الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضرب البيدر

ضرب البيدر
16 أكتوبر 2014 21:20
في كرتون «توم وجيري» يتحرش القط بالكلب الذي يكون مشغولاً عنه في لعق العظام، وكلما انتبه إليه الكلب الشرس واستعد للانقضاض عليه، يأخذ القط في الجري وهو واقف، ثم يفاجأ بضربة قوية على رأسه وهو لا يزال يجري في مكانه. كان هذا يسمى في لغة أولاد الفريج «ضرب البيدر»، أي ضرب (تدوير) بيدر (دوّاسة) الدراجة الهوائية بالقدمين بينما الزنجير غير مثبت حول الحلقة التي تحرك الإطار الخلفي إلى الأمام، وكان «ضرب البيدر» كناية عن الذي لا يفعل شيئاً، لكنه يعتقد أنه فعل كل شيء، مثل القط توم بالضبط. وفي أيام الثانوية، كان أحد زملاء الفصل يسكن في الحي المجاور للحي الذي كنت أسكن فيه، وكان يقسم لي أنه ذاكر جيداً كلما وزّع علينا المعلم ورقة الامتحان وتبين أن أصفاره كثيرة، ثم يخبط ورقة الامتحان بيده ويقول إنه لا يدري لِمَ كتب إجابات خاطئة. ولم أكن أصدّق ادعاءاته، وأقول في نفسي إن صدّقته يعني أنه غبي فعلاً، إذ كيف يأتي بكل هذه الأمجاد الصفرية إنْ كان قد سهر الليل يطلب العلا؟! واكتشفت بعد ذلك أنه لم يكن يكذب، وإنما كان «يضرب بيدر». عرفت ذلك حين زرته في بيتهم في إحدى المرات بعد أن طلب مني مساعدته في المذاكرة، فذهبت وشعور بأنني معلم يسير معي، وكنت قد أنهيت مذاكرتي لئلا أفاجأ بسؤال لا أعرفه، وسألته ونحن نسير إلى غرفته إن كان قد بدأ في مراجعة الدروس، فقال كأنه معلمي الخصوصي: بالطبع كلا، كنت أنتظرك. كان قد هيّأ كل التجهيزات اللازمة للمذاكرة، فهو يجلس إلى طاولة كبيرة، ومقعداً مريحاً، وفوق رأسه إضاءة مناسبة، وهناك تهوية جيدة في المكان، وهدوءاً تاماً فرضه على إخوته الصغار الذين كانوا يتقافزون في الصالة لحظة وصولي، وبين يديه تشكيلة من الأقلام والأوراق والدبابيس، وكيس زبيب، قال وهو يناولني بعضاً من حبّاته إنه يساعد على التركيز. وقال أيضاً كأنه في مؤتمر والصحافة العالمية تسأله عن سرّ علاماته النهائية في الامتحانات، إنه لا يبدأ المذاكرة بعد الأكل مباشرة، ولا إذا كان جائعاً، ولا بد أن يكون بين الجوع والشبع، ليهضم المعلومات بشكل جيد، وأن هذا نهج يلتزم به قبل كل امتحان، فقلت في نفسي وأنا أهز رأسي موافقاً: بهذه الاستعدادات، لا بدّ أن سيحصل على الدرجة النهائية. وفتح الكتاب، ثم فجأة تكلم عن المكتبة التي اشترى منها الأقلام، وضحك وهو يصف الفتيات الجميلات اللاتي رآهن هناك، وأكّد أن إحداهن ابتسمت له شخصياً وبشكل حصري، وأنه سينظم فيها قصيدة بعد الامتحان، وأنهى ساعة الكلام بحكاية والده حين كان يفاصل صاحب المحل على شراء الطاولة التي نجلس إليها، وكانت حكاية طويلة تشابكت تفاصيلها بتفاصيل عن شخصية والده، ثم ألقى حبّات من الزبيب في فمه، ثم قام ليغسل يديه. بعد قليل عاد مترنّماً ليواصل الاستعداد للمذاكرة، فأخذ يجرّب مستوى ارتفاع الكرسي، ثم استقر على وضعية معينة وشمّر عن ساعده باعتباره قد دخل مرحلة الجد، ثم أخذ يشبك الأوراق المهمّة بدبابيس ويقول إنها أفضل طريقة لئلا يضيع وقته في البحث، ثم أخرج من درج طاولته ختماً مكتوباً عليه «مُلغى»، وأخذ يمهر به الدروس المحذوفة ويقول إن رؤية هذا الختم تخفف عليه ضغط الامتحان، ثم أخذ قلماً أخضر، وفي اللحظة الأخيرة أخذ القلم الأحمر وقال إنه أفضل، ثم انتهى إلى قلم فوسفوري مشع. وأخيراً، بعد فاصل من الكلام عن المعلم الذي لا يرحم، وبعض الزملاء الذين لا يحب صداقتهم، وبعض الأبيات الشعرية التي سألني عن رأيي فيها، فتح الكتاب على الدرس الأول الذي سنُمتحن فيه غداً، وكنت قد أمضيت معه حتى الآن ساعتين، فقلت له إنني أشعر بالجوع، وسأضطر إلى المغادرة، فسأل فوراً: ما رأيك بسندويشات الشاورما من المطعم القريب؟ خرجنا من منزلهم وهو يقول لإخوته الصغار إنه يمكنهم اللعب الآن، وقال إن هؤلاء المساكين يسألونه كل يوم بعد عودته من المدرسة إنْ كان لديه امتحان في اليوم التالي، وقبل أن يودعني أمام باب بيتنا بعد تناول العشاء، سألني بجدية ليطمئن عليّ إنْ كنت مستعداً للامتحان. في اليوم التالي، وجدته أول من يسلّم ورقة الإجابة إلى المعلم، وكنت أتمنى أن يلتفت إلي لأسأله عن إجابة سؤال تورطت به. وبعد خروجي من الفصل، سألني بابتهاج إنْ كنت قد أبليت حسناً كما فعل، ثم سألني إن كان الامتحان مثل شربة الماء كما شعر، فسألته إنْ كان قد عاد بعد تناول العشاء إلى المذاكرة، فسألني بتعجب: ألم نذاكر معاً؟! في هذا العالم الذي يتسابق أفراده وشعوبه وأممه في مضمار الحضارة، هناك أفراد، وشعوب، وأمم، «يضربون بيدر»، ثم يتساءلون مثل ذلك الزميل بعد كل شوط من أشواط السباق: لِمَ لم نتقدم متراً واحداً رغم أننا اتخذنا كل الاستعدادات ووقفنا على خط البداية مثل بقية الناس وحاولنا الانطلاق بعد سماع الشارة؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©