكون مشروعا تتسابق الحكومات على اختلاف توجهاتها السياسية والايديولوجية على جعله في خدمة ثقافة والحفاظ على التراث الروحي لللأمة، بدلا من أن تكون الثقافة في خدمة السياسي كما هي الحال في الدول الشمولية. السياسي والثقافي يطرح عنوان الكتاب في صيغته النحوية إشكالية العلاقة بين السياسي والثقافي، وما تنطوي عليه تلك العلاقة من ضرورة لتحديد وظيفة كل منهما، ومجال اشتغاله، بعد أن هيمنت الدولة الشمولية على مختلف مفاصل المجتمع والدولة، بحيث تحولت الثقافة إلى خادم للسياسة وليس العكس. وقد ازدادت إشكالية تلك العلاقة تعقيدا في عصر العولمة والفضاءات المفتوحة التي شكلت تهديدا للهويات الثقافية الوطنية والقومية، لاسيما في بلدان العالم الثالث، ما استوجب بلورة سياسات ثقافية فاعلة، تحافظ على تلك الخصوصيات الثقافية، وتمنعها من الضياع والذوبان أمام ثقافات المركز الغربية. يتخذ الكتاب من التجربة الفرنسية في الحفاظ على التراث الثقافي لفرنسا وتطويره وإثرائه، منذ العهود الملكية وحتى الآن مجالا للبحث والتقصي، حيث اختط الساسة الفرنسيون مفهوما خاصا بهم، هو سياسة الثقافة، بغية خلق ثقافة متميزة على مر مراحل تاريخ فرنسا، الذي شهد محطات حاسمة بفعل الدور الذي لعبه الساسة الفرنسيون ووزراء الثقافة، في هذا البلد الذي عرف بمكانته المتميزة عالميا على مستوى حرية الرأي والتراث الثقافي. يكشف المترجم في تقديمه للكتاب عن مدى الرعاية والاهتمام الذي توليه فرنسا للثقافة، حيث ابتكروا لذلك مفهوم سياسة الثقافة الذي تحول إلى ممارسة عملية ظهرت نتائجها في المستوى الذي حققته الثقافة هناك، على المستويات والصعد المختلفة. تعود التجربة الفرنسية في مجال السياسة الثقافية إلى عهود الملكية، وفي الخمسين عاما الأخيرة حافظت تلك السياسة على زخمها الذي يعززه المبادئ الدستورية، التي تحدد الطابع الديمقراطي للمجتمع الفرنسي. ويدلل على عظمة الثقافة الفرنسية من خلال الشواهد المعمارية وتراث مفكري عصر التنوير والثورة الفرنسية. ويوضح الباحث أن الهدف من هذا الكتاب ليس التعبير عن الحب والشغف بهذه الثقافة بل البحث في السياسة الثقافية الفرنسية على تخوم القرنين العشرين والحادي والعشرين باعتبار أن مصطلح السياسة الثقافية، هو ابتكار فرنسي منذ عمل الملك فرانسوا الأول ولويس الرابع عشر على الدفاع عن الآداب والفنون ورعاية النشاط الروحي والأدبي لفرنسا. شخصيات ثقافية بعد العرض التاريخي للأدوار التي لعبتها الأنظمة الملكية والجمهورية في فرنسا، يتحدث عن الدور الهام الذي لعبته شخصيات ثقافية كبيرة عبر قيادتها لوزارة الثقافة التي جرى الإعلان عنها في عهد شارل ديغول 1959 من أمثال أندريه مالرو الذي لم يمنحه ديغول المجال الحقيقي لتطبيق سياسته الثقافية، لكن لا مركزية السياسة الثقافية تعززت في عهده. وقد لعب جان بول سارتر وفلسفته الوجودية دورا مهما في الدفاع عن المفهوم الديمقراطي للثقافة، كما ساهمت الأفكار الليبرالية في تغلغل مفاهيم الحرية اللامحدودة للفرد ما أدى إلى تبدل في مفهوم الفرنسيين للثقافة في حقبة الستينيات من القرن الماضي بحيث أصبحت الثقافة راية يرفعها الجمهوريون على اختلاف انتماءاتهم السياسية. وكان للحدود التي وضعت بين قمة السلطة ورجالات الثقافة البارزين دور بارز في التحفيز لأحداث مايو 1968. وقد لعب الرئيس جورج بومبيدو الليبرالي دورا مهما في دعم الفن والآداب والعمارة وإرضاء أذواق الجيل الجديد من الشباب، في حين رأى الرئيس ميتران المحب للكتب والثقافة وأهم رجالات فرنسا ثقافة، والذي كان مدركا لثقل فرنسا في الثقافة العالمية رأى في الثقافة أداة جبارة للتأثير في وعي مواطنيه، وعلى الرأي العام العالمي، حيث لعب وزير الثقافة جاك لانغ من خلال صفاته الشخصية والفكرية المدهشة دورا قويا في الارتقاء بسياسة ميتران الثقافية إلى الذروة التي لم تستطع أن تبلغها سابقا. كما كان أول من أدخل إلى التداول مصطلح صناعة الثقافة وساهم في تعميق سياسة التنمية الثقافية. ويخصص الباحث لسياسة اليمين الثقافية في ظل عهد الرئيس جاك شيراك فصلا خاصا يتناول فيه توجهات تلك السياسة ومحدداتها وإنجازاتها، خاصة وأن السياسة الثقافية لم تكن في عداد أولوياته. ومع بداية الألفية الجديدة تميزت السياسة الثقافية بضعف الفعالية بعد أن صار من غير الممكن الاستمرار في سياسة الإنفاق المكلفة على التنمية الثقافية، ما أدى إلى تقلص مخصصات الثقافة في ميزانية الدولة، إلى جانب تعقد وبيروقراطية الجهاز المسؤول عن سياسة الثقافة. الخصوصيات الثقافية في هذا الفصل يحدد الباحث المؤسسات وأدوات وآليات سياسة فرنسا الثقافية المعاصرة، على مدى خمسين عاما، وفي المقدمة منها منظومات المؤسسات الحكومية والعامة التي اتسمت بالتشعب والضخامة، وكانت في الآن ذاته فعالة للغاية، وتعد وزارة الثقافة في طليعة تلك المؤسسات التي تعتبر في نفس الوقت الوزارة الطليعية الأضخم في العالم وقد دخلت مع بداية القرن في منظومة هذه الوزارة خمس وخمسون مؤسسة حكومية منها حوالي أربعين مؤسسة متخصصة مستقلة نسبيا، وهذه المؤسسات الحكومية الضخمة، تمتلك منذ العهود القديمة صفة الاستقلال الذاتي. وتتمثل الأدوات الجبارة للسياسة الثقافية لفرنسا في الصناديق المختلفة، ولذلك ليس مصادفة أن تلعب الثقافة في الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية لمناطق فرنسا النائية دورا متناميا، خاصة وأن السلطات الفرنسية عمدت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي إلى تقليص الفجوة الثقافية بين باريس والمحافظات الأخرى. بالمقابل يشير الباحث إلى ما يتميز به المجتمع الفرنسي الحر والمتطور روحيا من تعطش تقليدي للثقافة والفنون، كوسيلة لقضاء أوقات الفراغ، حيث بيِّنت نشرة أصدرتها وزارة الثقافة الفرنسية أن ثلث سكان فرنسا كانوا يمارسون على مستوى الهواة نوعا واحدا أو أكثر من أنواع النشاط الثقافي، وأن كل واحد من أربعة فرنسيين يعزف على آلة موسيقية و11% من الفرنسيين ينظمون الشعر، بينما يمثل شراء وطلب مؤلفات الفنون الجميلة تقليدا فرنسيا منذ العهود الملكية. ويضيف بأن دعم صناعة الكتاب الوطني والمكتبات الوطنية احتل على مدى الأعوام الخمسين الماضية أولوية في السياسة الثقافية لفرنسا، ويشمل هذا الدعم دور النشر وتجارة الكتب والسعر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©