الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألق الزمان وجاذبية المكان

ألق الزمان وجاذبية المكان
18 سبتمبر 2013 21:11
يقدم معرض “الشارقة وجهة نظر” في الحدود التوثيقية للصور الفوتوغرافية المتنوعة التي يعرضها على رواده، ما يمكن أن نطلق عليه: التشكيل البصري المتضامن مع ألق الزمان وجاذبية المكان، وما ينتجه هذا التشكيل من جدل متناوب بين التأكيد والمحو، وبين الثبات والتلاشي، وبين الإقامة والهجر. وهذا الجدل الذي يشمل المتضادات والمشتركات على ضفتي الحضور والغياب، والتاريخ والجغرافيا، فرضته أيضا هويات وجنسيات الفنانين الهواة والمحترفين المشاركين في المعرض والذين ينتمون لعشر جنسيات مختلفة، مع غلبة المشاركة الإماراتية لفنانين من إمارة الشارقة، أو آخرين قدموا من إمارات مجاورة وشغفوا بالتنوع البيئي والثقافي والعمراني فيها، وحاولوا أيضا رصد الغنى البصري والثراء الإيكولوجي للمناطق الوسطى والشرقية التابعة لها. أقيم المعرض الذي افتتحته مؤخرا الشيخة حور بنت سلطان القاسمي رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون، بحضور الشيخ زايد بن سلطان بن خليفة آل نهيان، وعبدالله العويس رئيس دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، في المباني الفنية التابعة للمؤسسة في منطقة الشارقة القديمة، ويستمر حتى السابع من ديسمبر، بمشاركة 41 فنانا ومصورا، قدموا أكثر من 100 لوحة فنية توزعت على وجهات وزوايا نظر متعددة شملت الصور الانطباعية، والكادرات المبتكرة بنسق إيحائي يوازن بين التقنيات الحديثة والرؤية الشخصية للفنان. وأشارت رئيسة المؤسسة في مدونة المعرض إلى أن هذا الحدث الفني المهم بدأ مع الاستجابة للدعوة العامة التي أطلقت في مطلع صيف 2013، حيث تم دعوة المصورين الفوتوغرافيين المقيمين في الدولة لاكتشاف إمارة الشارقة وإنتاج أعمال تعكس صورة الإمارة بعيون ساكنيها، وتتقاطع مع المفهوم العام للمعرض، وكان أحد أهداف هذا المعرض ـ حسب تصريح الشيخة حور القاسمي ـ هو دعم كافة الفنانين الهواة منهم والمحترفين الذين يملكون حاسة فنية مستقلة لتوثيق ما تملكه إمارة الشارقة من نهج متنوع للحياة الطبيعية والثقافية، والتي ترجمها هذا الزخم والحماس في الإقبال على المشاركة، على اعتبار أن التصوير الضوئي هو وسيط جمالي يقدم للمجتمع والجمهور صورا توازي رغبة المصورين في البحث الدائم عن داخل الأمكنة التي ينتمون إليها، وتعطيهم فرصة للاستمتاع والتأمل ونقل شغفهم الذاتي من نطاق الفكرة إلى نطاق الإبداع التفاعلي، والتواصل الحيوي مع الجمهور والمتلقين. مناخات تأملية وفي جولة بين أعمال المعرض يمكن للزائر أن يكتشف المساحة الحرة لاختيار المواضيع العامة والمشاهد المتنوعة للبيئات الرئيسية الثلاث في إمارة الشارقة، وهي: البيئة الساحلية، والبيئة الجبلية، والبيئة الصحراوية، مع عدم إغفال المدينة الحديثة والعصرية، كمركز وكمنصة انطلاق باتجاه هذه البيئات البكر، والتي تبدو منعزلة في مناخها التأملي والمطبوع في ثنايا الصور، وكأنها شواهد على الصمت المكثف، والجمال المهيمن، والترحال الوجداني المتمهل دون جلبة أو ضجيج. ولكن الصور الملتقطة في داخل مدينة الشارقة لم تكن حيادية أيضا، فهي صور تختزن احتجاجا نقديا مبطنا حول الخوف من تحويل المكان إلى ساحات إسمنتية عالية وصماء، تحجب الأفق وتساهم في تكوين (غيتوهات) اختيارية لساكني الصناديق المكيفة، والشقق الصغيرة المنعزلة، وهو خوف يبرره الغياب التدريجي للمساحات الأفقية في المدينة، والتي اشتهرت بها، وأصرت لفترة طويلة على أن لا تكسر هذا النمط العمراني المتصالح نوعا ما مع البيئة والطبيعة ومع الهوية الإسلامية المتخففة من المبالغة في طرز العمارة والبناء والزخرفة، ومن جهة أخرى ركّزت بعض الصور على الجانب التطويري الذي لامس البنى التحتية للمدينة، وخلق فيها مزيجا كوزموبوليتيا يستحق الدراسة والتحليل، خصوصا فيما يخص المناطق المزدحمة والمكدسة بالجنسيات الآسيوية المهاجرة والعاملة.ففي صور التقطتها السعودية تارا الدغيثر المقيمة في الشارقة منذ خمس سنوات وهي مدة دراستها بالجامعة الأميركية بالشارقة، نرى مشاهد توثيقية تتحدث عن هذا التكدّس العشوائي في مناطق محددة ومحصورة، من خلال صورة ملتقطة بزاوية واسعة لإحدى العمارات القريبة من شارع العروبة بالشارقة، والذي يعتبر من أكثر الشوارع ازدحاما في المدينة، وتعبر الصور وبقصد واضح عن هذا الموزاييك المغترب والذي تظهر ملامحه المختلطة على واجهة البناء الكبير المطل على شارع حيوي وتجاري يكاد يخلو من أي سحنة إماراتية أو عربية. أما صور الفنانة الإماراتية الشابة أسماء الزرعوني فتزخر بالملامح الطينية للبيوت القديمة، التي لم يطلها المدّ العمراني الحديث، والتي بقت مثل علامات تائهة وسط خضم محتدم ومتوتر وموزع بين الذاكرة المنسحبة، وبين الحداثة المتوثبة، وكأن هذه البيوت القديمة والمتواضعة تمتحن الحالة النوستالجية في دواخلنا، وتستغيث بمن هو قادر على ترميمها وإعادة ألقها ووهجها البائد، ولكن الصور المتلاحقة لهذه البيوت ولجدرانها الجانبية تظهر تحذيرات بهدمها خلال الشهور القادمة، ومن هنا جاءت هذه الصور كي توثق للصدمة والصرخة التي تعمل ضد إبادة معالم الماضي ونكهته المغروسة في ظلال وممرات وانتباهات السكان الإماراتيين القدامى الذين شغلوا هذه البيوت في فترة السبعينات وما قبلها. وتكشف أعمال الفنان غاري داو المقيم في الشارقة صورا بالأبيض للأسود لجسور وممرات ومسارب الماء في قناة القصباء بالشارقة، وهي خاوية تماما من البشر، ولكنها تكتنز بروح العابرين وأطيافهم الذائبة في الهواء والأخرى العائمة على الموج، في إشارة إلى أن هذه الأمكنة يمكن لها أن تتحول إلى كتل ناطقة ومتحركة في أفق التخييل واللاوعي، وتبدو الصور وكأنها منحازة لتقنية (السليويت) ولأبعادها الرمزية المتخلصة من الصيغ المباشرة، تتحالف الهدأة والوداعة هنا مع صمت يمضي بأناة ورفق تحت جسر معلّق ومتصالح مع حركة المياه التي تجري تحته بلطف، وتتجلّى “خفة الكائن التي لا تحتمل” هنا ـ بحسب عنوان الرواية الشهيرة لميلان كونديرا ـ في اشتباك المكان مع رهبة وقدسية الخلوة والتخلي، عندما يذهب البشر إلى نوم عميق، وتنسحب أحلامهم إلى الخارج مثل رذاذ يغسل بقايا النهار، ويزيل غبش الزحام والضجر عن العين الصافية للفجر وصباحاته المبكرة. البصمة الأسلوبية وللتعرف أكثر على الأساليب الفنية وطرائق التعبير المستقلة للمشاركين في معرض (الشارقة وجهة نظر) التقى “الاتحاد الثقافي” بعدد من المصورين الإماراتيين والعرب الذين قدموا أعمالا يغلب عليها التفرد والابتكار، سواء من حيث الاعتناء التشكيلي بالصورة، أو من حيث التعبير الذاتي عن الانتماء للمفردات البصرية المبثوثة داخل كادرات شفافة ومتمردة على الأساليب النمطية والمكررة. وفي هذا السياق يؤكد الفنان الإماراتي سيف حميد الزري، الذي يشغل أيضا منصب رئيس جمعية الإمارات للتصوير الضوئي، على ميله للتوثيق الجمالي ولوجهة النظر الفنية الخالصة، على حساب التوثيق الجامد والمهني للمصورين الصحافيين على سبيل المثال، وأوضح الزري أن الصور التي التقطها في المناطق غير المأهولة في الإمارة وخصوصا في منطقة الخان ومنطقة الشرق بمدينة خورفكان، تطلبت منه جهدا فنيا وجسديا مرهقا، ولكنه مستمتع في الوقت ذاته بالنتائج التي أراد إبرازها ونقلها إلى الصورة، من حيث التركيز على التفاصيل العمرانية المعبرة عن خصوصية الهوية المحلية، والتي لم تعد موجودة في تصاميم البيوت الحديثة، إلا فيما ندر. وأضاف الزري بأن الطرائق النحتية الفطرية والبارزة في مادة الخشب، والتي وجدها على أبواب البيوت التراثية في هاتين المنطقتين، جعلته متواصلا مع القيمة الروحانية المفتقدة والمطبوعة على نقوش وتزيينات هذه الأبواب، مؤكدا على أن لمسات وتأثيرات الماضي يجب أن تبقى حاضرة ونابضة لدى الأجيال الجديدة التي لم تختبر هذه المناخات الحميمية التي عاشها الآباء والأجداد رغم ظروف العيش الصعبة آنذاك. وبدورها أشارت الفنانة الإماراتية الشابة ميثاء بن عاشور إلى إنها استخدمت في أعمالها أسلوب التصوير البطيء (سلو شاتر) وخصوصا في الصور الملتقطة قرب شواطئ الشارقة لكي تعطي بعدا مختلفا لحركة الأمواج التي تخبط بلطف في الصخور الكثيرة المتناثرة على الساحل، وقالت أن هذا الأسلوب يمنح الصورة شكلا أقرب إلى الخيال والحلم الذي يتجاوز المشهد الطبيعي، ويرتحل إلى أرض الموسيقا والشعر والأسطورة، بحيث يشعر المتلقي بحركة الأمواج السابحة مثل ضباب أو غيم أبيض يتنقل بين الصخور ويكسر حدة الجمود في الصور الفوتوغرافية النمطية لهكذا مشاهد ومواضيع نراها ونتلمسها في الطبيعة. وترى المصورة المصرية رانيا الجويلي التي تقيم في دبي وتعشق الهدوء الذي تمنحه إياها مدينة الشارقة، وخصوصا في منطقة المجاز المطلة على البحيرة، أن الصورة الوحيدة التي شاركت بها في المعرض، تعبّر عن خصوصية الإمارة من حيث التدرج والتوازن في خلق مساحة مشتركة بين ما هو عصري وحديث وبين ما هو تراثي وقديم. وقالت إن الصورة التي التقطها من إحدى البنايات العالية المطلة على بحيرة خالد بالشارقة، تظهر الجزيرة الاصطناعية في وسط البحيرة والتي ما زالت بكرا وفي طور الاكتمال، منوهة إلى أنها اختارت هذه الصورة بالذات لأنها تعبر عن هوية الإمارة الطامحة للتجدد ولكن من دون استعجال أو حرق للمراحل، وأنها اختارت زاوية علوية للصورة كي تمنحها الطابع البانورامي الذي تستحقه من حيث تصوير الملامسات الرهيفة بين الماء والرمل، الذين يشكلان ملمحا أصيلا لطابع وروح المكان. وأخيرا يشير الفنان الإماراتي عمار العطار إلى أنه اختار المناطق الصناعية في الشارقة كي يجول بكاميرته وسط تكويناتها المعدنية والعشوائية، التي لا تخلو في كثير من الأحيان من لقطات جمالية تبرز العلاقة المتناوبة بين التنافر والانسجام في العلاقة البصرية المتفاوتة لهياكل الأدوات المستهلكة وقطع الغيار والسيارات القديمة والإطارات المرتبة بشكل هندسي مغر لعدسة الكاميرا التي تهتم بالتفاصيل والتكوينات المدهشة. وأوضح العطار أنه استخدم في أعماله الكاميرا التقليدية، أو الأنالوج، والتي تحتاج لجهد واشتغال مختلف في التصوير والتحميض، مقارنة بالكاميرات الرقمية التي تمنح المصورين صورا قياسية ومرضية، ولكنها ـ كما قال ـ تفتقر إلى الروح وإلى الرؤية الذاتية والبصمة الأسلوبية المتفردة للفنان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©