الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيقاعات الخيول.. وقوافيها

إيقاعات الخيول.. وقوافيها
13 سبتمبر 2012
رغم أن لوحات جناحه الذي حمل عنوان “المحبة” في معرض الصيد والفروسية الذي اختتم فعالياته مؤخرا في أبوظبي لم تزد على 16 لوحة جمعت ما بين الصورة والقول العربي وعناصر اللون والحركة، إلاّ أن لهذا الجناح الذي أبدع فيه الفنان اللبناني المقيم في بريطانيا مراد بطرس خصوصية ولوناً ومذاقاً خاصاً، ولكل لوحة فيه قصة وفكرة وموضوعاً، ولعل أهم ما يلفت الانتباه في أعماله أن اللوحة عنده بمثابة “تحفة فنية” ذات هوية عربية تعكس تلك الصورة التي نفتقدها في مجال الفن التشكيلي المعاصر، حيث تنضوي فئة كبيرة من الرسامين والمصورين تحت لواء النّهج الغربي، فيما نجح بطرس، وهو في الأصل خطاط محترف في مجال الخط العربي، ومن خلال ألوان بسيطة منتقاة من أجواء الصحراء، كالأصفر والبرتقالي والرمادي، أن يحقق لتجربته موقعا خاصا وإضافة لافتة للرسم المعاصر، لما توافر في لوحاته من علاقات خاصة وقوية بين الألوان وامتداداتها، والخطوط ومعانيها، والصورة ودلالاتها وما تحمله من عناصر تجمع الظل والنور والموسيقى الداخلية، وبما فيها من حميمية بين المتلقي وهدوء وجماليات التعبير في لوحة تعشقها من النظرة الأولى، بل وتحبّ أن تقتنيها، فهي تعيد لنا سيرة الحرف الأول ونغمة الصحراء حينما كانت الخيول العربية سيدة الشعر والحرب، ضمن أسلوب فنّي يباهي بإبراز لغة التراث العربي بتقنية معاصرة. لقد كنا في الواقع أمام أعمال تشكيلية أصيلة في المعنى والمبنى يستثمر فيها الفنان كل طاقته وخياله والمقومات التراثية، ليقدم لنا في النهاية لوحة عفوية حافلة بالتفاصيل. استفادة تراثية حينما يرسم مراد بطرس الخيول، فهو يستفيد من الموروث العربي وبخاصة في توظيفه للخط مع بعض التزيينات الكلاسيكية، ليتيح للمشاهد قراءة بصرية متكاملة يحدثها بهواجس جمالية حاذقة وتلوينات دافئة، ففي لوحته المحبة التي حملت عنوان جناحه، سنجد أنه رسم الكلمة باللون الفيروزي، متداخلة خطوطها مع أشخاص تجمعهم “المحبة” في توازن عام بين حركة الخط وحركة الشخوص، والألوان، التي تميّزت بكثير من الرصانة والدّقة بشكل يستدعي التأمل، إنها وحدة الشعور الانساني الصادق حينما يتدفق ثراء الخط وغناه وسط حالة تنتقل من الشاعرية الهادئة الى حالة قوية من التعبير والتلاحم، حيث يدعو موضوع اللوحة “الاحتفالي” في النهاية الى شيء عزيز نفتقده جميعا في عالم العولمة ألا وهو الحب الإنساني. يحتفي بطرس باللون على طريقته الخاصة من خلال بانوراما من خلال لوحتين متكاملتين تحت عنوان رفيع ولافت “الخيل عزّ الرجال”، حيث يبدو الجواد العربي الأصيل في حالتين مختلفتين، تبدأ الأولى في النّهار، وهي تمثل اللوحة الأولى، تتداخل خطوط مقولة “الخيل عزّ الرجال” مع حركة وشعر الخيول التي تتطاير في عمق رمال الصحراء الذهبية، وهنا مضمون فلسفي يدعو الى الابتهاج والانفتاح، وكأن ألوان الأصفر والبرتقالي والرمادي تقيم احتفالية أخرى للاحتفاء بجمال الصحراء والشعور بجمالية الكون وأن هذا الانسياب البديع لفرشاة الفنان الذي يستعين بحركة الخطوط ولمسات معمارية هادئة، وشاعرية الحرف بجانب أسلوبية زخرفية، تسجل لمراد بطرس خصوصيته وهويته وطرازه الذي ينفرد به عن الكثيرين من الذين يتعاملون مع هذا الجانب من الفن التعبيري. اللوحة الثانية من بانوراما “الخيل عزّ الرجال” تبدأ مع الليل وتمثل خيولا رائعة الجمال والتّدفق الحركي وهي تركض تحت ضوء القمر، وفيها يستنفر مراد بطرس جاذبية الألوان المائية، حينما تأخذ رمال الصحراء الذهبية ذلك اللون الازرق الهادئ، وهنا جملة من الألوان بتقنيات مختلفة تشبع اللوحة بالهدوء والقوة، تتداخل خطوط الجملة، وتتآلف الحروف والخطوط القوية مع الملامح المغبّرة للخيول التي تركض بكل ذلك الجمال والبهاء، وسط صحراء ترسمها ألوان عفوية من الأزرق الممزوج بتموجات بيضاء تفسح لنا في النهاية عن مساحة يلتحم فيها الداكن بالفاتح لإبراز تلك التجويفات الرائعة في رمال الصحراء في حين ينسكب عليها ضوء القمر في جلال وبهاء، فتبدو الخيول أجمل وأروع من حقيقتها في لوحة قلما تجد لها مثيلا في هذا النوع من الأعمال. الشعر.. مرسوما حضر الفنان بطرس الى العاصمة أبوظبي، ومعه تجربة تزيد على أربعين عاما في التعامل مع تراث الخط العربي، وخبرة مثالية في الجرافيك والتصميم، وحرفية خاصة في التعاطي مع الألوان وتقنيات استخدامها وتوزيعها وتوظيفها لخدمة الفن البصري، ولهذا لم يكن غريبا عليه ان ينجز مجموعة من اللوحات ذات الصلة بالشعر العربي القديم، ومن ذلك لوحته التي استلهمت موضوعا واحدا من أشهر الأبيات الشعرية التي نظمها ابو الطيب المتنبي (الخيل والليل والبيداء تعرفني...)، حيث صاغ كلمات هذا البيت الشعري باللون الوردي، متداخلا مع حركة الخيول بصبغة من تقاطع الألوان التي جمعت الأحمر والأصفر القشي، مع خلفية منفتحة، وهذه الألوان ليست محرّفة جدا عن الطبيعة، لكن طبيعة الصقل وصفاء الألوان وحسن توزيع العناصر أمكن تكوين فسيفساء لونية ومعان تعيدنا من خلال هذه الخلطة المتقنة الى أجواء المزاج العربي القديم. قدم بطرس في جناحه جملة من اللوحات الخطية، لكنها ليست مجرد لوحات لإبراز جماليات وروائع الخط العربي، بقدر نجاحه في استثمار ذلك في بناء تكوينات هندسية جميلة، مستثمرا ملامح زخرفية جميلة تحيط بالتكوين العام، ومن ذلك لوحته الخاصة بأسماء الله الحسنى، حيث أدخل ثلاثة أسماء هي الحكيم الودود المجيد في نجمة ذات ثمانية أضلاع، وكان بديعا أن ترسم الخطوط باللون الأصفر تحت خلفية باللون الأسود، مع توشيحات عامة من اللون الابيض، وهو بذلك يضع أسس لتربية تشكيلية ورفع ذائقة المتفرج نحو هذا اللون الجميل من الفن. تضمنت لوحاته في هذا الجناح جملة من الأعمال المخصصة للصقور، وبخاصة عمله الذي حمل عنوان قاهر الأعالي، ويمثل صقرا يحلّق في السماء، فيما تتداخل معاني الجملة باللون الأزرق الغامق من الأسفل الى الأعلى، تتداخل مع اللونين الأصفر والأبيض، وهما اللونان السائدان في تكوين الصقر النبيل الذي بدا لنا بجماله ودقة تكوينه وقوته طائرا رائعا وسيدا في حركته وتحليقه المنضبط في الهواء. الفنان مراد بطرس له ثقافته وهويته، وله أيضا ارتباطه النقدي بعالم الفن الذي يشكل مجمل حياته في الخارج، لكنه لم ينسلخ عن واقعه العربي، وفي حوار خاطف معه على هامش معرضه الذي لقي إقبالا جماهيريا كبيرا قال: هدفي من إنجاز مثل هذه اللوحات التأكيد على دور التراث العربي وبخاصة الخط الذي نشهد ضياعه تحت وطأة ثورة المعلومات وبخاصة الحاسوب، إنني أسعى الى دفع المتفرج الى البحث في اللوحة من خلال قراءتها من جوانب متعددة نظرا لكثرة عناصرها، دون أن أتخلى عن تحقيق تقنية معاصرة، في الواقع أشعر بأنني مريض وأنا أنجز لوحتي، ومن ثم أتعافى حينما أنتهي منها كما أريد وكما تصورتها في خيالي، في النهاية أعمل على تعريف العالم بقيمة وأهمية الخط العربي والتراث المرتبط به. وقد سعدت جدا سعدت جدا أن تجذب لوحاتي إليها شرائح مختلفة من الناس ولم يكن صعبا عليهم فهم هذه اللوحات بسـهولة ويســر، لسـت من هواة الغرائبية والجري وراء الاشكاليات، كل ما أسعى إليه المساهمة في رفع الذائقة الفنية لدى المتلقي والمساهمة في تطوير الثقافة الجماهيرية في مجالات الفن الاصيل”. مراد بطرس ليس ماركة مسجلة فقط من خلال منجزه، ومن خلال تعاونه مع العديد من الفنانين العالميين، بل هو أكثر من ذلك، فهو صاحب شخصية فنية وهوية واضحة المعالم، فهو يرسم تراثنا بكل أصالته وعمقه على طريقته الخاصة، وليس على طريقة الانجليز حيث يعيش. كما يحرص على أن يترك دائما نقاطاً بيضاء في جميع لوحاته، ألوان بيضاء تندس بين عناصر اللوحة بهارمونية رائعة، تعبيرا عن الانفتاح على الحياة والأمل الجميل القادم. لقد كنا في الواقع أمام معرض تشكيلي مختلف في دلالاته وتعبيراته وتقنياته وحرفيته في رصد التراث.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©