الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألا.. لا يجهلن أحد علينا

ألا.. لا يجهلن أحد علينا
13 سبتمبر 2012
منذ البدء كان الشعر تجسيداً لحدث، وتجربة مر بها الشاعر، إلى حد أنني أزعم أنه لا شعر بلا تجربة أو معايشة لحدث.. إلا ذلك النظم الهادف إلى استعراض قوة الشاعر البلاغية وتمكنه من اللغة.. وهذا من وجهة نظري لا علاقة له بالشعر الحقيقي. وسأتناول في هذه السلسلة قصص بعض القصائد لشعراء عرب من مختلف العصور القديمة. أختار اليوم معلقة عمرو بن كلثوم النونية التي مطلعها: ألا هُبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقى خمور الأندرينا ما قصة هذه القصيدة الخالدة والتي تناقلتها الأجيال العربية جيلاً بعد آخر؟ الشاعر هو أبو عباد عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب ابن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حُبَيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. ولد في 525 ميلادية وعاصر عمرو بن هند (554 ـ 570م) وأدرك النعمان بن المنذر (580 ـ 602م). لم تذكر المراجع أين ولد بالتحديد ولكن من الأرجح أنه وُلد في بلاد ربيعة أي شمال الجزيرة العربية. وكان كلثوم والد شاعرنا عمرو من سادات قومه، وتزوج من ليلى بنت المهلهل وهو الشاعر الفارس المعروف الزير سالم أبو ليلى المهلهل وشقيق كليب وائل. وقد نشأ عمرو بن كلثوم في بيت من أسياد تغلب، وكانت قبيلة تغلب من أقوى القبائل العربية في ذلك الزمن وقد قيل فيها: “لو أبطأ الإسلام قليلاً لأكلت بنو تغلب الناس”. توفر في عمرو بن كلثوم وهو يعيش عز أبيه، ومنعة قبيلته صفات وخصال حميدة قل أن تجتمع لدى غيره، كالشاعرية والفروسية والخطابة والكرم والشجاعة.. وهي صفات جعلته سيداً في قومه يشار إليه بالبنان، ويحكي أنه ساد قومه وهو في الخامسة عشرة من عمره. وعودة إلى قصيدته المعلقة التي أشرنا إليها، فقد أشارت المراجع التاريخية، أن الملك عمرو بن هند أضمر للشاعر عمرو بن كلثوم الحقد لما رأى عنده من شدة فخر وتباه وتشامخ.. وكان عمرو بن هند ملك الحيرة. وفي ذات يوم، كان الملك عمرو بن هند في مجلسه وبين أفراد حاشيته شاعراً بالعزة والعظمة فطرح أمام كبار قومه قضية غريبة: ـ أخبروني يا رجالي الأوفياء.. هل يوجد في هذا الكون من هو أعز مقاماً وأشد أنفة، وأعظم قدراً مني.. كان السؤال غريباً.. وكانت الإجابات تحمل من الخوف ما جعلها تتسربل بالنفاق. ـ لا أيها الملك العظيم.. لم نََرَ.. ولم نسمع عن ملك أعز منك شأناً وأعظم قدراً. ثم كان سؤال الملك الأغرب: ـ هل تعلمون أو تتخيلون أن أحداً من العرب ـ أينما كان ومهما بلغ شأنه ـ تأنف أمه من خدمَة أمي؟ أمام هذا السؤال الرهيب، أدرك الملك أن الإجابات ستكون إجابات الخائفين.. والخوف يمنع الصدق ويبيح النفاق، ولذلك أردف قائلاً: ـ أريد إجابات صادقة ومهما كانت هذه الإجابات فإنني ســأقبلها وسأحترم أصحابها.. أريد فقط أن أعلم.. هل هناك رجل من العـرب تأنف أمه من خدمَـة أمي؟ قال أحد الجلساء، وكان شجاعاً وجريئاً معروفاً بصدق روايته، وثقة مصادره: ـ نعم أيها الملك العظيم.. نعرف من تأنف أمه أن تخدم صَاحَبة الفضيلة والعزة أمكم. ـ ومن هو؟ صَاح الملك عمرو بن هند، والشرر يتطاير من عينيه. ـ عمرو بن كلثوم أيها الملك العظيم. كان وقع الاسم على الملك رهيباً، فهو يعرف صاحبه.. وسبق أن استمع إليه وهو يقوم بدور الحكم في خلاف جديد وقع بين قبيلة بكر وقبيلة تغلب.. ولقد ألقى يومها عمرو بن كلثوم جزءاً من معلقته مفتخراً على خصومه دون أن يعير مركز الملك عمرو بن هند أي اهتمام أو تقدير.. وهذا ما جعله يومها يحكم على التغلبيين لمصلحة بني بكر. ـ ولماذا تعتقد أن أم هذا الشاعر تأنف من خدمة أمي؟ ـ لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمر وهو سيد قومه. انتهى المجلس بعد ذلك لتضج فكرة غريبة في ذهن الملك عمرو بن هند، وقد قام بتنفيذها على الفور، حينما أرسل أحد خلصائه إلى عمرو بن كلثوم يدعوه فيها أن يزوره هو وأمه ليلى والتي تحبها أم الملك وتريد إكرامها.. قَبلَ عمرو بن كلثوم دعوة الملك عمرو بن هند، ورحل مع أمه في موكب من الخدم والحشم وثلة من فرسان القوم الأشداء، فهكذا كان سفر أسياد القوم في ذلك الزمن. وما بين الحيرة والفرات، ضرب عمرو بن هند رواقه وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا. ودخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة في جانب الرواق. وهند أم عمرو الملك كانت عمة امرئ القيس بن حجر الشـاعر وتجمعها صلة القرابة مع ليلى بنت المهلهل.. فعمتها فاطمــة أخت المهلهل هي أم امرئ القيس. وضع الملك عمرو بن هند خطة الإذلال مسبقاً فطلب من أمه أن تأمر الخدم بالانصراف وأن تقوم ليلى أم عمرو بن كلثوم هي بالخدمة.. ـ ليلى.. ناوليني هذا الطبق الذي أمامك. هزّ الطلبُ قلب ليلى.. فتغير وجهها.. ومع ذلك صبرت وقالت: ـ لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. ـ أقول لكِ ناوليني الطبق. ـ وأقول لكِ تناوليه أنتِ. ـ بل أنتِ. وهنا صاحت ليلى: ـ واذلاه.. يا لتغلب. صدم صوتها سمع ولدها عمرو بن كلثوم.. فثار الدم في وجهه.. ووثب إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره.. فضرب به رأس عمرو بن هند.. ونادى من رافقه من فرسان تغلب.. فغنموا ما في الرواق.. وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة العربية. اعتبرت معلقة عمرو بن كلثوم أحسن المعلقات، حتى أن بعض النقاد قالوا: “لو وُضعت أشعار العرب في كفة وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة لمالت بأكثرها”. وقد بدأ عمرو بن كلثوم بنظم هذه المعلقـة قبل أن يقـتل الملك عمرو بن هند، ولكنه أضاف إليها تســجيلاً لما جرى تلك الأبيات التي تجسد الحادثة وتشير إليها. تبدأ معلقة الشاعر عمرو بن كلثوم بهذا المطلع: ألا هبي بصـحنك فاصبحينا ولا تبقـــي خمـــور الأندرينا مشعشعة كأن الحصَّ فيها إذا ما المــاء خالطـها سخينا ونظراً لطول المعلقة فإننا نختار منها الجزء المتعلق بتلك الحادثة: ألا.. لا يجهــلن أحــد علينـا فنجهل فوق جهل الجاهلينا بأي مشــيئة عمرو بن هـند نكون لقيلكم فيها قطينا (1) بأي مشــيئة عمــرو بن هــند تطـــيعُ بنا الوشـــاة وتزدرينـــا تهـــدَّدْنا وأعــــودنا رويــــدا متى كــنا لأمـك مقــتوينا (2) فـــإن قناتنا يا عمـــرو أعــيت على الأعـــداء قــبلك أن تلينا ورثنـا مجــد علقمـةَ بن سـيف أباح لنا حصــون المجـــد دينا ومنّا قبــله الســــاعي كَليــب فأي المجــــد إلا قـد وليـــنا ونحـن الحاكمــون إذا أُطعـــنا ونحـن الآخـــدون لمـا رضـينا إليكـــم يا بنـي بكـــر إليكــــم ألمّّـا تعـــرفوا مــــنّا اليقـينا كـأنا والســـــيوف مســـلّلاتٌ ولـدنا النــاس طُــرّاً أجمعـينا ونشــرب إن وردنا الماء صفواً ويشـــرب غـــيرنا كـدراً وطينا إذا ما المَلْكُ سام الناس خسفاً أبينــا أن نقــــرَّ الـــذلَّ فــينا لنا الدنيا ومــن أمســى عليهـا ونبطش حين نبطش قادرينا بغــاة ظــالمين ومـــا ظــلمنا ولكـــن ســـنبدأ أظالميـــنا مــلأنا البرَّ حتى ضـــاق عــــنا ونحــن البحـــر نمـلأه سفينا إذا بلـغ الفطـــامَ لنا صَــــبيٌ تَخـــرُّ لــه الجـــبابرُ ساجدينا وقد افتخر شعراء تغلب بقتل عمرو بن كلثوم للملك عمرو بن هند، ونقل لنا تاريخ الأدب والشعر العربي ما قاله الفرزدق وهو يرد على جرير في هجائه الأخطل: ما ضــرّ تغــلب وائلٍ أهجــوتَهـا أم بُلْــتَ حــين تناطــح البحــران قوم هـمُ قـتلوا ببن هــند عنوةَ عمراً، وهم قسطوا على النعمانِ كما قال افنون التغلبي مفتخراً: لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا لتخـــدُم ليــــلى أمَّـــهُ بمُــوفَّـقِ فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتاً (3) فأمسـك من ندمــائه بالمخنَّق(4) وجندله عمرو إلى الرأس ضربة بذي شطبٍ صافي الحديدة رونقِ هوامش: 1 ـ القيل: الرئيس. القطين: العبيد الأذلاء 2 ـ المقتوين: الخدم 3 ـ مصلتاً: مجرداً السيف من غمده 4 ـ المخنّق: موضع حبل الخنق من العنق المصادر والمراجع: 1 - ديوان عمرو بن كلثوم/ الدكتور اميل يعقوب. 2 - الأغاني.. أبو الفرج الأصفهاني. 3 - شرح المعلقات السبع/ الحسين بن أحمد. 4 - شعراء النصرانيين قبل الإسلام/ لويس شيخو. 5 - شرح المعلقات العشر/ أبو عبدالله الزوزني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©