الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بول شاوول: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات

بول شاوول: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات
16 سبتمبر 2015 21:56
يرى الشاعر اللبناني بول شاوول أن شعراء الحداثة العرب الكبار، باستثناء محمود درويش، تخلّوا عن طليعيّتهم الشعرية المتجاوزة منذ عقود، وعادوا إلى الأسلوبية الكتابية التي سبق لهم وثاروا عليها. أما سبب ذلك في رأيه، فيعود إلى أمرين: الأول، عدم مواكبتهم المستجدّات المتوالية على جبهة الشعر في العالم، وما يتقاطع معها، وفيها، من أبعاد نظرية ونقدية ومعرفية وفلسفية وأنطولوجية مولّدة لذاتها، ولأسئلتها، التي تنشق عن أقصى درجات التجريب بلا توقف. والثاني، انتفاء القلق الخلاّق لديهم، واكتفائهم بتجاربهم هم كمعيار تقويمي أوقفوا عليه حركة الحداثة في الشعر العربي الحديث. وبخصوص النقد، يشير إلى إنه لم يعد هناك من ضرورة للنقد أو فحص النصوص، كما هو سائد، أو وفق ترسيمات قبلية جاهزة. ويظن شاعرنا أنه ربما بعد خمسين سنة، ستبدأ تراكمات جديدة تؤسس من جهتها لمعايير فحص جديدة، تطلع من قلب النصوص عينها. وربما مع التحولات السريعة في حياتنا على كل صعيد، ستكون تلك المعايير المفترضة أسرع إلى إلغاء بعضها بعضاً، بحيث لا يعيش المعيار نفسه، حتى مدى زمن كتابة القصيدة نفسها.. تماماً مثلما هناك حشرات تعيش أقل من ثانية، وتعتبر نفسها معمّرة. شاعر التجريب المفتوح، وبلا هوادة إذاً، هو بول شاوول، والتجريبية لديه حلّت محل النظرية الشعرية، التي يجتهد خلالها كي لا يستنسخ خطابه الشعري. تجريبيته تؤسس، وكما يقول، الشعرية تطلع دوماً من قلب يومياته الحياتية بتفاصيلها، وليس أبداً، من قلب الكتب والنظريات المجردة. في ما يلي نص الحوار: * بول شاوول، هل روح «الفوضى العميقة» هي أساس كل شعرية ذات معنى؟ ** الشعر هو فوضى الذات، وهو «فوضى العالم» أيضاً. لكنها الفوضى التي تريد بهيوليتها ولاقولبتها، أن تحدث موقفاً حاسماً من كل ما هو مفروض من إيديولوجيات مغلقة، وأعراف محنّطة في كل شيء، وخصوصاً في عالم الشعر والكتابة والإبداع. إلا أنني في المقابل، لست مع نسف التراث بالجملة، أو مع ما يسمى إبادة اللغة، كما صرّح بذلك بعض السورياليين في فرنسا، أو بعض الشعراء العرب في الستينيات من القرن الماضي، ملوّحاً يومها بكلام تهويلي كبير، حول «ضرورة» تدمير التراث، وتدمير اللغة، وتدمير الماضي، وتدمير كل شيء بحجة أنه سابق.. وهذا أمر هرطقي بالتأكيد. * من تقصد هنا؟ وماذا تريد أن تقول بوضوح أكثر؟ ** نعم، بعض الشعراء العرب من جيل الستينيات، قال بالحرف الواحد إنه «سيفجر بالديناميت، ليس التراث العربي وحده، بل الحضارة العربية برمتها». ولا تسألني من هو لأنني لا أريد أن أدخل في سجال مع أحد هذه الأيام، خصوصاً إزاء قضايا مضى عليها أكثر من نصف قرن الآن. وثبت بطلانها وسخفها ومراهقات أصحابها، ممن كانوا يريدون، مثلاً، شطب ابن رشد، وابن سينا والفارابي، ولبيد بن ربيعة وطرفة بن العبد والمتنبي وأبي تمام والجاحظ وأبي العلاء وأبي حيان التوحيدي، وابن خلدون وديك الجن الحمصي، وصولاً إلى جبران خليل جبران، أجمل الفوضويين في الشعر العربي المعاصر. كل هؤلاء، وغيرهم كثر، أراد ويريد، بعض الحداثويين العرب المراهقين شطبهم بالجملة، لينسب إلى نفسه حدث التغيير القاطع، منطلقاً من نقطة الصفر، والصفر كما تعرف، لا ينتج سوى أصفار. لم تصمد نظريتهم التمرّدية المزعومة طويلاً. فهم، كما أرى، ظهّروا صور تمردهم في قصائد بحالها، أو كتاب شعري بحاله، ثم عادوا القهقرى إلى البنية االشعرية عينها التي ثاروا عليها، أو على الأصح إلى الشعر الحداثوي الذي كان موضع نقدهم وثورتهم عليه. * لم يعد السكوت ممكناً يا بول.. من تقصد بصراحة؟ ** أقصد الراحل الكبير أنسي الحاج في ديوانه الأول والأهم: «لن»، فهو قد انطلق بهذه البداية الشعرية الانقلابية الرائعة، لكنه عاد فانكفأ عليها في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع».. وهو ديوان في عمقه ديني. لغته توراتية ومسيحية، تُذكّر بـ«نشيد الأناشيد». أدونيس أيضاً، صاحب النظريات والانقلابات الشعرية الحديثة، عاد بدوره منسحباً إلى التقليد الشعري الغنائي الحداثوي الذي ثار عليه. * كيف؟.. أين؟ فأدونيس في بداياته «قالت الأرض»، غيره مثلاً في «المسرح والمرايا»، و«وقت بين الرماد والورد» أو«مفرد بصيغة الجمع»... إلخ؟ ** بدايات أدونيس الفعلية – حسب رأيي - كانت في «أغاني مهيار الدمشقي»، وقد تأثر فيها بالصوت النيتشوي الفائض التمرد. ومن بعد ذلك لم يكن جديده إلا لغوياً فقط. وعلى أي حال، ليس هذا مثلبةً بحد ذاته، إذ يكفي الشاعر أن يضع ديواناً واحداً متميزاً ليستحق لقب الشاعر إلى الأبد. ثمة ظاهرة شعرية غريبة لاحظتها منذ مدة، تتلخص في أن جلّ شعراء الحداثة العرب الكبار، كان ديوانهم الشعري الأول هو الأهم. محمد الماغوط، في «حزن في ضوء القمر»، وأنسي الحاج في «لن»، وأحمد عبد المعطي حجازي في «مدينة بلا قلب»، وسعيد عقل في «قدموس». وهذه الظاهرة يجب أن تُدرس بتمعن نقدي جدّي، بعيداً عن مرمى القول الاستنتاجي السريع. * ما تقوله ليس صحيحاً في الإجمال، فالديوان الأول للسياب مثلاً: «أزهار ذابلة»، ليس مهماً البتة، مقارنةً بـ«أنشودة المطر»، وكذا بالنسبة لخليل حاوي، فديوانه الأول: «نهر الرماد» ليس بأهمية الثاني: «الناي والريح»، وديوان الحيدري الأول: «خفقة الطين»، أقل أهمية بكثير من ديوانه: «حوار عبر الأبعاد الثلاثة»...إلخ. ما تعليقك؟ ** ربما يصحّ تقييمك هنا على نتاج السياب والحيدري. أما الشعراء الآخرون ممن ذكرت، فبالتأكيد خلافي معك حول تقييم تجاربهم سيظل قائماً. فما أراه أنا مثلاً، قد لا تراه أنت، أو يراه غيرنا.. وهذا طبيعي. أنا أسوّق، في النتيجة، رأياً تقويمياً ذاتياً، بناء على تجربتي القرائية والنقدية المتابعة لنتاج هؤلاء الشعراء، وغيرهم كذلك، في سياق مسار الحداثة في الشعر العربي. * مفاجئ لي أن تبدو قاسياً، ولو بعض الشيء، على تجربة أنسي الحاج، الذي اعتبره شخصياً أهم صوت شعري عربي حديث، خصوصاً لجهة أنه «شاعر بلا أسلاف»، ولغته الشعرية كانت فعلاً تأسيسية ومغايرة، أكثر بكثير من لغة أقرانه من رادة الشعر العربي الحديث ومن تلاهم أيضاً؟ ** وهل تزايد عليّ في تقييم تجربة أنسي ورياديته الشعرية يا أحمد؟! أنسي ولا شك شاعر كبير، وبصماته عالية جداً، بل مفارقة للغاية في فضاء الشعرية العربية الحديثة. وإذا ما سبق لي وقلت بأنه بدأ بداية مغايرة وقوية بتفردها الشعري، من خلال: «لن»، وإنه عاد فتراجع في قلب مسار تجربته، أو خطّ تطور أسلوبيته المغايرة نفسها في ديوانه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، فإن هذا التراجع هنا يخصّه هو وحده، وهو وحده يتحمل المسؤولية النقدية والتاريخية الناتجة عنه، والتي لا يفيد معها أي إنكار موازٍ لها كحقيقة أدبية قائمة. * وماذا تقول في دواوين أنسي: «الرأس المقطوع»، «ماضي الأيام الآتية»، و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة؟»، والأخير في رأيي لا يقل خطورة شعرية عن «لن»، إن لم يكن يتجاوزه؟ ** ديوان «لن»، أكرر هو الأقوى، وهو الأكثر تمثيلاً لتجربة أنسي الحاج كشاعر عربي ريادي كبير. * ما الذي تقصده بالتراجع الشعري لدى أنسي هنا؟ اشرح لي أكثر؟ ** دعني أوضح بأنني لا أقصد هنا أنسي الحاج بمفرده، بل أدونيس أيضاً وغيرهما من شعراء تعرفهم أنت، وأعرفهم أنا. التراجع يحصل، لأن الشعراء المعنيين، انقطعوا عن أمرين: الأول، مواكبة مسارات الشعر الجديد في العالمين العربي والأجنبي. والثاني، تخلّيهم هم عمّا يمكن أن أسمّيه بـ«التجريبية الخلاّقة». هكذا، فإن أسوأ ما في شعرائنا هو أنهم تكرّسوا، واكتفوا بـ «تجريبيتهم» المراوحة في مكانها، أو على الأصحّ المتراجعة عما كانت عليه في الواقع. التكريس إذاً، واقتناعهم به، هو المشكلة المركزية لدى شعرائنا، أو هو المرض العضال الذي يتخبّطون فيه. والتكريس مشتق من الكرسي، أي القعود والسكون والاقتناع والقناعة.. هذا من جهة. من جهة أخرى، انتفى لدى شعرائنا هذا القلق الخلاّق، أو ذاك السؤال الشعري المفتوح على مفاجآت الذات الشعرية، وما تختزنه من انفجارات إبداعية قادرة على مواجهة دورات هذا العالم الرهيب. لقد استسلموا للدعة والطمأنينة والركون إلى أن كل ما يكتبونه هو الجديد بعينه، وهو المؤسس «الدائم» للآتي الشعري. * وما هو مفهومك لمصطلح «التجريبية الخلاقة» كما ذكرت، وهل هي حلّت محلّ النظرية الشعرية لديك؟ ** مفهوم التجريبية بكل بساطة، هو أن يظل الشاعر الحي يقوم بتطهير تصوره للعالم عبر القصيدة. وأن تظل كل قصيدة يكتبها، مثلاً، أو مجموعة شعرية ينجزها، مختلفة كلياً عن سابقاتها، وذلك عملاً بقوة الاختبار، والنقد الذاتي، وضرور الإتيان باجتراح شعري مغاير، يظل يستوعب حراك الإنسان في الزمان أو الوجود، وتوزعه على حاضر وماض ومستقبل، وكينونة تظل تطرح تحدياتها على البشرية كافة، وما أكثرها بالنسبة إلى الشعراء الكبار في كل شيء.. ومن هنا، نعم، يصح ما تقوله حول أن التجريبية حلّت، وتحلّ باستمرار، محلّ النظرية الشعرية. محمود درويش.. عكس التيار ---------------------- * وكيف تعاين تجربة الشاعر محمود درويش، الذي انطلق في بداياته من كيمياء شعرية عربية، تجمع بين: السياب وقباني والبياتي ثم حاوي وأدونيس، مروراً بتجارب متوسطية: لوركا، كفافيس، إيليتس، ريتسوس، فاسكو بوبا...إلخ وصولاً إلى بلورة صوت شعري خاص به، ومتجاوز فعلاً؟ ** وحده محمود درويش بين شعراء الحداثة العرب الكبار، سار عكس التيار فعلاً. بمعنى أن بداياته الشعرية كانت متواضعة للغاية، أو فلنقل إنها كانت عمومية، يكتبها الجمهور لنفسه عبر محمود، أكثر مما يكتبها محمود لنفسه وللجمهور معاً.. ثم اختلفت قصيدته وتغايرت كلياً في ما بعد. باختصار، قصيدته كانت هي القصيدة – القضية، وكانت قدراً عليه، وعلى كل الشعراء والمناضلين الفلسطينيين معه. لكن محمود عرف كيف يتخطّى هذه العقدة الضمنية، وبجدارة الشاعر القوي فيه، جاعلاً الرافعة السياسية، بالتالي، تتراجع أمامه لمصلحة إعلاء الصوت الشعري الخصوصي المستقل لديه. وكانت تلك «الشعرية النضالية الدرويشية»، هي سبب خلافي معه، وسبب كل السجالات التي دارت بيننا، في مطالع الثمانينيات من القرن الماضي في بيروت، وخصوصاً بعدما كتب هو في «السفير»، مُهاجماً شعر الشعراء الشباب في لبنان والعالم العربي، صارخاً وقتها صرخته الشهيرة: «أنقذونا من هذا الشعر». وكان الدرويش حينها، على ما أظن، قد ضاق ذرعاً بشعر الأغلب الأعم من الشباب العرب، ممن لم يعودوا يهجسون بالمضامين السياسية والنضالية التي كان هو يهجس بها. كان سجال بيننا، أخذت فيه على محمود حينها خندقة الشعر في إيديولوجيا معينة، أو تعليبه في إطار مناصرة القضية الفلسطينية، التي كنت ولم أزل، في المقدمة من داعميها، والدفاع المستمر عنها، لأنها قضية حق وعدل ضد مغتصب ومحتل. لكن القضية شيء، والشعر شيء آخر، حتى وإن كتب الشاعر باستمرار بوحي منها، أو بوحي من أي قضية أخرى محقة وعادلة. * ولكن يا بول، محمود درويش، ومنذ زمن طويل، وقبل أن يطلق نداءه في صحيفة «السفير» في الثمانينيات: «أنقذونا من هذا الشعر»، كان قد سبق له وأصدر نداء مشابهاً في العام 1969 تحت عنوان: «انقذونا من هذا الحب القاسي» نشرته مجلة «الجديد» في الأرض المحتلة، ركّز فيه على اتّباع المعايير الفنية لا السياسية وحدها في كتابة الشعر.. ما يعني أن الرجل كشاعر، كان واعياً لمسألة الإيديولوجي وغير الإيديولوجي في الشعر.. بماذا تعلق؟ ** صحيح ما تقوله، لكنني كنت أعلّق وقتها على ندائه الذي أثاره عبر صحيفة «السفير» اللبنانية، وكنت أيضاً مهتماً كثيراً بما يكتبه وينشره من شعر، وما يصدر عن لقاءاته الصحافية، من أحكام ومعايير نقدية حول شعر الآخرين. لكن محمود وكشاعر كبير، كان لا يأبى إلا أن يفاجئ نفسه، وقبل أن يفاجئ الآخرين، بانقلابات شعرية ذاتية، تقطع كلياً مع كل ما سبق وسجلّه في خطّ مساره الشعري المنفتح على مجهول الابتكار. فعندما أصدر مجموعته الشعرية: «سرير الغريبة» في العام 1999، صدم محمود درويش المشهد الشعري الفلسطيني والعربي بأسلوبيته الجديدة. بدا وكأنه يكسر تاريخا مديداً من الكتابة داخل مناخ شعر الوطن والثورة والمقاومة، والذي اعتاد عليه جمهوره العريض، من فلسطينيين وعرب. حتى أن البعض نقم على محمود، بسبب هذا التحوّل الذي أحدثه من خلال «سرير الغريبة»، واعتبره خائناً لثوابته الوطنية، ووجدانه الفلسطيني الجمعي والنضالي. أما هو، فأمعن في تمرده الفني، وأخلص لنداء الشعرية الداخلي فيه، بمعزل عن ردود فعل قرائه ومحبيه. وهكذا جاءت مجموعته «سرير الغريبة» بمثابة ملحمة حب مفارقة في كل شيء، داخل فضاء تجربته، ذات المنحى الغنائي العام. شخصياً، قرأت مجموعة «سرير الغريبة»، ولم أصدق للوهلة الأولى أنني أمام هذه النقلة الشعرية الهائلة التي حققها محمود درويش. بدا خلالها وكأنه شاعر جديد، غيره تماماً في جميع دواوينه السابقة. هكذا، وبالنقلة الشعرية التي أحدثها، من خلال ديوانه المفارق، بل أيقونته الشعرية المتوهجة: «سرير الغريبة»، أستطيع القول جازما،ً إن الدرويش تحوّل إلى ظاهرة شعرية عكسية بين رواد الشعر العربي الحديث. لقد بات بينهم بالفعل، هذا البادئ المتواضع، والرائد المتأخر. * إذن، وحسب استنتاجك، شعراء من طراز: أدونيس والحاج، وحاوي، والماغوط، وحجازي، وصلاح عبد الصبور، وغيرهم.. كيف سيجري حكم القيمة النقدي عليهم؟ وما هو موقعهم في مسار حركية الإبداع الشعري العربي الحديث بمقاييس تجريبيات اليوم والغد؟. ** أولا،ً لنكن منصفين.. هؤلاء وغيرهم من شعراء عرب، رفدوا الشعرية العربية الحديثة بنَفَسٍ جديد، وبأفكار جديدة، استفدنا منها نحن كجيل شعري لاحق عليهم، وتحديداً شعراء السبعينيات. تعلّمنا منهم الجرأة، الرفض، المغامرة، القلق الوجودي، كسر التابوات وكل ما هو مفروض تاريخياً، بما في ذلك تقديس التراث وتوثينه. لكنهم لم يكملوا مشوار المثاقفة الشعرية والمعرفة النقدية والتقويمية المفتوحة على نتاج الشعراء الذين لحقوهم، عربياً وعالمياً. اكتفوا بتجاربهم هم، وأوقفوا حركة الشعر العربي الحديث عندهم. أجيال الشعر شعراء اليوم -------- * ماذا عن التجارب الشعرية الشبابية العربية اليوم؟ ** شعراء اليوم يعيشون واقعهم أكثر مما يعيشون ثقافتهم. إنهم يعبّرون عن يومياتهم، عن فوضاهم، عن عبثهم المقيم والمتشظّي في آن، جرّاء الحروب والانهيارات في كل شيء. ثمة تفاوت بين المعطى الثقافي لديهم، والمعطى اليومي الحياتي والمعيشي، يظل يتسع هذا التفاوت، ولكن، دوماً، على حساب الشعرية وأسئلتها الجديدة أو المبتكرة لديهم. وهكذا، فإن فقر شعرهم أحياناً، كان يمكن له أن يكون ثرياً جداً، لو أنهم اهتموا بردم الهوّة بين حياتهم اليومية وبين ثقافتهم الشعرية. إنهم سريعون ومتسرّعون في كل شيء، ولا تخدمهم الاهتزازات الكبرى والقاسية في الواقع السياسي والحياتي العربي الذي ينحدر دراماتيكياً من سيّئ إلى أسوأ يومياً.. مدمراً معه كل شيء. باختصار، ما ينقص أغلب هؤلاء الشعراء هو معرفة تراثهم الشعري القريب والبعيد، وذلك على الرغم من تحلّيهم بالطموحات الشعرية المفارقة، وخرق المألوف. ثم إن «ثقافة الإنترنت» التي تستحوذ على أغلبهم، تضرّ بهم أكثر مما تخدمهم، تجعلهم أصحاب ثقافة شعرية ونقدية شوهاء. غير أنني في المحصلة، لا أقف على الضد من تجاربهم، ولا أستخدم معهم لعبة الأب ووصاياه وتوجيهاته. * لكن ذلك كله لا يلغي تعامل الجيل الشعري الجديد (أنموذج لبنان) مع جيلك الشعري (ومن سبقه بالطبع) بشيء كبير من القطيعة و«قتل الأب»، والاتهام بأنكم صرتم مترهّلين شعرياً وثقافياً وحتى إنسانياً، خصوصاً حين يُحمّلونكم مسؤولية التسبّب بالحروب الأهلية ونتائجها الكارثية؟ ** من حقهم أن يقولوا ما يشاؤون فينا، كأن يعتبروننا، مثلاً، جزءاً من مسؤولية الحرب الأهلية ومآسيها، وذلك ربما لانخراط البعض من جيلنا الشعري في معاركها، أو في لعبة الارتزاق بسببها، واستطراداً التفريط بالقضايا الوطنية الجامعة. كتبت في العام 1981 مقالة بعنوان: «مقامات المثقفين»، حملت فيها على كل الشعراء اللبنانيين الذين انخرطوا في الحرب الأهلية، سواء مباشرة أم بالوكالة السياسة، مباركين صنوف القتل والمجازر. كما هاجمت أيضاً كل من استسلم لواقع تقسيم بيروت إلى بيروتين: «شرقية» و«غربية». وقد علّق بعضهم يومها ساخراً: «وأين تريدنا أن نقيم؟..على المتحف بينهما؟ (في إشارة إلى المنطقة الفاصلة بين البيروتين وقتها والمتضمنة مبنى متحف لبنان). طبعاً لم يفهم المعلّق الحصيف يومها موقفي الرافض للحرب الأهلية، وتقسيم العاصمة، واستطراداً تقسيم المجتمع والوطن بأسره. وأستدرك فأقول: إن الشعراء الجدد على حق عندما يُحملّون البعض من جيلنا الشعري المسؤولية الأدبية، وربما التاريخية، عن الحرب الأهلية اللبنانية، لكنه الحق الناقص يا صاحبي. فما ينقصهم (وهنا أحصر كلامي في الشعر فقط) هو الانفتاح على الشعر العربي بقديمه وحديثه، والشعر الأجنبي باتجاهاته وانقلاباته، والنظريات النقدية والمعرفية المرتبطة به، أو المتقدمة عليه، وذلك كي يُعوّضوا ويُحدثوا تمايزهم الإبداعي المنشود. فلا يمكن البتة لهم أن يرفضوا كل شيء من غير أن يقرؤوا شيئاً، أو يعرفوا شيئاً في المقابل. * هل الشاعر الحقيقي هو من يبادر إلى تصفية الشعر من كلاميّته؟ ** طبعاً.. طبعاً، فالشعر مصفاة اللغة، فن الحذف، وليس فن التراكم والإسهال. وهذا ما نهجت عليه، وما أزال. قصيدتي:(أوراق الغائب)مثلاً، استمررت في كتابتها ستة أعوام، من العام 1986 إلى العام 1992، وكانت متوزعة على 500 صفحة. عمدت إلى تصفيتها بشكل قاس، حتى جاءت بـ60 صفحة. وكثيراً ما كتبت قصائد على مدى سنة أو سنتين، ولمّا اكتشفت أنها رديئة، مزقتها بلا شفقة. هكذا، فالنقد الذاتي عند الشاعر يتجسّد أيضاً في هذا النبل اللغوي، والحنان القاسي على القصيدة. * هل بإمكانك القبول بنص شعري يحذف القارئ من شرطه؟ ** في رأيي، ليس هناك شيء اسمه الشعر بصورته النظرية المسبّقة. الشعر يبدأ مع نهاية كتابة النص الإبداعي. وهكذا فأن تقول، مثلاً، إن الشعر هو كذا.. وكذا، هو قول بائس ولا قيمة له بتةً. وفي أثناء عملية الكتابة، عليك، استطراداً، ألاّ تهجس بقارىء أو ناقد، أو أي نظرية شعرية أو نقدية قائمة.. فقط عليك رمي نفسك في أتون كتابتك وما تشترطه هي عليك. * هل أفهم إنك تخترع نظرية أدبية أو نقدية، قوامها أن النص الشعري يخضع للتوصيف بعد الانتهاء من كتابته؟ ** بإمكانك أن تقول ذلك، نعم. اسمعني جيداً. القرن العشرون كان قرن الشعر والمسرح والرواية والفلسفة والإيديولوجيا. كل شاعر وكل مسرحي مثلاً، كان لديه نظرية سابقة يكتب على أساسها، أو ينطلق منها وكأنها وصية دينية مقدسة، أو إلزام مرجعي ديكتاتوري لا حيدة عنه مطلقاً. مثلاً، الشاعر أندريه بروتون، وبعدما وضع بياناته السوريالية الثلاثة، دعا غيره من الشعراء إلى الالتزام الشامل بها. وبصفته عرّاب السوريالية الأول، ومن قبلها الحركة الدادائية، فقد طرد آنتونان آرتو وجاك بريفير وحتى بول إيلوار من(جنته الشعرية)، لمجرد أنهم خالفوا بياناته. على مستوى المسرح، كان هناك المسرح الكلاسيكي، أو مسرح العلبة الإيطالية، ثم كانت الثورة عليه، وبات المخرج لا النص، هو سيد المسرحية، ثم أطلّ أنتونان آرتو بنظرياته المسرحية، وأعقبه برتولد بريخت بالأورغانون النظري خاصته، وتلاه البولندي جيرزي غروتوفسكي بنظرية(المسرح الفقير).. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الرواية الفرنسية الجديدة مع آلان روب غرييه، والتي أعقبت سلسلة الروايات الواقعية.. وأيضاً على المستوى الفلسفي، حيث جاء سارتر بالوجودية التي تحوّلت إلى تيار فلسفي يشدّد على تفرّد الإنسان وحريته المطلقة... إلخ. مهما يكن من أمر، فالقرن العشرون إذاً، كان يملي على كل شاعر أو مسرحي أو روائي أو فيلسوف، أن يضع بيان مرجعيته المسبق نصب عينيه، قبل أن ينطلق في كتابة عمله الإبداعي. أما اليوم، فالأمور اختلفت أو ينبغي لها أن تختلف جذرياً عما سبق، على الأقل لجهة ترسيخ(نظرية)الشعر الذي يأتي بعد كتابته. * اسمح لي بالقول يا صديقي إنك لم تأت بجديد هنا. فما انتهيت إليه، كان قد نظّر له نقاد وشعراء وفلاسفة ما بعد الحداثة في الغرب منذ عقود، ومنهم الفرنسي جان ليوتار، وشعراء ونقاد أميركيون من أمثال: جوناثان هولدن ودينس ليفيرتوف (شاعرة)، وديفيد بيركنز، وجيمس لونغيبنباك، وجيروم مازارو، وجيرارد غراف، وغيرهم.. وغيرهم، ما تعليقك؟ ** ما أقول به، وأدعو إليه، يتجاوز تنظيرات شعراء ونقاد وكتّاب ما بعد الحداثة. غير أن هذا لا يمنع أن ألتقي معهم في مسائل عديدة، لعل أهمها هذا الابتعاد عن مجال التأمل التمجيدي للشعر، وخلو القصيدة من وعاء الشكل المسبق، وكذلك الكتابة وفق التشظي النفسي اللحظوي، والنهل من مرآة الذات المستقلة وغير المستقرة.. فضلاً عن محو كل البدايات وحراك توهّم كل النهايات. كما ألتقي معهم أيضاً حول عدم الركون، في أثناء الكتابة، إلى أي قواعد ومرجعيات سابقة. * يعني صرت تكتب النص الإبداعي الآن، متحرراُ، حتى من أي تراكمات وهمية مسبقة.. وعليه، فما الذي بات يحرّضك إذاً على الكتابة الشعرية أو الهجس بإفراغ حمولاتها؟ ** أنا دائم الهجس بالكتابة الشعرية وتسجيلها، كوني أعيش يومياتي بأدق تفاصيلها، وكوني أيضاً على انخراط معرفي ونقدي بكل ما يطرأ على هذا الصعيد. تأتيني، مثلاً، الأفكار، فأختبرها وأعرّيها وأتمثلها في بوتقة ذاتي الواعية واللاواعية، وبعد ذلك أحاول الاستفادة منها كشاعر يظلّ يتقاطع معها، ويستقل عنها في آن. كما أن من مهماتي أيضاً إحداث مثاقفة حرة ونافذة مع كل إبداع جديد.. وفي الوقت ذاته مع كل إبداع قديم، في تراثي العربي، كما في تراثات الآخرين. انطلاقاً من هذا، وربما بناء عليه، أجد نفسي وقد تحررت من القبليات النظرية كلها، في الأدب والشعر والفنون والنقد، ومختلف المعارف القائمة والمستجدة. وبالتالي، فإن كل نص أكتبه يخضع بعد انتهائه، ليس للتصنيف فقط، وإنما لاكتشاف الأسرار ولعبة المنطلقات والاستيحاءات والمحرّضات على اختلافها.. إلخ. * أتريد أن تقول لي الآن، وبصيغة نهائية، إن التجريبية الكتابية بلا تجنيس أدبي قبلي، حلّت لديك محلّ كل المحرّضات والمنطلقات السابقة لفعل الكتابة؟ ** هذا ما أنا فيه الآن، وعلى نحو كبير. نعم، التجريبية هي أساس كل كتابة إبداعية. اليوم مثلاً، وبعدما فرغت من ترجمة كتاب:(أنطولوجيا الشعر الفرنسي الحديث 1900 – 1985). وكذلك بعدما أنهيت ترجمة كتاب آخر عن الشعر الفرنسي الحديث من 1945 إلى 2015. تبيّن لي، وبعد اطلاع متفرّس في نصوص الشعراء الجدد، أنه لم يعد هناك، بالنسبة إليهم، روّاداً للشعر، ولا مرجعيات له، ولا مدارس نقدية أو أي محدّدات نظرية مسبقة. في المسرح أيضاً، وبعد قراءتي لـ 45 مسرحية، لكتّاب دراما جدد، تتراوح أعمارهم بين 20 و 40 عاماً، اكتشفت أن ما يجري في الشعر، يجري على مستوى المسرح أيضاً، أي أن التجريب هو سيد الموقف، وهو تجريب – كما أسلفت - بلا مقدمات، ولا سقوف إيديولوجية، أو فلسفية، أو نقدية، أو غرارية مسبقة. الحرية هي المبتدأ هنا وهي المنتهى. وأستطيع القول بعد، إن الذي قرأته من نتاجات شعرية ومسرحية للأجيال الإبداعية الجديدة في فرنسا وأوروبا بعامة، أراحني كثيراً، وأفرحني أكثر، لأنه عبّر عن حساسية عارية جديدة، وجواذب فنية غير مسبوقة لدى المبدع الأوروبي الجديد. بينما حساسية من سبقه، لم تكن عارية البتة، بل مقنّعة ومسرّبلة بالإيديولوجيا والتنظير. وما لاحظته بعد، أن هناك تقارباً بين الشعراء الجدد الفرنسيين، وبعض نظرائهم الجدد في لبنان. لكن ما يريح الشعراء الشباب في أوروبا، هو أن هناك مجتمعاً يتفهمهم ويشجعهم ويستوعب محاولاتهم.. بينما شبابنا المبدع نحن، في لبنان والعالم العربي، لا سند له، ولا مشجع، ولا ناقد يعبّد له الطريق ويصوّبها بتجرد. فوق هذا وذاك، وبعدما ترجمت أكثر من عشرة آلاف قصيدة لشعراء جدد من فرنسا وإسبانيا والبرتغال واليونان، أستطيع القول إن ذلك مكّنني فعلاً من الاتصال بالكثير من الأصوات الشعرية الغربية الجديدة، والوقوف على آخر مستجدات قلقها الشعري، والبنى اللغوية والتصورية الحاملة لإبداعها، والمتصاعدة به، عبر كل حرف، وكل لفظة، وكل عبارة. وهذا كله أمدني بقناعة راسخة ترى أن وراء هذا النتاج الشعري الجديد، شعراء متحررون كذلك من عقد العجرفة والفوقية وادعاء العظمة. لقد استفدت منهم كثيراً، أمدوني بدم رؤيوي جديد، وفرضوا عليّ، من باب تقدير الأشياء وتقويمها، النفاذ إلى صميمهم أكثر فأكثر. * لنتحدث عن القصيدة الجديدة في آخر نموذجها الفرنسي أو الأوروبي.. وهل تنحو هذه القصيدة مثلاً إلى الإختزال؟ ** الاختزال تفصيل، وهو موجود عند الرواد الفرنسيين، وكذلك موجودة عندهم(الثرثرة الشعرية).. الشاعر آراغون هنا، مثالاً لا حصراً. مع الشعراء الأوروبيين الجدد، لم يعد هناك من وجهة للشعر. كل شاعر له وجهته الخاصة. وأسلوبيته المتفردة، يجترحها بمعزل عن آلهة(التنوير الشعري)كبودلير، وفاليري ومالارميه، وكذلك سائر شعراء السوريالية وما بعد السوريالية، ومن لحقهم من شعراء. لم يعد هناك أفق جماعي للقصيدة. انتهت كل المعايير السابقة والراهنة. وأظن أنه بعد خمسين سنة، ستبدأ ثمة تراكمات قد تؤسس لمعايير جديدة طالعة من نصوص هؤلاء الشعراء الجدد. وأظن أن هذه المعايير، وفي وسط التحوّلات السريعة في حياتنا، ستكون أسرع في إلغاء بعضها بعضاً. وقد لا يعيش المعيار هنا، حتى مدى زمن كتابة القصيدة نفسها. وقد يصير المعيار هو ما سيكتبه الشاعر، لا ما كتبه. أي أننا دخلنا زمن انتفاء النبوءة والتنبؤ لدى الشاعر، وباتت لحظته الشعرية تصنع بذاتها نبوءتها وتئدها مباشرة، تماماً كما هناك، مثلاً، حشرات تعيش أقل من ثانية، وتعتبر نفسها معمّرة. سبعينيّو لبنان في رأيي، جيل السبعينيات الشعري في لبنان، هو الأهم بين من كتبوا عن تجارب شعراء جيلي الخمسينيات والستينيات في لبنان والعالم العربي، تعريفاً، نقداً وتقويماً. لذا هو جيل لم يقتل الآباء البتة، بل قتله الآباء، الذين راحوا يوقفون الشعر، بل الحياة والزمن على تجاربهم فقط. وربما كان من حظ الجيلين الشعريين المذكورين، أننا جئنا بعدهم، وكنا أكثر من موضوعيين في قراءة ما قدموه، من موقع اندلاعنا الدائم على حراك الثقافات الشعرية والنقدية المستمر في العالم أجمع. آباء قدامى * من هم آباؤك في الشعر يا بول؟ ** في بداياتي تأثرت بجبران خليل جبران وأمين نخلة وسعيد عقل. وهناك ثلاثة من الشعراء الفرنسيين أسسوا لديّ تلك الرؤية الشعرية المفتوحة على كل شيء: بودلير، رامبو ومالارميه. ومن آبائي من الشعراء العرب: لبيد بن ربيعة وطرفة بن العبد في الجاهلية، وأبو تمام في العصر العباسي. اعتذار * هل تقبل من شاعر تقليدي أن يجدّد منطلقاً من قصيدته العمودية الغارقة في أسلوبيتها الموروثة؟ ** إذا استطاع شاعر العمود التقليدي أن يعبّر عن مخزونه الإبداعي بلا تقليد للشكل الكلاسيكي المتعارف عليه، فلم لا؟ يعني إذا اشتغل الشاعر، منطلقاً من عمودية أخرى تماماً: لغةً، بناءً، صرفاً، نحواً وإيقاعاً، وظهرت قصيدته بقالب جديد، فأنا سأكون أول من يؤازره ويتحمّس لتجربته، لأنه بذلك يكون قد أنجز قصيداً موزوناً بنكهة خارقة للمألوف. وينبغي لي أن أنوّه في هذا المقام، إلى أنني، ومنذ سنوات، قدمت اعتذاراً للقارئ عن بعض الآراء المتطرفة التي سبق لي وأن جزمت فيها بالقول إن قصيدة النثر هي آخر الطريق في الشعر، وإن القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة باتتا عاجزتين عن التعبير عن إملاءات العصر وشروطه. هذا الكلام اعتبرته فاشياً، وفيه نوع من «التبصير»، ولهذا أجدّد اعتذاري لمن لم يقرأني أو يسمع ندائي السابق. لحظة إنسانيّة * هل صحيح أن الأمور عادت إلى مجاريها الطبيعية بينك وبين أدونيس، وذلك بعد عقود طويلة من الجفاء، بل العداء المستحكم؟. ** عندما دخل أدونيس مستشفى الجامعة الأميركية في ب يروت منذ مدة، ليعالج من مرض غير اعتيادي، غارت الدنيا في عيني، وتبدّد من رأسي كل جفاء، وقررت فجأة أن أزوره وهو على فراش العملية الجراحية في المستشفى، والتي تكللت لاحقاً بالنجاح والحمدلله. تفاجأ أدونيس بزيارتي. قرأت في عينيه بريقاً من كيمياء فرح وطيبة ودهشة محبّبة، انعكس ذلك كله بالترحيب غير الاعتيادي بي. وكانت في الحقيقة لحظات إنسانية مشتركة، عالية في دلالاتها وأبعادها وتجاوزها لكل الرواسب والخلافات بيننا. يا صديقي، في لحظات مرض الشاعر، يسقط في يقيني أي أثر لأي خلاف أدبي أو شخصي، مهما علا شأنه وتعقّد أمره، وخصوصاً هنا مع شاعر كبير وحيوي مثل أدونيس، خضنا معاً سابقاً، معارك واحدة انتصاراً للشعرية العربية الحديثة، وقيم خطاباتها الفنية والانقلابية في قلب الحياة الثقافية العربية. ثم ما قيمة الشاعر، إذا لم يكن إنساناً بريئاً، شفافاً، متسامحاً، إيثارياً، محبّاً، وخصوصاً في الظروف المرضية الصعبة والمصيرية التي يمر بها أصدقاؤنا الشعراء؟ بيروت جمعتنا مع أدونيس، ولا تزال تجمعنا، وهو جزء منّا، ونحن جزء منه. شعراء الكتب * كخلاصة مكثفة، ماذا تقول في خطاب شعرية شعراء الستينيات العرب؟ ** على وجه الإجمال، شعراء الستينيات العرب هم شعراء الكتب. تجاربهم «المتمردة» طالعة من لهب التنظير لذاته. قدموا مثاقفة غير خلاّقة بين الشعر العربي والشعر الأجنبي. بينما نحن، جيل السبعينيات الشعري، جئنا في زمن الحروب والقلق والخوف والثورات والصراعات والأيديولوجيات، فحمل شعرنا، وعلى الرغم من لاخطابيته، مزيجاً من المكابدات الدرامية الغائرة، والمواقف الواقعية الموشحّة برمزيات قوية ودالة. كان شعرنا شعر التجربة التي تغلي وتفور بتفاصيل الحياة اليومية. كما لم تكن مثاقفتنا مثاقفة ساذجة، سواء بالغرب الشعري والنقدي والمعرفي العام، أم بمرجعيات تراثنا العربي، القديم منه والمعاصر. وكفانا احتراماً للشعر، ولأنفسنا أيضا، أننا لا نردّد كما ردّد غيرنا ممن سبقونا: «كل شيء قيل وما من جديد».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©