الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دراما الغضب والنقمة

دراما الغضب والنقمة
16 سبتمبر 2015 22:33
حين صدرت رواية نجيب محفوظ صغيرة الحجم «اللص والكلاب» عام 1961، بعد سلسلة من رواياته الواقعية الممتدة من «القاهرة الجديدة» إلى الثلاثية، تلقاها النقاد بحفاوة بالغة، إذ استشعروا فيها تحوّلاً دالاًّ في فن نجيب محفوظ خصوصًا، وفن الرواية العربية على وجه العموم. ولقد عَبّر يحيى حقي عن رؤيته لهذا التحول في مقالته الشهيرة «الاستاتيكية والديناميكية في أدب نجيب محفوظ»، جاعلاً من «اللص والكلاب» نموذجًا عبقريًّا لما أسماه «الديناميكية». وكان من أخص خصائص الديناميكية التي رصدها يحيى حقي في «اللص والكلاب»، ذلك الانفعال الذي يتبدى في النص كله، بدءًا من عنوان الرواية، وانتهاء بالصور والمفردات والأبنية اللغوية التي ينطق بها الراوي وتنطق بها الشخصيات. غير أن أحدًا من الكتاب والنقاد - بمن فيهم يحيى حقي نفسه - لم يلتفت إلى الدور الذي لعبه استخدام ضمير المخاطب في تجسيد ديناميكية الرواية، أي ثورة الانفعال والنقمة المختزنة في لغة هذا النص القصير نسبيًّا مع أنهم التفتوا إلى ظواهر أسلوبية دقيقة ناجمة عن هذه النقمة الانفعالية المختزنة ذاتها، كـ«الإيقاع السريع»، و«السجع غير المتكلف».. إلى آخر الظواهر الأسلوبية التي لاحظها محمود الربيعي في «مونولوجات» سعيد مهران. من الغريب حقًا أن أحدًا من دارسي نجيب محفوظ لم يلتفت إلى هذا الصعود الصارخ لضمير المخاطب، ومن الواضح أنهم تلقوه على اعتبار أنه تنويعة من ضمير المتكلم، سواء أكان يكلم نفسه، أو يكلم الشخصيات، أو يكلم القارئ. والحقيقة أن تناول النقاد والكتاب لهذه الرواية يعكس مشكلة عامة، تتصل بنقد ضمير المخاطب في السرد، ذلك أنهم تناولوا «اللص والكلاب» بصفتها تحولاً في اتجاه المونولوج الداخلي وتيار الوعي، بحيث عَبَروا «الأنت» الطاغية على النص، ولم يلتفتوا إليها، لأنهم عدوها لونًا من «الأنا»، لونًا من كلام الأنا إلى نفسها. لعبة الضمائر.. تناوباتها تبدأ الفقرة الأولى من الرواية، شأن معظم روايات نجيب محفوظ الواقعية السابقة، على لسان راوٍ غائب يبدو عليماً، غير أن شيئًا جديدًا هنا يغير من مذاق السرد ولغته، أعني منظور البطل ونقمته التي تنضح بها اللغة المنضبطة الموقعة. يتلبس الراوي الغائب منظور البطل ومشاعره، نعم، لكنه يظل في الوقت نفسه مراقبًا من الخارج: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحرّ لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاطي، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة، هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة».. ومع أن هذه الفقرة الافتتاحية مروية بضمير الغائب الصريح، فإنها تنطوي على مؤشرات واضحة لمخاطبة الذات ومخاطبة الآخرين، لعل أبرزها هذا التكرار اللافت لأسماء الإشارة: «ها هي»، «وها هو»، «هذه»، «وهذه». إنها نغمة المخاطبة التي ستأخذنا للفقرة التالية، ولعالم الرواية كله. من هذه النقطة، وعلى مدار الرواية كلها، ستتناوب الضمائر الثلاثة في سرد الرواية، وسنشهد قفزات متسارعة، حتى في الجملة الواحدة، من الغائب إلى المخاطب، ومن المخاطب إلى المتكلم، ومن المتكلم إلى المخاطب مرة أخرى.. لكننا سنستمع في كل الأحوال إلى صوت سعيد مهران الناقم الغاضب وهو يخاطب نفسه، ويخاطب الآخرين في الرواية وخارجها، ونادرًا ما نشعر أنه يخاطبنا نحن القراء. ما إن تنتهي هذه الفقرة الأولى من الرواية، حتى يتخلى الراوي عن حذره، وتبدأ القفزات التناوبية المفاجئة بين الضمائر، ولنستمع إليه في الفقرات التالية مباشرة: «وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدِّيًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديمًا ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر..» (ص 8). «طوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب، ينعم في ظله بالسرور المظفّر، والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟. استعن بكل ما أوتيتَ من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة ويطير في الهواء كالصقر ويتسلق الجدران كالفأر وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيتَ يا عليش كيف كنتَ تتمسّح في ساقيَّ كالكلب؟ ألم أعلمكَ الوقوف على قدمين..» (ص 8). ولا يجب أن يخدعنا هذا التناوب للضمائر الذي سيستمر على مدار الرواية، إذ النغمة الأساسية تأتي من صوت هذا المخاطِب الذي يصرخ ناقمًا وبلغة قاطعة، وكأنه بطل تراجيدي على خشبة المسرح يوجه حديثه للجميع: «آن للغضب أن ينفجر...». ولم يكن غريبًا أن يتنوع المخاطَبون داخل النص، فمرة يخاطب الراوي نفسَه: «استعن بكل ما أوتيتَ من دهاء» «فادرس طريقك»، ومرة يخاطب نبوية بهذه الجملة القاطعة: «أشهد أني أكرهك»، ومرة يخاطب ابنته سناء «لا يبتسم إلا وجهك يا سناء»، ومرة يخاطب نبوية وعليش بضمير المخاطب المثنى: «أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب»، ومرة يخاطب الجميع وبضمير المخاطب الجمع: «جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة..»، وعما قريب سيخاطب رؤوف علوان بلغة أعنف وشتائم أقذع. ثنائيات كلما تقدمنا مع الرواية والراوي، ستتخلى اللغة عن فصاحتها التراجيدية هذه، وتبدأ لغة الشتائم تتناثر في سرد الراوي مقترنة بياء النداء المنطوية على ضمير المخاطب: «لعلك تنظر من الشيش مستخفيًا كالنساء يا عليش»، «لا داعي للتحذير يا خنفساء»، «اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك». وكلها جمل جانبية نسمعها بصوت الراوي، ولكن من وجهة نظر البطل الذي يتحدث إلى نفسه، وهي جمل موجهة إلى أشخاص مختلفين داخل الرواية، في تعقيب داخلي لا ينقطع، على ما يجري من حوار معلن في الخارج (ثنائية الخارج والداخل، والظاهر والباطن، والحوار والسرد التعليقي، من الثنائيات الأساسية التي يتكشف عنها استخدام ضمير المخاطب. وهو أمر نعيشه في ممارساتنا اليومية للغة، إذ كثيرًا ما نرحب بالضيف علنًا «- أهلاً بك..» بينما نحن نلعنه إلى الداخل «يلعن أبوك..». نقول الجملتين في اللحظة نفسها وبضمير المخاطب، واحدة علنًا في حوار إلى الخارج، والأخرى سرًّا في مونولوج إلى الداخل). ضمير المخاطب في «اللص والكلاب»، جزء من دراما النقمة، وهي دراما تتجلى أكثر ما تتجلى في الحوارات المقتضبة العاصفة، التي يتشكل منها الجسم الأساسي للأحداث. وضمير المخاطب هو النغمة الأساسية البديهية في الصراع بين أطراف متحاورة يخاطب كل منها الآخر، غير أن ظهوره على هذا النحو المكثف، وفي قلب السرد بضمير الغائب، وصل بدراما النقمة إلى قمتها. ونحن نصل إلى هذه القمة في الفصول الثالث والرابع والخامس، حين يبدأ سعيد مهران رحلة البحث عن رؤوف علوان والانتقام منه. في هذه الفصول تتوزع الصفحات شكلاً بين السرد والحوار، لكنها في الحقيقة حوار ممتد، بعضه إلى الخارج وبعضه إلى الداخل، حتى وصف الأشياء والمباني إنما يتم بمنطق مخاطبتها والحوار معها. إن سعيد مهران - كما يقول الراوي (ص 48) - يتحدث «بصوت مسموع كأنما يخاطب الظلام»: «.. عليَّ أن أقابله. الشيخ أعطاني فراشًا فوق الحصيرة للنوم ولكني في حاجة إلى نقود. عليَّ أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان. أنت لا تقل عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لديَّ في هذه الحياة التي لا أمان فيها. وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف..»، (ص 34). «ورؤوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدًّا كهذه الحجرة. ولم يكن فيما مضى إلا محررًا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد على، ولكنها كانت صوتًا مدويًا للحرية. ترى كيف أنت اليوم يا رؤوف؟. هل تغير مثلك يا نبوية؟. هل ينكرني مثلك يا سناء؟. ولكن بعدًا لأفكار السوء» (ص 35). الحقيقة أن هذا الانتقال السريع والفجائي بين الضمائر في رواية «اللص والكلاب»، هذا الانتقال المتكرر بحيث أصبح يشكل سمة من سماتها المائزة، هو الذي يبلور دراما الصراع في أصفى صورها. إن معظم فقرات السرد بضمير المخاطب في هذه الرواية تقع بين حوارين، بحيث تتردد أصداء ضمائر الخطاب (أنت، الكاف، التاء..)، في السرد والحوار على السواء، وبحيث لا يستطيع القارئ التمييز بينهما، فكأنه يستمع - حتى في السرد - إلى حوار لا يكاد ينقطع، أو كأنه يستمع - حتى في الحوار - إلى مونولوج ممتد. بل إن تذكُّر الماضي نفسه، يتم هنا في صورة جمل حوارية متطايرة داخل عقل البطل، وبضمير المخاطب، فبين حوارين على مقهى الرفاق القدامى يعود سعيد مهران إلى الماضي: «يا له من سمر. ماذا يقصدون؟. لكنك شعرت أنهم يعبرون عن حالك على نحو ما. نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل. أنت أيضًا كانت لك يفاعة متوثبة. والقلب سكران برحيق الحماس. والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال. وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية. وساكن القصر رقم 19 كان على رأسهم. على رأسهم يتمرن ويمرن ويلقي بالحكم. المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران. المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك. وذات مساء سألك سعيد ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟ ثم أجاب غير منتظر جوابك، إلى المسدس والكتاب، المسدس يتكفل بالماضي والكتاب للمستقبل، تدرب واقرأ». (ص: 61-62). إن الانتقال بين الضمائر يتم في لحظة خاطفة، في اختصار للمسافات، فبدلاً من الكلام إلى الداخل عن رؤوف علوان، فليتكلم إليه سعيد مباشرة ويستحضره ويخاطبه ويسأله، وهو الأمر الطبيعي بالنسبة لمن يعيشون إلى الداخل كبطل «اللص والكلاب». وهكذا ينتقل الراوي في خطفة واحدة من الماضي إلى الحاضر، ومن الغائب إلى المخاطب: «ولما جلسا على الأريكة نادى المعلم صبيَّه، وقال له: - بصنعة لطافة قل لنور أن تأتي.. لتأت ليرى ماذا فعل الزمان بها» (ص 63). تراجع الحوار.. تمدد السرد وحين نتقدم مع الرواية، ونصل إلى الفصلين العاشر والحادي عشر وما بعدهما، يبدأ «حديث الصمت والوحدة» (كما يسميه الراوي ص 107)، فتضيق المسافة الفاصلة بين السرد والحوار تمامًا حتى تكاد تنمحي، وتتراجع صفحات الحوار على نحو واضح، بينما يتمدد «المونولوج السردي» ويستوعب الحوار داخله، وهنا يقع الحكي أيضًا - ولأول مرة في الرواية - بضمير المخاطب، ولم يعد الأمر مقصورًا على المناجاة والسؤال والتعجب، وكل الصيغ الطلبية التي سمعناها من سعيد مهران من قبل. إنه الآن يستعيد لقاءه الأول بنبوية، كما يستعيد لقطات من طفولته، علاقته برؤوف علوان والشيخ الجنيدي، وهو يحكي لنفسه كل هذا بالضمائر الثلاثة، ولكن مع هيمنة واضحة لضمير المخاطب، وتصاعد للانفعال يكاد يقترب من الجنون: - أنت يا رؤوف وراء كل ذلك.. جميع الجرائد سكتت أو كادت إلا جريدة الزهرة. ما زالت تنبش عن الماضي وتستفز البوليس. إنها توشك أن تنادي ببطولته سعياً وراء القضاء عليه. ولن يهدأ رؤوف علوان حتى يطوق عنقه بحبل المشنقة. (...). وبصوت مسموع تساءل: - رؤوف علوان، خبرني كيف يغير الدهر الناس على هذا النحو البشع؟ الطالب الثائر. الثورة في شكل طالب. وصوتك القوي يترامى إليَّ عند قدمي أبي في حوش العمارة قوة توقظ النفس عن طريق الأذن. عن الأمراء والباشوات تتكلم. وبقوة السحر استحال السادة لصوصًا» (ص 123-124). يمتد هذا المونولوج على صفحات مطولة، في حديث الصمت والوحدة الممتد، الذي لا تقطعه إلا فقرات حوارية عابرة، بينما يغلفه فضاء الليل الصحراوي والمقابر وكل ما يبعث على الاستحضار الغاضب المذعور للماضي. ويمكن للقارئ بسهولة، أن يلاحظ في الاقتباس الأول، حرص الكاتب على التخلي الكامل عن علامات الترقيم (برغم حرصه الدائم عليها في غير هذا السياق). إن الضمائر تتداخل على نحو مدهش، لا يكاد يفصل بينها شيء، وكثيرًا ما تتابعت الضمائر وتداخلت والتبست في الاقتباس السابق، وذلك على نحو يخرج باللغة عن سياقها العاقل المتماسك، ويقترب من السيولة التي لا فواصل فيها بين الجمل، ولا علامات مائزة للضمائر. كما يمكن للقارئ أيضًا، أن يلاحظ في الاقتباس الثاني، نوعين من الحديث إلى النفس، أحدهما بصوت مسموع، يأخذ شكل الجمل الحوارية المعروف، لكنه ليس إلا حوارًا مع النفس، أما الآخر، فحديث صامت يأخذ شكل المونولوج المعتاد. هذا الحديث إلى النفس، هو في الحقيقة أقرب إلى ما يسميه همفري «مناجاة النفس»، مميزًا إياه عن المونولوج الداخلي، الذي يكشف في العادة عن منطقة أبعد غورًا في وعي الشخصيات القصصية، وأكثر سيولة. نعم، هناك تسليم بوجود جمهور حاضر ومحدد يتوجه إليه الخطاب، كما أن طبقة الوعي التي ينقلها الخطاب ليست عميقة وإنما أقرب إلى السطح، ولكن ليس في رواية «اللص والكلاب» أي حديث - ولو ضمني - إلى القارئ، كما كان الحال في أعمال الرومانسيين، وبعض أعمال الواقعيين، إنما يظهر ضمير المخاطب هنا حين يتحدث الراوي/‏ البطل إلى نفسه، أو إلى الشخصيات الأخرى داخل الرواية، وتلك كانت الصيغة الأساسية - أو «النموذجية» كما سماها ريتشاردسون - للسرد بضمير المخاطب في الأدب المعاصر، أي تلك الصيغة التي ارتبطت بصورة من صور «تيار الوعي». وهنا تمثل «اللص والكلاب» مع بعض النصوص القصصية القصيرة الأخرى، نقطة تحول هامة في اتجاه السرد بضمير المخاطب بمعناه المعاصر، إذ تتخلى «الأنت» عن وظيفتها الاتصالية بين الكاتب/‏ الراوي من ناحية، والقارئ/‏ المروي عليه من ناحية أخرى، وتصبح وظيفتها الأساسية نابعة من داخل العالم الروائي وفاعلة فيه، وتلعب دورًا واضحًا في سرد الأحداث، ورسم الشخصيات وتجسيد الانطباعات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©