الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في حاجة العدالة إلى شيء من النسيان

في حاجة العدالة إلى شيء من النسيان
16 سبتمبر 2015 21:56
هي إذاً المراحل الأخيرة من سباق محموم ضدّ الساعة البيولوجية لعجوز يعيش آخر أيامه -إن كان لايزال حيّا كما «يخشى» البعض- هو يصرّ على أن يمضيها هارباً، وهم يصرّون على أن يمضيها في السجن طلبا للعدالة. تعود آخر جرائمه إلى ما قبل ستين عاماً خلت. وقد خلت من كل شيء إلاّ من مطاردة محمومة في مسافات طويلة شملت دولًا ومدناً وقارّات ولم تسفر عن أي شيء، لكنها لم تتوقف يوما. بالأحرى، من سوء حظ الرجل أنه وجد نفسه أمام عدالة لا تعترف بالحق في النسيان. علماً بأنّ العفو (أمنستي)، في دلالته اللغوية اليونانية يعني القدرة على النسيان، وليس يخفى أن القدرة على النسيان تضمنها أيضاً إجراءات التقادم والتعويض عن الأضرار وطلب الصفح وإمكانية العفو والاعتذار، إلخ. لكن للرّجل حكاية أخرى: يبدو أنّه لم يُقدم للضحايا ما يكفي من صكوك الغفران والتكفير عن الذنب، جراء جرائم النازية التي سبق أن شارك في بعضها، ولذلك قرّر مركز سيمون فيزنتال الدّولي المتخصص في متابعة قدماء النازيين، تقديم ملف يؤكد ضلوع الدّكتور أربيرت هايم في جرائم ضدّ الإنسانية. واجب الذاكرة كثيرة هي الدول الأوروبية التي قامت في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي، بسن قوانين تستثني الجرائم ضدّ الإنسانية من قانون التقادم. والمقصود على وجه التحديد، جرائم المحرقة النازية. بحيث بدأ يتشكل وعي أخلاقي جديد ضدّ فضيلة النسيان، ويصطلح عليه البعض اسم «واجب الذاكرة». من أبرز ما يتضمنه ملف متابعة الدّكتور أربيرت هايم، أنّ الرّجل عمل في سنوات الأربعين من القرن الماضي، طبيباً في المعتقلات النازية، وكان يجرب على المعتقلين تلقيحات تهدف إلى تحسين النّسل. إضافة إلى مشاركته في تعذيب معتقلين كثيرين، ما أدى إلى وفاة بعضهم. المتهم سبق أن اعتقلته القوات الأميركية يوم 15 مارس 1945، و«أمضى سنتين من الأشغال الشاقة في مصنع للملح، وبنحو مفاجئ، أطلق سراحه عام 1947» (1). بعد ذلك عاد ليحيا حياة طبيعية وعادية داخل المجتمع، فعمل طبيباً في إحدى المصحات، وتزوّج ثم أنجب أطفالاً، ومع مرور السنين والأيام بدا وكأنّ كل شيء قد طواه النسيان. لكن، في عام 1961، وبنحو مفاجئ، عاد مركز سيمون فيزنتال للمطالبة باعتقاله بناء على ملف حصل عليه المركز من شهود كثيرين أفادوا تورّط الدّكتور هايم في جرائم ضدّ الإنسانية. ومن الملاحظ أن المركز إياه كان يقدم مكافأة مالية لكل شاهد أدلى بما يفيد تورّط أي شخص في جرائم المحرقة، باعتراف وتأكيد مدير المركز نفسه، إفراييم زوروف، في كتابه المعنون بـ «قناص النازيين» (2)، ما يعني أنّ أسلوب قناصي النازيين في بلوغ الحقيقة يشوبه الالتباس الذي يخلقه الجشع المالي، وهو ما لاحظه الكثير من اليهود الذين رفضوا التعاون مع مركز سيمون فيزنتال. في عام 1962، وبينما كانت السلطات الألمانية تستعدّ لإلقاء القبض عليه، تمكن الدّكتور هايم، من الهرب إلى خارج ألمانيا، بعد أن أودع ثروته المالية في أحد المصارف، لكي يستفيد منها أبناؤه في حال وفاته. وبعد فراره، «عاش بين سنة 1967 و1969 بمصر، ثم أنشأ مصحة في الأرغواي بين عامي 1979 و1983... وقد ساعدته الشبكة السرية الأوديسة، والمتخصصة في إخفاء قدماء النازيين» (3). في عام 2005، وقد أصبح عمر الرّجل وقتها يناهز الرّابعة والتسعين، تحدّثت العديد من الصحف الأوروبية عن بلاغ توصلت له السلطات الإسبانية، ويفيد بوجود الدكتور هايم داخل حدود الأراضي الإسبانية. وقتها ساد الاعتقاد أن «العدالة» قاب قوسين أو أدنى من القبض على الهارب المئوي. ورغم تحرّك الأمن الإسباني إلاّ أن الهدف لم يتحقق. قناص النازيين في عام 2008، أصدر مدير مركز سيمون فيزنتال كتابه الوثيقة «قناص النازيين». ترجم الكتاب في اللحظة الأولى لصدوره، إلى العديد من اللغات الأوروبية. وفيه تحدّث إفراييم زوروف، مدير المركز عن خلاصة تجربته الطويلة في ملاحقة قدماء النازيين، وعنون أحد فصول الكتاب بالعنوان التالي: «الدّكتور هايم، المبحوث عنه كثيراً». في هذا الفصل، يؤكد «قناص النازيين» أمله العظيم في أن يرى الدّكتور هايم وهو يمضي ما بقي من أيامه الأخيرة في السجن. ويوضح كيف أن هدف القبض على الدّكتور هايم، يدخل ضمن مشروع كبير يحمله المركز ويسمى «عملية الفرصة الأخيرة». لعلنا لا نجانب الصواب، إذا قلنا إن في العديد من الدّول التي يمارس عليها ضغط كبير، قد يصل أحياناً إلى حد الابتزاز العلني للنخب بل وللجمهور نفسه، عبر ملصقات دعائية وندوات صحفية ومراسلات دبلوماسية وتأليب للدّول، لأجل التعاون والانخراط في إعادة فتح ملفات الجروح القديمة، من دون الحديث عن أدنى فرصة للعفو أو الصفح أو الاعتذار أو طي صفحة الماضي، في الكثير من تلك الدّول، يندرج صعود نجم اليمين المتطرف ضمن الارتدادات العكسية للهجوم على حق تلك الشعوب في النسيان. نعم، القدرة على النسيان فضيلة في بعض الأحيان. فعلا، هناك جرائم ضدّ الإنسانية، وهناك أيضاً محاكمات واعتقالات وإعدامات، بصرف النظر عن حيثياتها ونزاهتها تعرّض لها أشهر القادة النازيين عقاباً لهم على ما اقترفوه من جرائم ضد الإنسانية، وهناك بعد هذه المآسي، مرحلة جديدة من التاريخ الألماني ودروس وعبر للبشرية جمعاء، لكن فوق واجب الذاكرة والحق في النسيان، ثمّة درس نسيه الناجون من المحرقة النازية، والناطقون باسمهم: حين تخفق الضحية في التفوّق الأخلاقي على الجلاّد، وحين تعجز عن التحرّر من مشاعر الثأر والانتقام، وحين لا تملك ما يكفي من الشجاعة لتقبل الاعتذار وقبول الصفح والغفران، فإنها تتحول إلى جلاد جديد، وقد تصير أشدّ وحشية وهمجية. أتذكر أيضا بالمناسبة – والمناسبة شرط كما يقال – كيف امتطت بعض التيارات المحافظة في مجتمعاتنا الإسلامية صهوة المظلومية والمحنة (إعدام سيد قطب، محنة ابن حنبل، مقتل الحسين...)، رغم أن المعذبين والممتحنين والمغتالين من التيارات الصوفية والعقلانية والجمالية كانوا الأكثر عدداً والأشد محنة والأعظم إبداعاً. المبالغة في «تطبيق العدالة» يقتل العدالة. لماذا؟ لأن القدرة على العفو، على النسيان، على المصالحة، على طي صفحة الماضي، على الإنصاف، على الاعتراف، على التسامح، على الغفران.. كل ذلك، هو أيضا من صميم العدالة، بل هو جوهر العدالة. ..................................................... 1- le nouvel observaeter 20 October 2005 2- Efraim Zuroff: «Chasseur de Nazis»، Michel Lafon، 2008 3- Le monde، 3 novembere، 2005
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©