الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر من سِلال الحياة

29 يناير 2014 21:55
يؤسس الشعر الجديد لفضاءات جديدة. يبتكر ويقترح مضامين وأشكالاً لم تكن مطروحة من قبل. يلتقط اليومي وتلك التفاصيل التي لا تكاد ترى ولا يُتوقع أن تكون مادة للنص ليصنع منها رؤية مختلفة. ظل ذلك هاجساً لدى شعراء اليوم خصوصاً، وهم ينفتحون على عوالم تساهم في خلق تلك الفضاءات، التي تحولت إلى معاش تُزاول فيه الحياة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإبداعي وغيرها. يكتبون عن همومهم ويتقاطعون مع ما يحدث في عالمهم، موظفين هذه المعطيات وفق تصورهم الحديث للفن، وبالتالي ينتجُ النص الذي يلامس واقعهم، ولو كان ذلك الواقع الفردي الذاتي والخاص جداً لينطلق منه نحو العالم، ونحو الانقلاب على القالب أو الشكل المتعارف عليه. من هناك ولدت كل ثورات الفن الحديث عموما، باعتبار الشعر ضمن دائرة الفن. إحدى هذه التجارب مجموعة شعرية صدرت مؤخراً للشاعر عصام أبوزيد تحت عنوان: «كيف تصنع كتابا يحقق أعلى مبيعات؟» كُتب على غلاف المجموعة على شكل خدعة بصرية تشير ضمنيا إلى مواجهة تسليع الثقافة والأدب، وتسخر من المضامين والكتب التي تحاول الترويج لنفسها عبر وسائط أخرى مستلة من الاقتصادي واللغة التجارية ولغة السوق؛ فهذه العبارة تؤشر على دعاية توجه دائماً نحو المستهلك حتى وصلت إلى الكتب والمعرفة، ولكن أية جهة أخذنا إليها أبوزيد بعد ذلك؟ القصيدة التي وجدت في مكنونات الطفولة والنوستالجيا والذاكرة أمكنة ومادة رحبة لها، خصوصاً عندما يصطاد الشاعر مفارقة ما في ثنايا الحكايات المسربة عبر النصوص، قصائد مثل: (أحمد حامد، نزهة خارج السينما، تسعينيات، بيت، خلاء، صديقي الفاخر، عبدالقادر، بذور، صباح) وغيرها من النصوص، التي قد ينطلق الشاعر فيها من ذلك المخبوء والذاتي والشخصي ولكن سرعان ما ينكشف النص أمامنا بمفارقات مدهشة وظريفة. في نص تحت عنوان «بيت» يقول: على مدرجات الجبل الهابط كالسلالم أقمنا خمس سنوات في البيت الذي يشبه بيضة يضغط الصبح عليها بأصابعه فتتفجر.. وليست هذه العوالم هي الوحيدة؛ فالشاعر كذلك مُغرم باللغة السريالية ــ مع أنها لغة لم تعد تستهوي كتاب هذه القصيدة خاصة ــ لكنها محفزة لاكتشاف النص وهو يكتب عن الأشياء القريبة منه بشكل غير مباشر، في نص تحت عنوان «ورقة» ــ مثلا ــ يتحدث الشاعر أبوزيد عن حديقة تحترق وحيوان وزهور وفضاء وعبارة مثل: «ونزل جسدي من الفضاء لينقذ الزهور»، وهو توظيف وصناعة لأسطورة للوصول إلى فكرة تشبه الخلاص، وهو ما سنلاحظه في نصوص أخرى مثل: (البحيرة، ناس، فواكه، ضباب، سجين، اللعبة، ونص رائع عنوانه حيث كنا). ثمة أمكنة أخرى يأخذنا إليها أبوزيد. قصائد تطرح ضمنياً أسئلة عن الحياة والمعاش متخذاً أسلوباً سردياً ومعنى خاطفاً ليتركنا في فسحة مع تأملاتنا وتصوراتنا، وما تفضي إليه هذه العوالم. في نص تحت عنوان «حصان» يقول: «جاعت الفتاة في القطار فأكلت حصان الحلوى ولما سألها الفارس أين هو حصاني؟! عانقته». ومع أن القطار ليس سوى مكان يقترحه الشاعر ليخرج الصورة بصرياً بشكل يرتئي أنه ملائم، وقد يمكن بغيره حيث لا دلالة حيوية على المكان/القطار بحد ذاته، إلا أن المعنى والسؤال الذي يطرحه النص يأخذنا إلى لقطة نادرة وجميلة وقليلة في أدبيات الشعر العربي، مثل هذا النص الذي يستند على المفارقة الفلسفية والحياتية والمعاش يتناثر في أرجاء المجموعة مصوراً رحلة من الاغتراب والحنين، ومزيج الذكريات والقضايا التي تشغل شاعر اليوم، بل وحياة أبوزيد التي كأنما نشاهد مقاطع منها وتذكرني بمقولة للماغوط: «أحاولُ أن أكون شاعراً في القصيدة وخارجها، لأن الشعر موقفٌ من الحياة، وإحساسٌ ينسابُ في سلوكنا». هناك نصوص لأبي زيد تحت عناوين: «حرية» و«حدود» و«نجوم» و«حياتي» و«بنزين» و«نحن أيضا نحبها» تتكئ على هذا المعاش، وتبحث خلاله المفارقات التي بدورها تقودنا لدهشة الكتابة. وكما هي لغة أبوزيد بين تلك السريالية والواقعية والعبارات التي تملك حساً فنتازياً وكوميدياً وساخراً بشكل لاذع ينبهنا نحو ما لا ننتبه له عادة، مبتكراً وتاركاً بصمة جميلة تدل عليه، وهذا ما أطلق عليه «شجاعة أن نذهب إلى الشعر بخفة ودون مخاوف»، نقرأ هنا: «مات أبوك دون أن يراني وكان في صورة الحائط أرنب يجري». وفي مقطع آخر من نفس النص: «بلا جسارة يدخل الشتاء علينا، تخرج نملة من جيب القميص، وتسير أمي في نومها.. تضحك». وفي نص آخر تحت عنوان «ثأر»: «يترنح من الغرفة إلى الصالون ممسكا بالبندقية قلبي». هذه الصفقة الإنسانية الرابحة ذات العنوان المثير والجديد ينهيها أبوزيد بنص يحمل اسمه: وهو نص الشعراء الأخطر حينما يحاولون ترك صورة شخصية عبر فضاء الكلمات، يقول في ذلك النص الذي نأخذه معنا كبطاقة تعريف شخصية: «لقد كنت أمزح معك، أنا عصام أبوزيد ثم إنني لا أصدق أنهم قتلوه، انحرف القطار وانفجر الرأس، العقل ظل يتأرجح، نمت شجرة تطرح كمثرى لا أحبها، أنا أحب عصام أبوزيد». الغموض في بعض نصوص هذه المجوعة ليس ذلك المبهم الذي قد يلوح للقارئ لأول وهلة، بل هو النص الذي يحتاج لذهن مستعد لتغيير قناعاته وأفكاره عن ثبات طقوس الشعر وعوالمه، يذكرني ذلك بمقولة كارل ساندبرج: «لا يوجد شيء غامض في الشعر إنه مخطوطة شبحية تحكي كيف يتكون قوس قزح وكيف يختفي». ----------- عنوان الكتاب: كيف تصنع كتابا يحقق أعلى؟ المؤلف: عصام أبوزيد الناشر: روافد للنشر والتوزيع سنة النشر: 2013
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©