الصاحب ساحب

لا يعرف الصديق إلاّ في وقت الشدة، فكم من الذين كنا نحسبهم أصدقاء تخاذلوا، عند أول شدّة، أو ضنك من العيش، تخاذلوا وخذلونا وكنا نضع فيهم كل الأمنيات! لا تُفهم الحياة مهما قرأنا عنها في الكتب، وشاهدنا من أفلام ومسلسلات، وحدها هي التجارب التي تصقل الإنسان، فالحياة ميدان تجارب يتعلم فيه قيمتها ومعناها، لأن تجارب الإنسان هي التي تصهره، تكويه بنارها أحياناً وتجلده بسياطها أحياناً، يحتك بالآخرين، يحكّهم ليعرف جوهرهم، واللآلئ تحتاج للغوص في الأعماق فهي لا توجد على السطح. لن تعرف قيمة السعادة والفرح إن لم تجرب الحزن، ولن تعرف قيمة المال إن لم تتعب في كسبه، ولن تعرف معنى النجاح إن لم تتعب في الوصول إليه، لن تحس بألم الآخرين، إن لم تتألم، ولن تعرف الشبع إن لم تجع يوماً، ولن تعرف الحلو إن لم تذق المرّ، ولن تبتعد عن النار إن لم تكوَ بها. في الصغر كنا نقرأ عبارات مكتوبة على الحافلات، هي حكم أحياناً، وخلاصة تجارب أحياناً، وقد تكون نتيجة صدمات، أو فلسفة حياة أصحابها، ولكن العبارة التي لم تبارح الذاكرة عبارة أو حكمة كانت مكتوبة على الزجاج الخلفي للحافلة التي كنا نذهب بها في أغلبية رحلاتنا المدرسية، ومكتوبة بالخط الديواني الجميل جداً وكانت أشبه بلوحة فنية «عاشر السبع ولو أكلك ولا تعاشر الضبع ولو حملك» لم نكن نعرف معناها، إنما كانت تستهوي هواة الخط العربي أمثالي، ولم أعرف معناها إلا في فترة متأخرة، لا حين دخلت حديقة الحيوانات، ورأيت السباع، والضباع فيها، بل حين خضت معترك الحياة، وعرفت سباعاً من الناس الذين لا يخذلونك ويبذلون أرواحهم في سبيلك، وضباعهم، الذين يغدرون بك ويستخدمون أقذر أسلحتهم، في الغدر بفريستهم، وليس لهم من صديق! السبعُ ســـبعٌ كلَّـــت مخالبـــــه والكلب كلبٌ ولو بين السباع رُبّي وهكـذا الذهـــب الإبريـز خالطـــهُ صفر النحاس وكان الفضل للذهبِ لا يُعجبنــك أثـــوابٌ على رجـــل دَعْ عنك أثوابَـــه وانظرْ إلى الأدبِ فالعُودُ لو لم تُفحْ منـــــه روائحــهُ لم يفرق الناسُ بين العُودِ والحطبِ وليس يسودُ المـــرءُ إلا بنفســـه وإن عد آباء كرامـــاً ذوي نســـبِ إذا العود لم يثمر ولو كان شــــــعبة من المثمرات اعتدّه الناس من حطبِ وقال آخر: قد ينفـــــــع الأدبُ من صغـــــرٍ وليس ينفـع بعد الشــيبة الأدبُ إن الغصونَ إذا قوّمتها اعتدـــلت ولن يليــنَ إذا قومـــتهُ الخشـــبُ وقال أبو تمام: إذا جـــاريتَ فــــي خُلُقٍ دنيئــــاً فأنتَ ومَـــن تجاريـــــه ســـــواءُ رأيتُ الحرَّ يجتنــــــب المخـــازي ويحمـــيه مــــن الغــدر الوفــــاءُ ومــا مــــن شـــــدةٍ إلا ســـيأتي لها مـن بعــــد شــــدّتها رخــــاءُ لقد جرّبتُ هــــذا الدهـــر حتــى أفادتنـــي التجـــــارب والعنــــاءُ يعيش المــرءُ ما اســتحيا بخـــير ويبقـى العـــــودُ ما بقي اللحــــاءُ إذا لم تخشَ عاقبــــــةَ الليالـــي ولم تســــتحِ فاصــنع ما تشـــــاءُ وقال أبو فراس الحمداني في نتيجة الاختبار والتجارب: لا أشري بعد التجــاربِ صاحبـــاً إلا وددتُ بأننـــــي لــــم أشْــــرهِ وتركت حلوَ العيـــش لم أحفَل به لما رأيـــــت أغــــــرّه في أمـــــرهِ والمرءُ ليــــــس بغانم في أرضِـــهِ كالصقر ليـــــس بصــائدٍ في وكرهِ إسماعيل ديب