الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أدباء سورية قبل عاصفة النار

أدباء سورية قبل عاصفة النار
25 سبتمبر 2013 20:23
لا نستطيع أن نسلك سلوك النعامة، في حياتنا العامّة، فنُطأطئَ رؤوسَنا حين تصيبنا داهية دهياءُ، أو تنزِل بنا نكبةٌ نكْباءُ. ولا نستطيع أن نتجاهل الأحداث التي تجري فننعزل عنها، وكأنّا نعيش دون إحساس، أو خارج الزمان والمكان. لا نستطيع أن نتعامَى عمّا يركُض من حولنا في هذا العالم الذي يبدو أنّه أُصيب بجُنونٍ وعُتَاهٍ، وأنّه ماضٍ إلى تقصير أجَل حياة الكون، حتماً! بل أمستْ هِوايتُه المُمتعةُ هي القتلَ، قتلَ البشر، وتخريب العمران، وإفساد الأرض، أو المساعدة على القتْل، وفي أضعف الإيمان تمجيد القتل بالقلب والوجدان! ويتمّ ذلك باسْم قِيَمٍ لا وجودَ لها في الحقيقة، أصلاً! فالديمقراطيّة ثقافة، وتعلُّم للسلوك الراقي إزاء الآخر، وتمدُّن يتَنَشَّأُ عبر أزمنة سحيقة بين الناس في مجتمع متعلّمٍ يتمتّع بحسّ حضاريّ راقٍ. هي التسليم برأي الآخر؛ هي احترام الآخر حين الاختلاف معه، وهي تمثُل في طقوس يكون أساسها الحوار المتمدّن، والمناظرة المتحضّرة، بين المختلفِين؛ وليستْ بالفساد في الأرض، ولا بالسعي إلى كرسيّ وسخٍ ملطّخ بدماء بني الجِلدة! نحن الآن في سابع عشر يونيو من سنة ألْفين واثنتيْ عشْرة. وفي كلّ يوم، منذ أكثرَ مِن سنة، نشاهد القنوات الإخباريّة، العربيّة والأجنبيّة، فلا نشاهد إلاّ دمعاً مهتوناً، ودماً مسفوحاً، وبنياناً مهدوماً، وعُثَاناً مبثوثاً، وشقاءً مقيماً، ورُعباً مَهُولاً، وفزَعاً مَخوفاً، في أرض سورية العربيّة الحبيبة، والعَدُوُّ يتشَفَّوْن في الشعب السوريّ الكريم، باسْم حبّه والإشفاق عليه، والرغبة في تحقيق سعادته!! فتحرير الأرض الوطنيّة من أيّ احتلال هو أمر مقدّس. لقد كنت أودّ لو أنّ هذه الدماء التي تراق على أرض سورية الآن، كانت أُريقتْ من أجل تحرير أرض الجولان. الدكتور عبدالملك مرتاض لقد كان على هؤلاء وأولئك سواء أن يتواجدوا معاً في معركة الجولان، ولا عليهم، بعد ذلك، أن يحكمهم أيّ شخص منهم، وليكنْ حتّى من أدناهم، فحسبه أن يحمل الجنسيّة السوريّة، وكفى! ففي نهاية الأمر أيُّ حاكم، يشبه أيّ حاكم آخر! جزءٌ عزيز من وطنكم يحتلّه الأعداءُ وأنتم تتقاتلون فيما بينكم، بدل أن تذهبوا لتحرّروه، أفلا تستَحُون؟! وأيّاً ما يكن الشأن، فإنّي، تاللّه، لأتألّم أشدّ التألّم على ضياع الشعب السوريّ العربيّ الأوّل، المتعلّم، المتحضّر، الرقيق، اللطيف، الكريم، الذي كان رمزاً للحكمة والعُروبة والرصانة والأصالة. لقد ضاع منه كلّ شيء، وتوشك الفتنة الحمراء أن تعصِف بالأخضر واليابس في حياته العامّة فيُمسي من الخاسرين الخائبين! ذلك بأنّه من المتوقّع أن لا تُفْضِيَ مثلُ هذه الفِتنِ الحمراءِ إلاّ إلى شرٍّ يتأذّى منه الناس. بل هي فتنة حمراءُ، ستُفضي إلى فتنة حمراءَ مثلِها، تفضي إلى فتنة أخرى لا تزال في الأفق تنتظر مَن يُشْعل نارها، ويؤجّج أُوارَها! والمُشْعل نيرانَ الفِتن العربيّة معروف على كلّ حال! وهي نيران لا تشبه نيران العَرْفج: سريعة الوَقْدة، سريعة الخمْدة، بل هي نيران مختلفة عنها، فهي سريعة الوقدة، بطيئة الخمدة، ولكي تُخمدَ تحتاج إلى محيطات الكون من الأمواه تُصبّ عليها صبّاً! فلا شيءَ ينشأ عن الفتنة، إذن، إلاّ الفتنة! فقد ضرّستْنا الأيّام ممّا حدَث في أقطار عربيّة أخرى، فجعلتْنا نتشاءم ولا نتفاءل، ونحاذر ولا نطمئنّ، ونظُنّ شرّاً ولا نرجو خيْراً، ولا ننتظر، من وراء ذلك، خَبَراً، ولا خُبْراً! فيا حُزني عليك يا سورية الحبيبة وما أُلْتِ إليه!... ويا عجبي من أهلكِ الذين لم يتفطّنوا إلى أنّهم إنما يدمّرون وطنهم بأنفسهم! وإنّي لا أتألّم لسورية وحدَها، بل أتألّم لأيّ قطر عربيّ تغتاله الفتنة الحمراء، ما كان منها وما سيكون! وما خفِيَ وبقِي، قد يكون أجلَّ وأعظم، وأبشع وأشنع! الزيارة الأولى ونعود الآن إلى سيرة الأدب والأدباء حيث تعود صلتي بالأدباء السوريّين، وبجامعيِّيهم خصوصاً إلى سنة 1968 حين قبِل الإشراف على أوّل أطروحة هيّأْتها، وتُناقَشُ في جامعة الجزائر، على عهد الاستقلال، أستاذي الجليل، المرحوم، العلاّمة الدكتور إحسان النص، وممّن شارك في تلك المناقشة العلنيّة أستاذ سوريّ آخرُ هو العلاّمة الدكتور شكري فيصل. ويبدو أنّي زرت دمشق، لأوّل مرّة، سنة 1981 في وفدٍ كبير من وزارة التعليم العالي. وقد وقع بنا ترحيب واحتفاء منقطعا النظيرِ لم نتلقَّهما في أيّ بلدٍ عربيّ آخرَ، زرناه، ما عدا العراقَ. فقد أُنزِلْنا مُنزَلاً حسَناً، وتكفّل الشعبُ السوريّ، ممثّلاً في حكومته، بدفع كلّ نفقات الإقامة بتفاصيلها! ما أكرمَكم أيُّهَ السوريّون، على قلّة ذات اليد! وقد أقام على شرف الوفد الجامعيّ الجزائريّ رئيسُ جامعة دمشق، وكان درّس في جامعة الجزائر قبل ذلك أستاذاً وافداً، مأدبة عشاء فاخرة. كما فاجأني أستاذي الدكتور إحسان النّصّ، رحمه الله، فلم أشعر إلاّ وهو يحتضنني كابْنِه في النزل الدوليّ الذي كنّا نقيم فيه بدمشق، فكان ذلك الموقف مدعاة للتأثّر الشديد، وقد رأيت عينيْه تغرورقان بالدموع فاغرورقت عينايَ أيضاً لذلك، وقد كنت ساعدْته حين كان أستاذاً بجامعة الجزائر، وأراد السفر إلى أسبانيا، في صيف سنة 1968، بسيّارته الشخصيّة عن طريق ميناء وهران، بما استطعتُ. كما توطّدت العَلاقة (بفتْح العين، لأنّها بكسرها تعني شيئاً آخر) بيني وبين الدكتور محمود الربداويّ، وقد قبِل الإشرافَ على أطروحة دكتوراه الدولة في الآداب حين تعذّر عليّ مناقشتُها بالمغرب الشقيق، ولا أزال محتفظاً برسالة أرسَلها إليّ من دمشق يقبَل الإشراف فيها على أطروحتي حين استحالتْ مناقشتها بجامعتي الأولى، جامعة محمدٍ الخامس بالرباط. ذلك بأنّي أردت تحويل تسجيلي من جامعة الرباط، لأسباب ليس لي ولا للجامعة ولا للأستاذ المشرف أيضاً فيها ناقة ولا جمَل، إلى أيّ جامعة عربيّة عريقة أخرى، مثل جامعة القاهرة، أو دمشق، أو بغداد. وقد عيّن لي مجلس كلية آداب عين شمس، بسعْي من الصديق الدكتور منصور، أخي الدكتورة عائشة بنت الشاطئ، الدكتور عبد المنعم إسماعيل للإشراف عليّ... ثمّ بدا لي من بعد ذلك أن أتوجّه شطر أوروبا، لأنّ العَلاقات العربيّة، هي أبداً على كفّ عفريت كما يقال، ويمكن أن تسوء في أيّ لحظة، ولأنّ القادة العرب أمسَوْا دون أحلام، فإنّ العَلاقات تُقطعُ بينهم لأوْهى الأسباب ولا يحزَنون لذلك ولا يبالون بمصالح شعوبهم ولا معاناتهم، في حين أنّه يستحيل قطْعُ العَلاقة مع فرنسا أو أمريكا مثَلاً، ولذلك يمّمْت شطْرَ السوربون بباريس، وغيّرت اللغة، وخرجت من جِلْدي الأصليّ، واسترحت، ولو بعد معاناةٍ ومكابدة تنقضّ لهما الأطواد! وحين عقدْنا أوّل مؤتمرٍ للأدب الجزائريّ بجامعة وهران، دعوناه فحضر بيننا، وقدّم محاضرة في الموضوع، بعد أن كان ربط علاقةَ صداقةٍ مع أسرة الشهيد أحمد رضا حوحو، فمكّنتْه من كلّ آثاره الأدبيّة، ومنها ثماني عشرة مسرحيّةً... وزرت يوماً دمشق، فعلِم الدكتور الربداوي بِمَقْدَمي إليها، بعد أن كان أقام لدينا في الجزائر أستاذاً جامعيّاً مرموقاً، فزارني في إقامتي، ثمّ دعاني إلى أحدِ أفخم مطاعم ضواحي دمشق. كما التقَيْنا، من بعد ذلك، في الرياض، وقد كان أستاذاً بها، وسهِرْنا معاً غيرَ مرّة في فندق “قصر الرياض”، ثمّ كان آخر العهد به. مؤتمر النقد ومن أصدقائي السوريّين، من الأدباء والنقّاد، الدكتور كمال أبو ديب الذي عرفْته، أوّلَ مرّةٍ، في شهر ديسمبر من سنة 1986 على هامش “مؤتمر النقد العربيّ المعاصر”، الذي انعقد بجامعة صنعاء. وهو المؤتمر الذي لا يكبُرُها إلاّ مؤتمر جدّة العجيب!... وبعد اختلاف فكريّ وقع بيننا في الندوة، استحال ذلك الخلاف إلى صداقة حميمة، ومودّة عميقة. وازدادت العلاقة وثوقاً بيننا حين استقدمه الدكتور عبد العزيز المقالح ليكون أستاذاً مقيماً في جامعة صنعاء، وأحسبه ظلّ هناك قريباً من أربعة مواسم. فكنت كلّما زرت صنعاء التقينا، وتحادثنا، وتسامرْنا، ولم يأتِ كمال بزوجه معه إلى صنعاء، فكان بها عزَباً، وهو أمر كان ييسّر لقاءاتنا وسهراتنا. وقد كنّا نحضر معاً مجلس تخزين القاتِ الذي يُعقد في صنعاء يوميّاً، وبحضور عبد العزيز المقالح. وكان كمال قد هضم ثقافة اليمنيّين، فكان “يُخَزِّن” مثلهم، أو أكثر منهم تخزيناً! وكان كمال لا يرعوي أن يدخّن، أثناءَ ذلك، كثيراً. في حين كنت أنا آخذ غُصناً لَدْنا من القات، يُلقيه إليّ الدكتور عبد العزيز المقالح، ثمّ أداعب به شفتيَّ أو ألاعب به أصابعي، طَوال المجلس، دون أن أمضغه أبداً. وقد قال عن ذلك الدكتور عبد العزيز، يوماً ما معناه: ـ ما كان أجدرَنا بأن نأتِيَ مثل ما يأتي الدكتور عبد الملك، فلا نمضغ هذه النّبتة!... وقد دعاني صديقي كمال أبو ديب يوماً إلى عشاء في أحدِ مطاعم صنعاء الفخمة، وذهبت إلى بيته قبل أن يأخذني في سيّارته إلى المطعم، فقرأ لي شيئاً من الكلام الجميل الذي كان بصدد كتابته في مسألة تنظيريّة، ولكنّها لمّا تكنْ قد تناسقت وتبلورت في ذهنه، فقال لي: ـ انظر يا عبد الملك! إنّي بصدد تأسيس نظريّة نقديّة! شايف كيف! يعني أنا أريد أن أتوصّلَ إلى شيء لم أُسبَقْ إليه، شايف! (وكان يستعمل إشارات بكلتا يديْه، ويردّد لفظة “شايف”، و”شايف كيف”...). وهذا هو فحوى الكلام العامّ الذي قاله لي في تلك الأمسيّة، ولم أفهَم عنه ما ذا كان يريد؟ ولا إلامَ كان يقصد؟ ولا أعتقد أنّه هو أيضاً كان قد فهِم، بعدُ ما كان يريد إليه! ولكنّه كان بصدد تأسيس مسألة نقديّة فكانت لمّا تتبلورْ في ذهنه، فكان بها مهوَّساً... وعلى أنّ كمال أبو ديب ليس مُحتاجاً منّا إلى أن نقوّمه فنقول: إنّه، مثلاً، أحدُ أكبر النقّاد العرب المعاصرين، فهو، فعلاً وحقّاً، كذلك، وليست كذلك هنا بالمعنى المعجميّ القديم!... وقد تحادثْنا يوماً حين كنّا بندوة جدّة، وقد طلب إليّ أن أتوسّط له في قضيّة إداريّة لأخيه الذي كان أستاذاً بجامعة مستغانم بالجزائر، فانتهى حديثنا إلى ذِكْر الشاعر مفدي زكرياء، فتساءل: ـ من هو هذا الشاعر؟ إنّي لا أعرفه! وكذلك شأن الأدباء المشارقة بالقياس إلى الأدباء المغاربة، فهم كثيراً ما يقصّرون في حقّهم، وقد يتعمّدون ذلك بعدم عنايتهم بهم، على نقيض ما يأتي المغاربة... وعلى أنّ هذه مسألة ذات ذيل طويل، وهي قديمة، وقد كتبْنا فيها كثيراً. ويبدو أنّها ستظلّ قائمةً إلى يوم القيامة!... زيارة استجمام وقد قصدت، يوماً، دمشقَ في عطلة خاصّة للاستجمام، ولكنّ الإخوة السوريّين في اتّحاد الكتّاب علِموا بمُقامي بدمشق، وكنت أقيم ببيت صديق سوريّ بحيّ الصالحيّة الأنيق (كما عرفناه قبل الأحداث المدمّرة على الأقلّ)، فأرسلوا إليّ الصديق الدكتور عبد الله أبو هيف ليأخذني إلى فندق لائق لأقيم فيه على نفقة الاتحاد... ثمّ طلبوا إليّ أن أقدّم محاضرة في مقرّ اتحاد الكتّاب والأدباء العرب الذي كان يرأسه الصديق الدكتور عليّ عقلة عرسان، ففعلت. وأذكر أنّ موضوعها كان يجري عن الحداثة والتراث. وحضرها شيوخ من الجامعيّين والكتّاب في دمشق يومئذ مثل الصديق المرحوم الدكتور جودت الركابيّ، والشاعر المرحوم محي الدين البرادعي، ولم يكونوا يزيدون عن عشرين، ولذلك بوّأني الدكتور علي عقلة عرسان كرسيّ مكتبه فجلست فيه، ومنه ألقيت محاضرتي ارتجالاً أمام أولئك الشيوخ الأجلّة. ثمّ أُقِيمت حفلات ومآدبُ على شرفي، دُعِي إليها، مِن بين مَن دُعِي، يومئذ، الشاعر الدكتور خالد محي الدين البرادعي، وطائفة من الكتّاب والإعلاميّين منهم الدكتور عبد الله أبو هيف. وجعل الاتحاد رهْن إشارتي سيّارة بسائقها لتنقلني حيث أشاء من سورية فازْدَرْت كثيراً من معالمها التاريخيّة، منها مدينة بصرى الأثريّة. وفي إحدى زياراتي الأخرى لدمشق، طلب إليّ شبابٌ من أدباء دمشق، أن أقِيم أمسية أدبيّة فأقرأ لهم شيئاً من آخر ما كنت كتبت، فقرأت لهم قصّة “الخَمّاس”، وقد كتبتْ عنها الصحافة الدمشقيّة. ومن أصدقائي الذين أعتزّ بصداقتهم كثيراً الدكتور عبد الله أبو هيف الذي كتب عنّي، غيرَ مرّةٍ، وهو من الأدباء العرب القلائل الذين كتبوا عنّي، لأنّ كثيراً منهم، وقد خابرتهم وخالجْتُهم، يريدون أن يُكتبَ عنهم، وهم لا يكتبون عن غيرهم! وقد كان أرسلَ إليّ أسئلة عن الحداثة النقديّة، أو النقد الحداثي، لينشرَها في زاوية: “وجْهاً لوجه”، وهي الزاوية التي تحرص على نشْر مقابلاتٍ فيها بين أدباءَ عربٍ مجلّةُ «العربيّ» الكويتيّة. ثمّ زرت دمشق يوماً، فحرص على استضافتي اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وقد دُعِيتُ لإلقاء محاضرة في قاعة الحفلات لجامعة دمشق عن الأدب الجزائري، كانت غاصّة بجمهور الأساتذة والطّلاّب، وقلَّما رأيت جمهوراً يحضر في محاضرة أُلقيها، في مستوى ذلك العدد الذي كان غفيراً جدّاً، وتلك سيرة تدلّ على الروح الثقافيّة التي يتمتّع بها الشعب العربيّ السوريّ الشقيق الأصيل الذي نرجو له النجاة من نكبته، والخروج من محنته، فما عرفْنا الشعب السوريّ يقتل نفسَه عبْر التاريخ الطويل، فكيف فعل ذلك الآن، وبِأَخَرَةٍ من الزمان؟ أم لم يكن ذلك إلاّ من تدبير الأعداء؟!... وقد أخذني عبد الله أبو هيف بسيّارته في مساء ذلك اليوم الذي ألقيت فيه محاضرتي بجامعة دمشق، وتنقّل بي بين أحياء دمشق وشوارعها، ثمّ أخذني إلى نادٍ يرتاده الإعلاميّون والأدباءُ فتعشّينا فيه. وقد فاجأني بأمرٍ لم أفهمْه إلى اليوم، وهو أنّا حين مُنْصَرَفِنا من النادي الذي تعشّينا فيه، وكانت الساعة تشير إلى منتصف الليل تقريباً، قال لي: ـ تمَنَّ عليّ كائناً ما كان في دمشق، فإنّي أنفّذه لك!... واعتقدتُ، في بداية الأمر، أنّ الصديق الدكتور عبد اللّه كان يمزح ويبدي مبالغة في الاحتفاء، ولكنّه كرّر الطلب في لهجة جادّة وصارمة، فبدأت أُبدي التحرّج، وأنّي مكرَّم، ولست محتاجاً إلى أيّ شيءٍ، في عاصمة الأُمويّين... لكنّ الصديق عبد الله أبو هيف، وكان أستاذٌ جامعيّ جزائريّ صديق يرافقني في سفرتي تِيكَ، حاضراً في هذا المشهد، ازداد إلحاحاً في إبداء الرغبة، وازددت أنا زهداً في تحصيلها... وانتهى المشهد على ذلك. ومن أصدقائي السوريّين من الأدباء عليّ عقلة عرسان الذي لا أذكر متى عرفته، على وجه اليقين، أوّلَ مرّة، ولكن كان ذلك في مطالع الأعوام الثمانين من القرن الماضي؛ وذلك حين كنت أنا الأمين العامّ المساعد لاتحاد الكتّاب والصحفيين والمترجمين الجزائريّين، فقد كانت العلاقة وطيدة جدّاً بين اتّحادنا، واتّحاد الأدباء العرب في سورية، حتّى قبل أن يرأس علي عقلة عرسان الاتّحاد العامّ للكتاب والأدباء العرب، ويصبح مقرّه الرسمي بدمشق، بعد أن كان ببغداد، وقبل أن يموتَ، هذا الاتحاد، بحمد الله تعالى، فيُشيَّع إلى مثواه الأخير، ليحلّ محلّه الأحقاد والدماء والنار والدخان والفساد والخراب! كذلك أصبح شأنُ العالم العربيّ الممزَّق، كلّ مُمَزَّقٍ! وإن لم يمت هذا الاتحاد بالقوّة إلى اليوم، فهو مات بالفعل! فلا أملَ في إحياء العِظام وهي رميم! كنّا نلتقي في كلّ الفعاليّات الأدبيّة والتنظيميّة التي كان الاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب يمارسها على مدار شهور العام. كان يأتينا إلى الجزائر، وكنّا نذهب إليه إلى دمشق. وقد ازدادت تلك العلاقة توطُّداً حين تقرّر أن يُنظِّمَ اتّحاد الكتاب والصحفيّين والمترجمين الجزائريّين أسبوعاً أدبيّاً بسورية شمل ثلاثَ مدُنٍ هي دمشق وحلب وحماة؛ فقمنا بتقديم محاضرات ومعارض للكِتاب الجزائريّ، كما أنشد الشعراء الجزائريّون -والشاعرات أيضاً- أشعاراً من قصائدهم في تلك الفعالية التي لن تتكرّر أبداً! ولْيكذّبْني التاريخ الأبلَه إن استطاع بعد أن أموت! فقد تمزّق حبْل العرب، فيما يبدو، أُخْرَى الليالي! أو قل: إنّهم مِن رعونتهم ونقْص وعْيهم السياسيّ والتاريخيّ والحضاريّ والوجودي، هم الذين عمَدوا إلى تمزيق حبْلهم، فدمّروا أنفسَهم تدميراً ذاتيّاً متعمَّداً! دارت الأيّام، فكنّا لا نزال نلتقي هنا، وهناك، وقد أهداني، أثناء ذلك، كتابه: “الظواهر المسرحيّة عند العرب”. ثمّ كنّا ننشط معاً في مؤسسة الفكر العربيّ ببيروت، حين عُيِّنّا عُضويْن في مجلس إدارتها، فبينما كنت أنا أقطع قريباً من ثمانية آلاف كيلو متر، ذهاباً وإياباً، لأحضر في اجتماعات تلك المؤسسة الدَّوريّة، كان هو يتنقّل من دمشق إلى بيروت بسيّارته صباحاً ويعود مساء، فكنت أغبطه على ذلك. ثم وقع تعيينُنا، أنا وهو، في وقت واحد، عضوين مراسلين في مجمع اللغة العربيّة بدمشق. وزار الجزائر يوماً حين كنت رئيساً للمجلس الأعلى للغة العربيّة، فدعوته إلى مكتبي، وكرَّمته بأن أهديته كلّ منشورات المجلس، مع بُرنُس جزائريّ فاخر، وحمَلتُه في سيّارتي الرسميّة التي أجاءتْه من إقامته، وأذهبتْه إليها. وكنت، قبل ذلك، أحُلُّ ضيفاً على اتحاد الكتّاب العرب بدمشق كلّما يمّمْتُها، وذلك حين كنت أعود من صنعاء، مثلاً، في طريقي إلى الجزائر، فكان الإخوة الكتّاب يستقبلونني في المطار، ويأخذونني إلى فندق نظيف، ويُجْرُون معي، أثناء ذلك، بعض الأحاديث واللقاءات الأدبيّة لجريدة الاتحاد الأسبوعيّة. ومنهم الناقد الذكيّ الأستاذ الدكتور وهب أحمد روميّة الذي عرفْته في صنعاء، وقد عشنا أيّاماً في غاية المرَح والأنس بفندق سبأ، وقد تحدّثت عن كثير من ذلك في فصلٍ من هذه الكتابات الذكرياتيّة. حوارات وحكايات ومن أصدقائي المرحوم الشاعر خالد محي الدين البراذعي الذي بعد لقاءاتنا بدمشق، حضر معنا أحَدَ مهرجانات عكاظيّة الجزائر للشعر العربي، بالجزائر العاصمة، وقد أهداني مجموعة من كتبه ودواوينه في تلك الزيارة. كما كاتبني، قبل أن يتوفّاه الله، مرّتين اثنتين، على الأقلّ، من دمشق، بشأن كتاب لي، كان ينتوي الإشراف على نشْره باتحاد الكتاب العرب بدمشق... ومنهم الشاعر الكبير الأستاذ شوقي بغدادي الذي التقيت به في الجزائر والكويت والرياض. ولكنّ اللقاء الحقيقيّ الذي أفضى إلى أن نعيش معاً أياماً لا تقلّ عن أسبوع، كان في مدينة الرياض. وقد سهِرْنا ليلةً في غرفته بالنزل إلى ما بعد منتصف الليل، فحدّثني عن شؤون كثيرة من الأدب السوريّ ورجالاته، وقد حدّثني حديثاً عجيباً لا يمكن نشْره عن الشاعر نزار قبّاني الذي كان يعايشه منذ الصبا، فكان هو وصحْبه يذهبون معه إلى أماكن معيّنة يرتادها الشباب... ومنها الذهاب إلى الشاطئ في فصل الصيف... ومنهم الشاعر الدكتور عبد اللطيف الأرنؤوط الذي كنّا نلتقي ونتحادث ونتسامر كلّما زرت دمشق حيث دعاني يوماً إلى بيته الواقع في قلب المدينة، وهو شخصيّة مرحة جدّاً يؤنسك بحديثه، ويسرّك بابتسامته. كما التقينا بمدينة الرياض عدّة مرّات. وقد تهادَيْنا كتبنا. وكان هو مرافق الوفد الأدبيّ حين أقام اتحاد الكتّاب الجزائريّين أسبوعاً ثقافيّاً بسورية. وقد كان يحدّثني بأشياء عجيبة، وقعتْ له في عهد الشباب، قلّ أن تتّفق لأحدٍ من الناس! كما كان يحكي لي مدى التقدير الذي يلقاه حين كان يزور موطن أجداده الأصليّ، ألبانيا. بل اختصّني الصديق عبد اللطيف الأرنؤوط بقصيدة شيطانيّة، مخطوطة، لا يجوز نشرها بين الناس! ولمّا نظّم اتحاد الكتّاب الجزائريّين أسبوعاً ثقافيّاً بسورية، وانتقلْنا إلى حلب الشهباء حيث قضّينا ليلتين: أنشدْنا الشعر، وألقينا المحاضرات... كان صديقي عبد اللطيف يرافقني في السيّارة التي خُصِّصتْ لي، وكنّا لا نزال نسخر، كالأطفال، من شاعر كان يرتدي ملابس طويلة غريبة، يختال بها في مشيته، فأطلق عليه “الطاؤوس”. وكان يُشبع نطق الواو فيمُطّ صوتها مطّاً بصوته الصّحِلِ الجميل!... ومنهم الدكتور عبد النبي اصطيف الذي زارنا بجامعة وهران، كما زارني في بيتي، مع طائفة من الأصدقاء الأدباء. ومنهم الدكتور إبراهيم الجراديّ الشاعر والإعلاميّ والجامعيّ المرموق. تلقّى دراسته بدمشق وموسكو. تعرّفْته، كدأبي، في صنعاءَ حين كنت أتردّد عليها مرتين اثنتين، على الأقل، في السنة، وكان، هو، أستاذاً وافداً بجامعتها. فكنّا نقضّي مَشَيَاتٍ كلّما دخلْنا في العَتَمة، (ولا أقصد، هنا، بالعتمة، عتمة الشاعر العربيّ القديم الخبيث الذي قال من أبيات شيطانيّة: لمّا تمشّيتُ بُعيد العتمة سمعت من تحت السطوح كَدَمَة! والكدمة لمن لا يعرفها من القراء الكرام ليست هنا بمعنى التعضّض الذي يقع للاعب كرة القدم من احتكاك عنيف بلاعب آخر في الملعب، وهي مستعملة لدى المعلّقين على مقابلات كرة القدم استعمالاً صحيحاً فصيحاً، وقلّما يَفصُحون! ولكنّها الحركة، ويقصد بها المريبة بالذات في هذا الشعر!) أقول: كنّا نمشي، عتمةً، في مناكب دُور الضيافة للأساتذة الجامعيّين بصنعاء، كما كنّا نلتقي في مجالس عبد العزيز المقالح التي كانت تعقد فيها ندوات ثقافيّة وأدبيّة يُسهم فيها أدباء ومفكّرون من بضعة أقطار عربيّة، وخصوصاً في مجلس يوم الاثنين الذي كان ينعقد بقاعة من قاعات مركز الدراسات اليمنيّ، فقد لاحظت أنّه كان يشارك في المناقشة بفكر نقيّ ثاقب. وأوّل مرّة ارتبطتْ علاقتنا الأدبيّة، حين راسلني سنة 1984، فيما أحسب، يطلب إليّ أن أكتب شيئاً عن شعر عبد العزيز المقالح، إذ تقرّر نشْر كتاب عن شعريّته، فكتبت تحليلاً للصورة الفنّية في قصيدة “أشجان يمانية” (كان ذلك بداية لكتابةِ ثنائيّةٍ نقديّة صدرتْ في مجلّدين اثنين عن هذه القصيدة العجيبة، ببيروت)، ثمّ أرْسلْتُه إليه بالبريد التقليديّ يومئذ، ليَنشُرَه مع مجموعة كتاباتٍ أخرى، لكتّاب آخرين، في كتاب عنوانه: “الحداثة المتوازنة”. غير أنّ علاقة الصداقة ازدادتْ توطُّداً بيننا فكان لا يزال يأتيني كلّ مساء إلى النزل الذي كنت أقيم فيه، فنسهر، فنتحدّث في السياسة، والشعر، والنقد، وأمور أخرى... ومن توطُّد هذه العلاقة الحميمة بيننا صار يدعوني إلى بيته، ثمّ إلى مائدة طعامه مع أهله: زوجه وبنتيْه. وكان قبل أن ترتفع الكلفة من علاقتنا، ضيّفني يوماً، فبالغ في الإكرام والاحتفاء، وتناولْنا الغداء: هو وأنا وزوجه وبنتاه. ثمّ كنت أضيق ذرعاً بالوحدة، فكنت أكاد أذهب إلى بيته كلّ مساء، وهنالك أتناول طعام العشاء مع شباب من أصدقائه، ومن عجبٍ أنّ ذلك كان يتكرّر كلّ مساء تقريباً! ومنهم حسام الخطيب الذي كان أستاذ إبراهيم الجراديّ في جامعة دمشق، فكان ذلك يوسّع من بعض معرفتي بخفايا الرجال. كما كان يحدّثني كثيراً عن ذكريات الشباب التي قضّاها مع طلاّب من الجنسيّات المختلفة، من كوبا إلى الكونغو، في موسكو، حين كان طالباً بإحدى جامعاتها. وفي إحدى زياراتي صنعاء، أجرى معي لقاءً أدبيّاً مطوّلاً معمّقاً مستفزّاً، أيضاً، نُشر في مجلة الثقافة الصنعانيّة، لم يُجْرَ معي لقاءٌ أدبيّ مثلُه، إلاّ ما يكون من حوار الصديق التونسيّ كمال الرياحي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©