الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بوح بالإنابة عن الصامتات

بوح بالإنابة عن الصامتات
18 سبتمبر 2013 21:42
قصائد تغلي في مرجل تتقاطع خلالها عواطف إنسانية نبيلة أحياناً وتمتزج فيها مشاعر الفرح والحزن وقسوة الزمن ووحشة الانتظار، باستخدام ما توفر من صيغ بلاغية جميلة تأسرك وتجذبك وتغريك لتكتشف ما الذي يغلي داخل هذا المرجل بالذات. هذا بإيجاز شديد الانطباع المتكون من قراءة ديوان “لأنني انتظرت” لدلال عنبتاوي قبل أن نبحر فيه. فالديوان يحوي بوح امرأة تنتظر شيئا، وما زالت تنتظر رغم مرور السنوات، فالإهداء “إليك انتظاراً” يشي بالكثير من الأسئلة والهواجس التي تقترب حيناً وتبعد حيناً آخر، ويبعث رسالة عتاب لأحد ما لكنها تبقى في النهاية امرأة تريد البوح، ربما عن جنتها المفقودة أو بالإنابة عن صديقات لم يستطعن البوح لظروف أقوى منهن، رغم هامش الحرية الواسع الذي تتمتع به المرأة عموماً في الأردن.والديوان 195 صفحة من القطع المتوسط الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة في عمان يضم تسعين قصيدة تزخر بكثير من الحب والشوق الممزوجين بكثير من الحزن على قطيعة وغربة ووحدة إنسانية وطيف يمر. أسيرة اللهفة الشاعرة دلال عنبتاوي رغم أنها بشوشة وتحب النكتة في مجالسها الخاصة، لكنها هنا فيما يبدو أسيرة لهفة انتظار دون أن تبوح من تنتظر بالضبط: “مضن هذا الانتظار على بوابة الزمن/ لعنة هي اللحظة/ تغتالني الثانية بتجاهلها/ وأنا أقف أمام عتبة الشوق/ بي كل الانتظار الذي خلق/ والذي لم يخلق بعد”. ويبدو أن الشاعرة تعيش في ثنايا الخوف أو ثقل الساعات، تريد أن تنطلق، لكنها تقيد نفسها بالكثير من مخلفات الماضي، ومن هنا امتزجت العاطفة التي تختزنها بلحن حزين مخلوط بنغمة أمل ففي قصيدتها “من أين جئت” تقول: “من أين جئت/ أي غيم هذا الذي ساقك/ قد كنت قبلك/ صمت.. غياب.. حجر/ فإذا النرجس ينبت على كتفه”. وهي بهذا تعاند أو تعيد أغنية قديمة للراحل عبدالحليم حافظ “جئت من أين”. والقارئ لحزمة القصائد وهي بالمناسبة “شفرات” قصيرة تحمل في طياتها شقاء امرأة حلمت كثيراً وأفرطت، وهذا بطبيعة الحال من حقها لكنها فجعت أو صدمت جراء إخفاقة مؤلمة.. هذه الصدمة استفزت الطاقات الكامنة في أعماقها فلجأت لمغامرة “علّها تنبت زهرة وسط هذا الشقاء/ كلما دققت على باب قلبك/ أجابني صمت غريب/ ورجع صدى وصوت نحيب/ أيتها الغريبة ارحلي”. ذاكرة مكان ولم يغب المكان عن ديوان “لأنني انتظرت”، بل تحلت الشاعرة عنبتاوي بالوفاء والهيام لدرجة الانتماء والتوحد من خلال ذاكرتها التي تختزن ذكريات الصبا وأحلام قلب فتي وضفائر خيلية تمشطها صباح مساء لتثير إعجاب الجنس الغيري، بكلمة يجفل قلبها برعشته المبكرة، فقد عملت في سلك التربية والتعليم في مدينة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة التي تصفها بأنها غابة من ألق معتق فيها طعم الذكرى. ففي قصيدتها “قلبي هناك” تقول: “راحل إليك كل ليلة/ يركض في شوارع الصمت المغلقة/ وتحت مصابيح مطفأة/ يحلم أن يراك/ في كل بهائك وجلالك/ يا نفحة من عطر/ فاض بها المكان/ وانتشت بلوعتها ساحات الزمن”. ورغم خضوع شاعرتنا لفيض من مشاعر مزدوجة لم تداويها لسعات الأمل والفرح ورعشة الشوق ونغمة العصيان والتمرد المتناثرة في ثنايا الديوان، فهي تريد أن تقول لقاتلها: “ذبحتني فقط لأني قاومت زمن التردي” ترى من الجزار؟ وما الأداة المستخدمة في الذبح؟. عواطف متلاطمة والمتجول في مجمل القصائد يكتشف لغة رشيقة مطواعة جبلتها الشاعرة دلال عنبتاوي بصيغ بلاغية تدفع القارئ للتفحص والتمعن واكتشاف المعنى القريب والبعيد “تتمارى صخرة بقبلة” و”خيال يتيم” و”غفلة اللحظة”، وكأنها تجره لولوج عالمها المشحون بالعواطف المتلاطمة ليشاركها تجربتها المالحة أحيانا والعذبة أحيانا أخرى. كما يكتشف حدة الصرخة التي أطلقتها عنبتاوي في “لأنني أنتظر” لامرأة مجروحة قد تكون حقيقية أو متخيلة هدّها الشقاء وقسوة الانتظار من غائب لم تتحرر منه أو حبيب لم يطاول أحلامها ولم يف بوعوده التي نثرها قبل أن يتربع في شغاف قلبها. بوح شاعرة الديوان عموماً بوح لشاعرة تشهق كالعاصفة وناي يعزف لحن الحزن في ساعات الغروب بانتظار زاد الصباح الباكر.. تمعن في الحياة بمحطاتهما المتباينة وتعدو لظل لحظة تشيع الراحة في قلب أتعبه الانتظار. ورغم أن دلال عنبتاوي تركض في براري العزلة وتعيش في منطقة رمادية بين الأمل واليأس تلملم وحدتها لتستعيد جنتها المفقودة أو عالمها المأمول، إلا أن الواجب الإنساني يقتضي التذكير بمقولة الزعيم الهندي الراحل غاندي “امنحوا المحبة فرصة.. نحن لا نسامح لننسى الماضي وإنما نسامح لنبني مستقبلاً أفضل”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©