الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجريديات النصوص

تجريديات النصوص
25 سبتمبر 2013 20:30
أهو الفهم، ربما، أم المقدرة على التأويل؟، لعله الاثنين معاً، لكن هذا ما يشعر به المرء، بالفعل، أمام الأعمال الحروفية (25 لوحة) للتونسي عمر الجمني الذي أقيم معرضه في بيت الخطاطين بمنطقة التراث ـ الشواهين، في إطار فعاليات “صيف الفنون”، باستضافة من إدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. والأرجح أن هذا العسر في فهم الأعمال أو المقدرة على تأويلها على نحو ما يعود إلى ما تحدثه في المرء حروفيات الجمني التي تقوم فنيتها العالية على رشاقة الخط المغربي، بكل تنويعاته وتفاصيله من جهة، وتلك الانسيابية في الحروف من جهة أخرى، ثم هذه العلاقة بين اللوحة الحروفية بكل كلاسيكيتها، والوعي باللوحة الحديثة مثلما هي عليه في وعي سابق على مشاهدة الأعمال. أعمال الجمني بما هي عليه، إذ يصمت المرء أمامها فإنها تثير فيه تساؤلاً من نوع: إلى هذا الحدّ يمكن للمرء أن يكون مستلباً في وعيه الفني، قارئاً وليس ناقداً، إلى الثقافة الغربية بالنسبة للوحة العربية الحديثة وكيفية تأويلها حتى لو كانت لوحة تجريدية أو تعبيرية؟ أم أن البصر، و”اللاوعي الثقافي” المرتبط به، وكذلك الذاكرة الثقافية البصرية، لم يعتد النظر إلى الحروفيات المغاربية إجمالاً، فتسبب جماليات هذه الحروفيات هذا الإرباك كله في الوعي، وكأنه أمام حروفيات عربية يراها مختلفة ومغايرة، ويكتشف هذا الاختلاف والتغاير هكذا فجأة بما يسبب دهشة تجعل المقدرة على تأويل الأعمال تغيب؟. إن فضيلة عرض حروفيات الجمني هو في مقدرتها أن تثير هذا النوع من الارباك “المعرفي”، وهذه الأسئلة التي ينبغي على المرء أن يطرحها على نفسه دائماً وليس في مناسبة كمعرض الجمني. على أي حال، فإن الحروفيات من غير الممكن تأويلها عبر النص الذي تخطه وحده، فما النص سوى ذريعة “فنية”، وكذلك لا يمكن للتأويل أن يحدث عبر المواصفات فحسب على الرغم من أهميتها، كأن نقول عن حروفية ما بأنها قد حققت انسيابية في الخط والتزاماً بالقواعد الصارمة لصناعة لوحة حروفية عربية بالمعنى الحقيقي للكلمة. هنا، في حروفيات الجمني، شيء آخر مختلف، يتصل على نحو أساسي بعلاقة الحروفيات وخطها العربي المغاربي باللوحة الحديثة وكذلك بانزياحه عن ذلك الخط ذاته فيجعل العمل الفني أشبه ما يكون بكتابة النوتة الموسيقية التي تجمع بين الخطين: المشارقي والمغاربي، وبمزاج فني خاص. ربما من هنا، فإن تأويل أعمال الجمني، كما عرضت عليه في بيت الخطاطين، واحد من المفاتيح التي يجعلها قابلة للتأويل والقراءة الفردية الخاصة التي لا تقوم على الإحساس بالجماليات وحدها بل أيضاً على الوعي النسبي بالفروقات بين اللوحة الحروفية المشارقية وتلك المغاربية. وعلى ما يبدو من صنيع الجمني، فإن صرامة الخط المغاربي لديه ليست هي ذاتها الصرامة الهندسية التي تحكم بناء اللوحة الحروفية المشارقية ولا منطق بنائها حتى، إذ هناك منطق فني آخر يسمح بالانزياح باتجاه أن تكون الحروف أكثر انسيابية ورشاقة، ومن غير الممكن تقييدها، ويلمس فيها المرء مقداراً أوسع من “الحرية” التي هي “حرية” تخييلية بالأساس، مثلما أنها مانحة للصانع ما يجعل النص المكتوب بحد ذاته “جميلا” من دون استغراق بالتفاصيل الزخرفية التي عادة ما تجعل خطاطاً مشارقياً أو آسيوياً غير عربي لا ينتج في العام الواحد سوى لوحة حروفية كلاسيكية واحدة أو اثنتين، الأمر الذي هو ليس عيباً بالنسبة للوحة المشارقية، مثلما أنه ليس ميزة على أي حال من الأحوال إذا جرى النظر إلى هذه المسألة من جهة الجمال الصافي الذي لا يحتاج إلى تنظير. أي من جهة “الإحساس” بالجمال وليس من باب “الوعي” بأسبابه. بالمقابل، يشعر الناظر إلى الصور الفوتوغرافية لأعمال عمر الجمني أن التصميم، أو ما يطلق عليه بالانجليزية كلمة “ديزاين”، ويقصد بها هنا ما يجمع الحرفة والخيال معاً، هو مقصود مسبقاً، وجرى التفكير به إن لم يكن متخيلاً من قبل المباشرة في تنفيذ العمل على السطح التصويري، وهذه مسألة تتصل بالشكل مباشرة وليس بالمضمون وحده. فالشكل هو “الحامل” الأساسي لكل ما هو “جمالي” في أعمال الجمني. وإذا جرى النظر إلى صنيع عمر الجمني بمعزل عن صلته بتراث الحروفية العربية ككل، وبمعزل أيضاً عن كونه حديثاً أو معاصراً أيضاً، فإنه بالمطلق يبني لوحته بناء من طبقات وليس من طبقة واحدة تحت ضغط انفعالات أو أحاسيس تتسم بالعنف أو الهدوء تبعاً، لأنًً ليس هناك ضربات قاسية للفرشاة على السطح التصويري، إذ هو يستخدم فرشاة وليس ريشة في ممارسته الفنية على الأرجح، وأحيانا الاثنتين معاً. وربما من هنا ذلك الصفاء في اللون لديه. يشعر الناظر أن يده هيّنة وفرشاته ليّنة، وأنه يتعامل مع السطح التصويري كما لو أنه جسد لبتول، ينبغي أن لا تُمسّ، وربما من هنا فإن هذا التأويل يقود المرء إذ يحاول أن يقرأ هذه الأعمال إلى القول إن تلك الانحناءات في الخطوط والأقواس في أصل التصاميم مأخوذة مباشرة من جسد امرأة قد متخيلة بالنسبة لعمر الجمني، وقد تكون أيضا واقعية تماماً. غير أن هذا الأمر يبقى فردياً تماماً، وأقرب إلى “لغة” الأدب منه إلى “لغة” “النقد” التشكيلي هنا. ومع اللوحة الحروفية التي تحمل قصيدة “إلى الطاغية” لأبي القاسم الشابي، يحسب المرء أنه أمام لوحة تجريدية تماماً إنما بعيداً عن أي تصنيف، كما لو أن عمر الجمني يسعى لـ”لغته” التشكيلية الخاصة إنما ليس بمعزل عن ما هو حديث ومعاصر أو موروث إنما بتشرّب ذلك جميعاً وهضمه وإعادة إنتاجه وصياغته في قالب آخر يخص عمر الجمني وصنيعه الفني. أي بما يجعل الناظر إليه يدرك أن هذا العمل أو ذاك يعود إليه. ولعل ذلك ما يفسر قوله عن قصائد الشابي، بأنها “كلها صور جاهزة، فهو يقدم لك مشاهده الشعرية بوضوح ويضعك في محيطه، ولقد استطعت إلى حد ما تحويل هذه الصور التي أساسها الحرف إلى مشهد بصري تشكيلي، يعكس محتوى القصيد مع الحفاظ على أصالة الخط من دون تشويه، وبهذا يكون للقصيد مشهده كاملاً”. وما يمكن أن يُقال عن هذا العمل، بوصفه نموذجاً من أعمال الجمني، هو أنه أكثر الأعمال حيوية، أو ما يوصف عادة بالقول بأن هذه تنطوي على “روح”، ربما بسبب ذلك اللون الأحمر الذي لا يميز عبارة: “ستعلم مَن منّا سيجرفه الدم” إنما أيضاً تلك الضربات من الفرشاة باللون ذاته إذ تقع على السطح التصويري، وكما لو أنها هي “مركز” اللوحة بكل تفاصيله أيضاً هذا اللوم، وفي سياق اللوحة ككل هو ما يمنحها تلك “الحداثة” الخاصة بها، أي أن تكون ذات صلة بشأن راهن، وهو هنا سياسي تماماً، ولا يمكن فهمه بمعزل عن ما حدث ويحدث في تونس التي حملت إلى المنطقة العربية “بشائر” ما يسمى بـ”الربيع العربي”. مع ذلك يمكن توصيف هذا العمل بأنه “بسيط”، أي غير مكلف تخييليا، وتلك هي ميزته الأساسية، على الرغم من أن هذه الميزة تتوافر في أعمال أخرى، خاصة أن الخط المغاربي لا يحتم على الخطّاط أن يكون خطاطاً فحسب، ويفتح أمامه باباً ليدرك أسباباً أخرى للخيال بقدر ما يتاح له. إلا أنه وبالمجمل، فإن الناظر إلى أعمال عمر الجمني يدرك بأنها أعمال لا تستدر كلاماً كثيراً عليها، إنما هي أعمال من الممكن تأملها وفقاً لصيغة جمالية تحمل رسالة ما، هي غالبا رسالة مباشرة بسبب المضمون وليس الشكل. عن الخطوط المغربية وذائقتها علاقة الفنان التونسي عمر الجمني (مواليد 1957) مع الخط العربي تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ولفضل جهده ومثابرته حقق لاسمه مكانة منظورة في المشهد الفني العربي، وأحرز العديد من الجوائز بدءاً من 1987، حيث حاز الجائزة التقديرية للجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري في موطنه، وتبعها بالعديد من الجوائز من مهرجانات وملتقيات فنية في تونس والمغرب والجزائر وقطر والعراق. يقول الجمني عن تجربته أنها “تعتمد على تقديم نوع من أنواع الخط العربي ألا وهو المغربي، بأسلوبه المبسوط التقليدي وغير المعروف عند أغلب الجمهور الشرقي، ولكن في إطار حديث ومعاصر، يتماشى مع ثقافة العصر من دون المساس به أو تشويهه بوصفه تراثاً”. ويضيف: “وضعت في بعض اللوحات تناغماً بين الخطوط الشرقية مع المغربية ليستوعبها الجمهور.. أما بقية الأعمال فهي تعرّف بمدى تطويع الخط المغربي في إطار منظومة حروفية وتشكيلية مع فن الكولاج.. هذه الأعمال تعكس وتدوّن لمرحلة محددة من حياتي الفنية”. وعن الخطوط المغربية يقول إن لها خصوصياتها، وهي تتوافر على عناصر غير موجودة في الخطوط المشرقية الأخرى مثل: خط المبسوط وهو خط سهل التمرين والممارسة، بسيط، لا يملك قواعد صارمة جدا بل نسبية. وهناك خط المجوهر القديم المتجدد والذي أطلق عليه حميد الخربوشي اسم المجوهر الجليل؛ فهو العامل عليه الآن لما لهذا الخط من طواعية في التركيب و التصميم، وقد بعث فيه حيوية كبيرة، وأتوقع لهذا الخط ازدهاراً كبيراً و انتشاراً واسعاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©