السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أوليفرستون يرضخ للخطاب المروج للصراع الثقافي

20 ديسمبر 2006 01:41
إبراهيم الملا: بعد غياب طويل عن تنفيذ أفلام روائية مقتبسة من وقائع كبرى، وبعد انخراط مبهم في الأفلام الوثائقية والتسجيلية حول شخصيات سياسية مثيرة للجدل ( عرفات وكاسترو على سبيل المثال) يعود المخرج الشهير ''أوليفر ستون'' مجددا للمواضيع الأثيرة على نفسه والمرتبطة بالبناء العاطفي المؤسس على نقد العنف العشوائي والحروب العبثية، وفيلمه الأخير''مركز التجارة العالمي'' لم يخرج عن نطاق هذا النقد الذي روّج له ''ستون'' كبيانات بصرية صارخة في أفلام عدة تناولها منذ السبعينات ( في أفلام مثل:''السنة الماضية في فيتنام'' و''سلفادور'') مرورا بالثمانينات ( ''الكتيبة'' و ''وول ستريت'' و''مولود في الرابع من يوليو'') وليس انتهاء بالتسعينات ( ''جي إف كي'' و''قتلة بالفطرة'' و''نيكسون'')· ولكن النقد الذي يبثه فيلم ''مركز التجارة العالمي'' سوف ينحرف هذه المرة عن مساره وسياقه الفني الخالص كي يتماشى ويتوازى مع الخطاب الحالي للحكومة الأميركية، ومع المقولات الداعمة لفكرة الصدام الحضاري والديني وما صاحب هذه المقولات من مصطلحات لاهوتية مثل ''الإرهاب العقائدي'' و''الإسلام الفاشستي'' وغيرهما من التعابير التي تحمل مضامين تغازل المقدس والسماوي وتنأى بنفسها عن الأخطاء الأرضية لسياسات أمييكا في العالم· سيتوضح هذا الخلل النقدي عند ''ستون'' في سياق عرضنا للفيلم، وفي سياق انتباهنا للجزء الأخير من أحداثه، والذي احتشد برموز وإحالات دينية لم يكن في وارد البدايات التأسيسية للفيلم أن تعرضه بهذا الشكل المباشر والمقحم· سيناريو الجحيم يبدأ فيلم ''مركز التجارة'' مع انتشار الخيوط الأولى لشمس ''نيويورك'' واستيقاظها المبكر في نهار الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 على إيقاع الحياة المفعم بالطموح المادي الذي لا يعرف التوقف والمسنود أيضا بهياج وظيفي وهوس مفرط بعالم التجارة والأعمال، تميل كاميرا المخرج في هذه اللحظة نحو القصة الواقعية لعاملين في شرطة هيئة الموانئ هما: ''جون مكلوغلين'' يقوم بدوره الممثل الشهير ''نيكولاس كيج'' و''ويل خيمينو'' يقوم بدوره ''مايكل بينا'' الذي رأيناه بدور لافت في فيلم ''اصطدام'' ــ زءسب ــ تلاحق الكاميرا الشرطيين وهما يبدآن عملهما الروتيني وسط شوارع المدينة الضاجة بالموظفين الذاهبين لمكاتبهم والمحاطين بحفنة من المشردين والصعاليك والمروجين، ومن دون الدخول في تمهيد مطول وفائض، نرى فجأة ظلا هائلا لطائرة مدنية على جدار مبني قريب وفجأة يعلو صوت ارتطام كبير وغامض كي ينفتح المشهد بشكل كامل على أعظم كارثة مرت بها مدينة نيويورك حتى الآن، كارثة هي على المستوى الإنساني أشبه بالجحيم التي لم تشف نيويورك حتى الآن من حممه وغباره الحارق، هذا الغبار الذي لوث المخيال الأميركي وامتد حتى أقاصيه الشاسعة، يختار هذان الشرطيان التطوع لإنقاذ المحاصرين في برجي التجارة فيتحولان تلقائيا إلى ضحيتين للأقدار العبثية التي وضعتهما في المكان الخطأ والزمان الخطأ، يسقط الشرطيان تحت الأنقاض الهائلة والمتراكمة فيتحول هذا السقوط إلى عصب الفيلم وحبكته الأساس، وإلى عالم مغلق من الألم والأنين والتصديرات الحميمة للذاكرة وصور الحياة المستعادة للعائلة واللحظات والتفاصيل البعيدة والمرّة التي أصبحت الآن بطعم الجنة داخل هذا المصهر الجحيمي والعزلة الذائبة والمسترسلة ببطء نحو الموت، يتبادل الشرطيان الحوارات الشخصية وسط كهف الظلمات هذا ووسط القبر الحجري المحيط بهما، كي يغافلا اليأس ويؤجلا فكرة الموت، فهذا الحيز الشفوي المتشكل بالحوار بين الشرطيين أصبح هو برزخ الأمل وعتبة البدائل والتخمينات المتفائلة، إنه صوت الأنا وصوت الآخر الذي ينير اللحظة الوجودية بداخلهما كما لو أنها لحظة الولادة المجددة والشفاء الروحي من أخطاء الماضي وخطاياه، ثرثرة زائدة ولكنها مسوغات مباحة في السيناريو لإلهاء الدمار النفسي والانهيار الداخلي لجسدين بلا حيلة وبلا يقين كامل لمدى المقاومة الممكنة تحت هذا الركام الصلب والقاسي والناجز حتى العظم· الخطاب اللاهوتي يستند فيلم ''مركز التجارة'' في نصفه الأول الى اللحظات الداكنة والمؤلمة التي عاشها هذان الشرطيان، مع تطعيم المشاهد بصور استرجاعية''فلاش باك'' لحياة الشرطيين قبل الحادثة، ولقطات أخرى موازية للحدث ومصورة للحظات القلق والترقب لدى عائلتيهما، ولكن المشاهد الختامية في الفيلم سوف تقودنا لمنطقة مغايرة تماما للمنطقة الحيادية التي ألفناها في البدايات، فأوليفر ستون ورغم تخليه عن نظرية المؤامرة التي طالت الحكومات الأميركية في العهود السابقة والتي التصقت بمواضيع أفلامه ــ '' نيكسون'' و''جي إف كي'' تحديدا والذي يدخل في تفاصيل اغتيال الرئيس الأميركي ''جون فيتزجرالد كينيدي'' ــ فوجئنا به في هذا الفيلم وهو يقحم الكرامات الدينية في بنية القصة من خلال لقطة مقربة جدا على الصليب في إحدى الكنائس، تتبعها لقطة لجندي متقاعد من ''المارينز'' نراه خارجا من ذات الكنيسة وواثقا ومن خلال نداء سماوي على إنقاذ من تبقى من ضحايا البرجين، وهكذا وفي لحظة إلهام غيبي يذهب هذا الجندي للموقع وينجح في العثور على الشرطيين، هذا الجندي نفسه سوف يذهب بعد ذلك للعراق كي ينتقم من أعداء أميركا، هذا الإلهام الغيبي ربطه المخرج أيضا بأحلام الغيبوبة التي راودت أحد الشرطيين تحت الأنقاض والتي كانت مركزة على التهويمات الدينية الموصولة بظهور ''المسيح المخلّص'' والقادم في هيئة ضبابية غامضة، وهكذا أيضا وبشكل مجاني وانفعالي يرضخ ''أوليفر ستون'' للخطاب المروّج للصراع الثقافي أو صراع الأصوليات الدينية على وجه التحديد كي يعبّر وينفّس عن غضب أيديولوجي عام وأعمى في ذات الوقت· يقول عبقري السينما وشاعرها الأول ''أندريه تاركوفسكي '':'' إن توفير الأسلحة الروحية، وإرشاد الناس إلى الخير والشر من خلال الأفلام لابد وأن يكون صعبا على الدوام'' إن هذه الصعوبة التي يتحدث عنها ''تاركوفسكي'' ورطت مخرج فيلم ''مركز التجارة''، لأنه أقحم نفسه في مجابهة شائكة ومعقدة مع ''الفعل'' ومع ما يقابلها من ''ردات فعل''، بحيث أبعد الفيلم عن مساره العاطفي المحايد وعن خطابه الإنساني الشامل والأعمق تأثيرا، نحو خطاب سياسي و ''بروباغندا'' عقائدية تروج لطروحات مؤقتة ومنحازة لظرف معين ولحدث معين في زمن حرج وملتبس وبحاجة لرؤى وتحاليل أعمق وأكثر إيغالا وبعدا عن الهياج العاطفي والانتقام الديني· فيلم ''مركز التجارة العالمي'' هو في النهاية أقرب للقصاص البصري المشوش والمترنح أمام صدمة الحدث الهائل والكبير والمربك على جميع المستويات·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©