الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الماضي.. كائن المبتدأ والخبر

الماضي.. كائن المبتدأ والخبر
18 سبتمبر 2013 21:33
الماضي.. شفة وبلسم ومبسم، بحد الأوراق والقلم، تكلم، فأفصح وتلعثم، جاش في الحنين والأنين، هو الذي كان، هو الزمان الساكن في وعاء الذاكرة، هو الحدث المستولي على اللاشعور، بوثيقة أرشفها العقل وحدد معالمها، وربما زاد عليها أو نقص، لكنها تبقى الصورة المثلى، لاحتواء الزمن، قبل الإفلات، بعد الفوات. الماضي حلقة ممتلئة، بالشجون، والشؤون، وما جد واستجد واستبد، واحتد وامتد، وعد، وتعهد ألا يكون غيره ألا يغير أثره. والماضي بحر، وكما يقول بيت شعري ليور بيديس “يطهر البحر كافة خطايا البشر”.. ولأن الماضي بحر، فإن من يهلكون في عبابه كثر.. والماضي لا يروي حقائقه عن كثب، بقدر ما يروي عنه ما يجعل الرواية بمضامين مختلفة الأوزان.. ورواية الماضي المشؤومة والمتفائلة يحققها منحازون، وتحت أي ظرف من ظروف الحيادية والنزاهة، فلا بد من الانحياز لأن الذين يسجلون أحداث الماضي بشر، والبشر يسطون على الحقائق ويلوثونها، ليبقى بريقها ملائماً لما يتشظى من أجله العقل الباطن.. ولأن الماضي في مجمله يستند إلى السمع قبل النظر فإن وهن السمع يثير غباره على حقيقة اسمها الصدق. حكاية هيرودوت ولهيرودوت حكاية مع السمع والنظر، ويروي حكاية بعنوان “فجيعة المخدع”.. ويحكي هيرودوت أن كاندوليس ملك سادريس وقع أسير هواجس، ونزعات جائرة حين طلب من خادمه أن يرى زوجته عارية، ورفض هذا الطلب معتبراً إياه كشف حياء المرأة بيد أن سارديس أصر على تنفيذ رغبته الشيطانية، وبالفعل ألزم خادمه بالتخفي في المخدع، حيث تطرح المرأة ثيابها حين تخلو بنفسها، ولإقناعه استدل على تبرير نظري مفاده أن السمع أوهن من النظر. هذا الماضي الكائن الحي المشوّه في كثير من الأحيان، المبني على فاعل مجهول الحقيقة، النابت من تحت جلد أحداث كثيرا ما ينتابها الزيف والتزوير، وإلحاق الأذى في المضمون.. لكن يبقى هذا الماضي عتيداً مجيداً، تليداً، عنيداً على الاختفاء من الذاكرة لأنه جزء من زمن الإنسان، شيء من أشيائه العميقة التي لا يمكنه خلعها وإن بدت مؤذية أو معذبة.. وأول الناس، الملتزمون بمعاهدة الوفاق مع الماضي هم العشاق.. هؤلاء الذين يشجيهم الحنين، كما هو الماء المهرق على سطح ساخن، يذوبون وجداً، يعيشون حياة الاجترار الدائم، والانتماء إلى وجودية عدمية خطواتها مجرورة وعلامة جرها كسر في داخل مفجوع في غالب الأحيان.. الماضي.. مستبد، قابض، مسرج، خيل الجموح باتجاه الخطوة الأولى الدفقة الأولى، النبضة التي وشحت القلب، برفيف ونزيف، فاستشاط، وأماط اللثام، عن وهدة وصهد، فثبت له أنه مخلوق يغيب في تفاصيله حتى النخاع، لأنه يعبر عن عمر، عن زمن، عن رغبة داخلية مخيفة، لا تتوانى في الرجوع إلى الخلف خشية إملاق من زمن يقضي قضيض الكائن الحي يدفعه إلى فناء يخافه ويهاب الاقتراب من حدوده.. حنين إلى الماضي مصل داخلي، لا شعور يهفو للدفاع عن حق مشروع هو مقاومة الموت.. في الذهاب بعيداً عن الماضي يعني الوقوف قريباً عند حافة النهايات المأساوية وخواتم التراجيديا الوجودية.. دمعة في عين إنسان، تعني قطرة الشفاه من التغميضة الأخيرة، تعني الدفاع عن حالة نهاية مؤجلة حتى إشعار آخر، تعني وسيلة وحيلة يتطهر بها القلب من رجفة مسفة تغتسل بها الروح من خوف يحيل إلى حيف مزري ومخزي، هي دمعة النجاة من نار العدم المنتظر والبداية السوداوية لكائن ظن أنه يملك القدرات الفائقة في مجابهة الاحتفال التأبيني الناضج بالفقدان والخسارات الكبرى. بعض الأمكنة كما بعض البشر، عرفوا كيف يعتنون بالماضي حنيناً والقبض عليه جنيناً يافعاً رغم بهوت اللون وشحوب الوجه وضمور التضاريس، وبروز عظام القِدم.. لا يشك البشر في نهاياتهم، لذا فهم ينتمون للماضي كونه الصورة المثلى للخديعة الكبرى، والنموذج الأوحد، لخلود صامد رغم عواصف النسف اليومي، في الزمان والمكان.. حنين إلى المكان هو عود حميد إلى عمر زمني، كان يافعاً، كان لامعاً، كان متألقاً بالقوة.. حنين إلى الماضي هو حرب شعواء ما بين الحياة والموت، ولأن الإحساس ما بعد الحياة شيء من المجهول، فإن المقاومة الشرسة تظل المفردة النشطة المحتدمة، والشاغل الأهم في إحياء الذاكرة، ورصف طرقاتها، بقصص سالفة وحكايات تعيد التوازن، لكائن لا يجد في الحكاية غير إرواء ما قد جف وعجف وسفه الأسف.. ولكن في المقابل أشخاص مهرولون إلى الغد كما هي بعض الأمكنة، لكنها هرولة أشبه بالحلم، أقرب إلى الحمل الكاذب، لأنها هرولة بأقدام الهروب من هاجس يلاسن الذات المذعورة، بصور مرعبة، وهؤلاء الأشخاص كأرنب مفزوع، على أرض صحراء رملية يهرب من وحش كاسر، يعرف أنه لا فرار من النهاية لكنه لا يذعن للحقيقة وقد استولى عليه الخوف متشبثاً بلبه وعقله حتى وريد الدم. مسرحية هزلية حنين إلى الماضي يكون الأهون لأنه الأقرب مكانة من الذهن، لأنه كائن موجود ماثل في الذاكرة، غير غامض ولا مجهول، ما يجب فعله هو القليل من التأمل، وإعادة العجلة إلى الوراء، وبسرعة البرق، تبدو الصور والمشاهد، أشبه بالمسرحية الهزلية، لكنها0 تؤدي غرض المداهنة قليلاً مجتهدة في ترتيب المشاعر المبعثرة، وإعادة صياغة الذات.. فكهل مسن، يتكئ على عظام هالكة، ينظر إلى سقف غرفة ملوَّنة بالخيال، يستعيد الذاكرة، يدير حركة العقل إلى الوراء يتلمس صولات وجولات وحفلات زار هستيرية، يقبض على الفكرة تغرورق عيناه بالدمع، يبتسم يرسل تنهيده يشيع المكان، بنظرة فخار قائلاً في سره: ها أنا ذا، كنت كذا وكذا، إذاً أنا لست كماً مهملاً، لست أنا فضلات لزمن، غابر.. أنا الساحر، الساهر، الساخر، العابر حدود الصبوات ونخوة الجسد النبيل.. ثم يسترخي، يأخذ نفساً عميقاً، وينظر إلى صغار من حوله، يحملق في وجوههم، قائلاً.. سراً أو جهراً: أنتم لست أنا لن تكونوا كما كنت، بل أنتم جزء من رذيلة أزمنة رديئة لفظتكم الحقيقة فاستحالت كياناتكم إلى أشباه بشر.. يضحك، يستدرج ما يتذكره من أغنيات قديمة، يغني يتفنن في دوزنة الصوت، وقد يخشوشن صوته بنبرات ترتكب فضيلة الحنين إلى مكان أو زمان أو إنسان.. ثم يخبو الصوت وينطفئ الكائن المتحرق منكفئاً واضعاً ذراعه على عينيه وكأنه يريد أن يغيب عن واقع لا يود رؤيته، أو هكذا يفكر لأنه ليس جزءاً من تفاصيل حياته ولا يشكل مفردة واعية في عقله. وكما أن الإنساني فكر في صياغة مستقبله فإنه يحاول إعادة تأثيث الماضي بسجادة ملونة بألوان الطيف، يحاول أن يضع أنامله المرتعشة على تجاعيد وتجاويف لعلها تمتلئ بباقات الورود، لعلها تعود برائحة طيب، يشم من خلالها فوحة روح نبضت في يوم ما، وعرق جسد تبدو شوقاً وتوقاً في لحظة ما.. الماضي موطن الأحلام الجميلة، لأنه الخميلة التي تفيأ تحتها قلب ما واستراح تحت ظلها ينشد الخلود الأبدي، وها هو الآن يبتعد كثيراً ويقترب أكثر، يتجذر في الأغنيات والأناشيد والذكريات يشتعل كأنه الجمر من تحت رماد تستعيد سعيرها، لتطهو طعام اللحظة الهاربة، هو مجرد وهم، بقيم السجايا النجيبة، مجرد حلم بشيم الطوايا اللبيبة، وأشياء أخرى تستجم في وعاء حقيقة دامغة، بأن الماضي كائن بقدمين وذراعين يسرج جياد معرفته من مفردات حفرت في الصفحات الداخلية لكتاب الزمن كلمات ذات معنى وأحداث لا تغلق نوافذها وإن اشتد عصف الريح في يوم غائم. الماضي، إبل الحياة، تمطر عنقاً معانقاً لأشواق وأحداق ترسخت ونسجت حرير التشظي فوق ربوة وكبوة الماضي، بل تخب باتجاه الشهقة الأولى، الرجفة الأولى، النزفة الأولى، بنزق الفطرة الرهيبة، ونزعة الروح إلى بقاء يجلل ثوبه بخرز وحرز، ورقية المتصوفين وشهامة النازحين، الراجحين المتصومعين في كهنوت الحنين.. الماضي، جذر، وجسر، وعمر، وقدر يستدير حول قرص الأبد، مستجيراً من رمضاء الخشية إلى نار الحشمة البشرية. الماضي، النديم، القديم، المجاهر في أيقونته المحاصر في شرنقة الانسحاب الذاتي، إلى مكامن الفرح الوهمي.. الماضي قارب النجاة من قهر العدم، وجبروت الموت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©