الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموسيقى لخير البشرية

الموسيقى لخير البشرية
29 يناير 2014 21:46
اختار قائد أوركسترا سيمون بوليفار السيمفونية الشاب غوستافو دوداميل أنْ يبدأ أمسيته الموسيقية من نقطة عالية وصعبة في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية من القرن التاسع عشر في أوج عطاء المرحلة الرومانسية من هذا التاريخ، فكانت “العاصفة” لبيتر إيلييتش شايكوفسكي التي تمّ تأسيسها على الأبعاد الدرامية الحارّة لمسرحية الإنجليزي شكسبير التي تحمل العنوان نفسه، ليفتتح بها، استباقيا، مهرجان أبوظبي للثقافة والفنون لدورته الحادية عشرة: “روح الدار إبداع وابتكار” التي تنطلق رسميا مساء الثاني من مارس المقبل. أبوظبي (الاتحاد) - هذه السيمفونية ذائعة الصيت قدمّتها أوركسترا سيمون بوليفار دون بيانو، الأمر الذي يشكّل تحديا صعبا ومن نوع آخر، وبرهان على مهارات فردية وجماعية شارك في أدائها ما مجموعه ستة وتسعون عازفا: أحد عشر عازفا على الفلوت، وثمانية على آلة الأوبو (المزمار)، وعازف على البوق الإنجليزي، وستة على الكلارنيت، وعازف بوق إنجليزي، وعازف باص كلارنيت، وعشرة عازفين على البوق المزدوج، وسبعة عشر عازفا على الترومبيت، وعشرة عازفين على الترومبون، وأربعة عازفين على الباص ترومبون، وسبعة عازفين على التوبا، واثني عشر عازفا على الطبول، وثلاثة عازفين على القيثارة الكلاسيكية، وعازف أرغون واحد. عاصفة حقيقية والحال أن المرء، إذ يصغي إلى هذه الموسيقى التي قدمتها الأوركسترا، ليس لزاما عليه أن يكون قارئا النص في متنه الأصلي الشكسبيري ليدرك أنه أمام عاصفة بالفعل. لقد انطوت الموسيقى على فعل درامي عميق بدأ هادئا فأدخل المرء في تفاصيل موسيقية خالصة تتلاعب بمشاعر التلقي الموسيقي وتوجهُها إلى جهة بعينها كلما اشتد الإيقاع وتسارع نبضه ليهدأ فجأة ثانية، فتصير الموسيقى مزيج أفكار ومشاعر مثلما تضع هذه المشاعر في الوقت ذاته المتلقي في حالة ترقّب لما ستأتي به الموسيقى لاحقا، والذي سيكون صارخا وصاخبا، فتحتدم المشاعر إذ تحتدم الموسيقى، في دفق حارّ، يأخذ قائد الأوركسترا وكل عازف بمفرده والمتلقي أيضاً إلى عين تلك العاصفة. والعاصفة، التي عرفت في تاريخ الموسيقى باسم تشايكوفسكي وليس باسم شكسبير، هي بالفعل رسم للعاصفة بالموسيقى، حيث تجلت الموهبة الرفيعة لـ غوستافو دوداميل، الذي احتفى بعيد ميلاده الرابع والأربعين في أبوظبي الأحد الماضي، في طريقة التوزيع الموسيقي وخلق تداخل هارموني بمنأى عن الفعل الهارموني المكتمل للبيانو وما ينطوي عليه فعله الموسيقي من درامية عالية، ليخلق “عاصفة” تشايكوفسكي من جديد على خشبة مسرح قصر الإمارات بآلات وترية ونفخية فحسب. وبالفعل، يصغي المرء إلى أصوات ارتطام الماء بالماء مثلما بجدران سفينة فيجعلها الموج العاتي تترنح، هو الطالع من عنف الموسيقى والذي يبدأ بعد ذلك بالتلاشي شيئا فشيئا ليعود التداخل الهارموني رائقا وصافيا كسطح بحر في يوم مشمس، مع الآلات الوترية وما تمنحه من لمسة حزن شفيف تؤكده الآلات النفخية التي يأتي منها الصوت أقل من الصمت وأعلى من الهمس بقليل. والجملة الموسيقية في هذه السيمفونية، في نصها الأصلي لدى مبدعها الأول – أي في النوتة الموسيقية – هي جملة موسيقية مركبة وليست سهلة مثلما تبدو للمستمع الناظر إلى أوركسترا سيمون بوليفار السيمفونية، إلى حد أن المرء يشعر بسلاسة الموسيقى وكم هي هيّنة على مزاج التلقي وفهمه، مثلما يشعر أن تشايكوفسكي كان يؤلف موسيقى تصويرية لفيلم سينمائي يحمل عنوان “العاصفة” ويعيشه حلما سوف يتحقق في المقبل من الأيام، وهو ما فعلته الأوركسترا أمام جمهور غصت به القاعة وكان في أغلبه من الأجانب المقيمين في الدولة، ومن جنسيات مختلفة. هي جملة موسيقية من السهل الممتنع التي تواجه مشاعر المتلقي مباشرة إلى حدّ أنه يحسّ بها وبما تمنحه إياه غير أنه – أي المتلقي – قد لا يعيها تماما. أما “افتتاحية روميو وجولييت”، فلم تكن فكرة هذه السيمفونية هي الحب فحسب، بل هو الحب في ذروة احتدام المشاعر الإنسانية، في لقاء عاصف وحميم من جهة ورومانسي جدا من جهة أخرى، إنما ليس في ذلك التباطؤ في الموسيقى فحسب بل في أقصى درجات العنف الذي عندما يأتي خافتاً من ثمَّ يكاد يكون سكونا مطلقا. غير أن الافتتاحية بدت أكثر تعقيدا من سابقتها بالنسبة للتأليف الموسيقي، وبالتالي أكثر صعوبةً في الأداء. ففي تلك اللحظات الأقرب إلى الهدوء يشعر المرء أنه أمام فعل تأمل يصدر عن الموسيقى موضوعه هو المشاعر الإنسانية وتعقيداتها النفسية بالمجمل. وبهذا المعنى، تكون الموسيقى أداة تأمل طيعة في متناول الفكر الإنساني عموما وليس الموسيقي وحده. على خطى بوليفار أما في الفترة الفاصلة بين فقرتي البرنامج الذي طال لأكثر من ساعتين، فسيكون أمر العازفين الشبان الذين لا يجاوز عمر أكبرهم الثامنة والعشرين وأصغرهم في الثامنة عشرة هو الحديث الأساسي بين مَنْ خرجوا لبعض الوقت. لنتخيل أطفالا في أوان الورد يُؤتى بهم من شوارع خلفية تشهد العنف دائما ليتحولوا إلى موسيقيين بهذه الشفافية وهذا الحسّ الإنساني الراقي؛ يؤتى بهم من الفقر والعوز والجهل ومن بين براثن العنف ليصبحوا فيما بعد عازفين وعازفات على أنواع مختلفة من الآلات الموسيقية الكلاسيكية الصعبة. لنتخيل لو لم يحدث ذلك أيضاً، فلربما كان عازف الكمان الرقيق الآن قاتلا مأجورا أو ضحية تحت التراب، أو لأصبحت عازفة الهارب امرأة تقايض جسدها بمبلغ زهيد كي تحيا ويحيا وليدها الذي حملت به بعد اغتصاب من الممكن ممارسته بطريقة عادية وعشوائية في إحدى الزقاق المظلمة؛ فتلك هي مطارح العنف والتشرد في أميركا الجنوبية برمتها وليس في فنزويلا وحدها. هذا بالفعل ما وطّن عليه نفسه المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا خوسيه أنطونيو أبريو والموسيقيين الذين معه، من ذلك الرعيل الموسيقي الذي آمن بخطى سيمون بوليفار على درب الحرية، والذين يُطلق عليهم أحيانا تسمية الموسيقيين القوميين: انتزاع هؤلاء الأطفال المشردين من براثن العنف والجوع والجهل وإعادة تشكيل نظرتهم إلى الحياة الإنسانية من وجهة نظر الموسيقى. فكانت النتائج مذهلة بالفعل، بحسب ما رأينا في الحفل. إنهم أساتذة شبّان يقف على رأسهم قائد أوركسترا شاب وموهوب بطريقة ملحوظة تسلم عمله مايسترو ومديرا للفرقة منذ العام 1999، عندما كان في العشرين من عمره هو الذي ولد لأب عازف ترومبيت وأم تتذوق الموسيقى. هكذا خرج القائد الأميركي اللاتيني الطموح سيمون بوليفار من تاريخه العسكري ليرتبط اسمه الآن بواحدة من الفرق السيمفونية العالمية، وبتجربة موسيقية ذات ملامح إنسانية مشرقة، باتت تقلدها وتستنسخها دول كبرى في العالم وعريقة في مجال الموسيقى الكلاسيكية. الآن أصبحت مؤسسة سيمون بوليفار الموسيقية – البرنامج الوطني لفرق أوركسترا الشباب والأطفال في فنزويلا مؤسسة فنزويلية وطنية. حضورها في المحافل والمهرجانات الموسيقية الدولية يدفع الفنزويليين إلى رفع علم بلادهم اعتزازا بهذا الفريق الموسيقي المتميز بأدائه الرفيع والفريد جدا بتشكيلته، تماما مثلما حدث في هذا الحفل عندما حمل شبان وشابات علم فنزويلا متباهين بموسيقييهم؛ بفريقهم الوطني حدّ أن امرأة طاعنة في السن وقفت وفي يدها راية صغيرة لوحّت بها وسط التصفيق الحارّ، والحارّ جدا، من الجمهور فيما هي بالكاد تسيطر على جسدها واقفة بين الناس. هكذا بدا وجه فنزويلا مع نهاية الفقرة الأولى من البرنامج: شاباً جداً، ونضراً مضرجاً بالموسيقى. تحية لبيتهوفن في الفقرة الثانية والأخيرة من البرنامج قدمت أوركسترا سيمون بوليفار السيمفونية خيارات موسيقية موسيقية كلاسيكية أخرى لم تكن سهلة، خاصة في مطلع هذه الخيارات مع السمفونية الخامسة لبيتهوفن، إحدى أشهر السيمفونيات في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية نظرا لقيمتها الابداعية من جهة والتاريخية من جهة أخرى، إذ أن صاحبها هو الذي أبدع هذا الشكل من الموسيقى الكلاسيكية: السيمفونية، بالمعنى المكتمل للكلمة وفقا لعلم الموسيقى، ومن بعده حتى الآن ليس هناك سوى تنويع على هذا الشكل. والخامسة، التي من أربع حركات، هي الأشهر من بين أعماله، وقد كتبها عندما أصبح أصما تماما. “الموت يقرع الباب” بل الجدران وكل شيء ويدنو أكثر من السرير. هكذا تُفتتح السيمفونية، لكنها ليست كذلك فحسب، فالموسيقى هنا، بحسب ما أخرجها دوداميل وأدتها الأوركسترا هي تأمل محض وخالص في المصير الإنساني، ومع أن الموسيقى هي هنا أقرب إلى “العقل” أو الروح “الألمانية” في نزوعها إلى التفكير والتأمل إلا أن ما قدمته الأوركسترا أيضاً كان نشيد وداع أيضاً، أو رثاء نفس رفعه بيتهوفن، طيلة أربعة أعوام من التأليف والتنقيح مطلع القرن التاسع عشر، إلى روحه هو في عذاباتها وإحساسها بدنو الأجل واقتراب الرحيل. كما لو أن ما قدمته الأوركسترا هنا هو تحية كبيرة لهذا المؤلف الموسيقي والإنسان العظيم. كانت البنية الموسيقية صارمة جدا بل هندسية أيضاً وسريعة أكثر قربا من السوناتا. تضمن البرنامج حتى نهايته أيضاً أربع مقطوعات موسيقية أخرى ضمن الروح ذاتها من الموسيقى والأداء الموسيقي. تحية موسيقية أنيقة من الإمارات بدأ هذا الحفل، الذي رعاه معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، وبحضور الدكتور مغير الخييلي رئيس مجلس أبوظبي للتعليم، بتحية من الإمارات لأوركسترا سيمون بوليفار السيمفونية ولمنجزها الابداعي والإنساني، قدمتها ثلاث فتيات وفتى من أوركسترا الإمارات السيمفونية للناشئة هن: خولة الرياحي وميرا غباش وأميمة الشنّار بصحبة أستاذة الكمان وقيادة مايسترو الأوركسترا. قدموا جميعا على الكمان أغنية كلاسيكية من التراث الموسيقي الكلاسيكي العالمي، أبدعت فيها الفتيات بأدائهن اللافت واستعراضهن لمهارات في الأداء، برز فيه أمران في غاية الأهمية بالنسبة للعازف عندما يكون طفلا: اعتياد العزف بقراءة النوتة الموسيقية وليس الحفظ عن ظهر قلب، وهو ما كان سيؤدي إلى الارتجال، والانضباطية العالية بحركات المايسترو صعودا وهبوطا وعلوا فخفوتا على نحو صارم، أي الانصياع بالمطلق للقواعد الصارمة لعلم الموسيقى. كانت المقطوعة ذات إيقاع سريع ولم تستغرق كلها، بوصفها تحية، أكثر من سبع دقائق، غير أنها بالفعل كانت أنيقة وغير نمطية ومبشرة بثلاث عازفات وعازف على الكمان، لو قدِّر لهم جميعا الاستمرار بدءا من هذه السن فسوف يشكلون في مستقبل قريب نواة أوركسترا سيمفونية إماراتية بمبدعين إماراتيين. هذه التحية الحضارية أيضاً، تثبت أن اكتساب المهارات الموسيقية يحتاج إلى البدء مع العازف في سنّ مبكرة، ما يعني أن تأسيس أوركسترا سيمفونية للناشئة والاستمرار معها بالرعاية وبطول نَفَس أمر ضروري جدا لإبراز وجه متحضر آخر لدولة الإمارات وشعبها. تلى ذلك أنْ قام معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان بتسليم جائزة مهرجان أبوظبي للثقافة والفنون لهذا العام للمايسترو خوسيه أنطونيو أبريو، وكان الرجل، بحقّ، مايسترو وتجدر به الجائزة هو الذي أنشأ ثلاثة أجيال من الموسيقيين في بلاده، مثلما كانت تجدر به تحية الأساتذة الإماراتيين الصغار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©