الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغيرة القاتلة

الغيرة القاتلة
22 سبتمبر 2011 21:44
(القاهرة) - في لحظات تحول الموظف الهاديء الوديع إلى مجرم قاتل مكبل بالقيود بين أقسام الشرطة والنيابات، وبين استجوابات وتحقيقات ودموع جافة استعصت عليه، لم يحتمل أن يفارق زوجته التي اكتشف فجأة أنها كل حياته على الرغم من الجفاف الذي كان بينهما، واضطر لطلاقها بعد أن تفاقمت الخلافات ووصلت إلى طرق مسدود، ولا يوجد من يحاول أن يقارب أو يصلح بينهما، شعر أن الحياة بدونها لا تساوي شيئاً وأنها بالنسبة له الدنيا بأسرها، إنه يعيش حالة من فقدان التوازن أو اللاوعي، لا يصدق المفارقات التي يغرق فيها، عيناه زائغتان يحدق فيما حوله يتساءل إن كان ما يحدث حقيقة أم كابوساً ثقيلاً. لم يمض إلا ثلاثة أسابيع على انفصالهما رسمياً كانت مثل الدهر، وعجز عن إيجاد حيلة سريعة للوصال والتراجع عن القرار المتسرع الخاطئ بكل المقاييس كما يراه الآن، يريدها أن تعود إليه مهما كلفه الأمر من تنازلات، وهو يتعهد بينه وبين نفسه أن يكون إنساناًِ جديداً مختلفاً، وسيغير كل طباعه وطقوسه، ويحسن معاملتها ويقيم معها حواراً ديمقراطياً متكافئاً ويتلافى سلبيات الماضي، لكنه فوجئ بأنها لا تستحق ذلك وطعنته طعنة غادرة، وكانت صدمته فيها شديدة، فقد مرت عليها هذه الأسابيع على خلاف حاله تماما، أنها تعيش حياتها بالطول والعرض، وعلي الرغم من أنها ما زالت في بداية فترة العدة الشرعية إلا أنها تعد للزواج فور انتهائها، والطامة الكبرى أنها ستتزوج السائق الذي يعمل لديها، رأى أنها تستبدله بشخص تافه من وجهة نظره، وأيضاً كانت تخدعه ولم تكن مخلصة له كما ينبغي أن يكون. تأكدت ظنونه فقرر أن يراقبها ليعرف الحقيقة فوجدهما يخرجان معاً في سعادة بالغة ويشتريان احتياجات العرس، وربما يلتقيان كل يوم، من المؤكد عنده أنها لم ترتكب الخطيئة، لكن مجرد هذه التصرفات في عينيه أكبر الخطايا، قرر أن يمنحها الفرصة لتصحيح الأوضاع إلا أنه فوجئ برفضها التام ولا حتى النقاش المجرد، أغلقت في وجهه باب الأمل، أشعرته أن السنوات التي قضتها معه كانت أشبه بالسجن وأنها لن تعود إليه، وكيف تضحي بحريتها التي استردتها وتعيد القيود مرة أخرى، وكان الأسبوع الرابع أكثرها صعوبة على نفسه، مر ثقيلاً وهو يحاول أن يبحث عن حل ولا يعفي نفسه من المسؤولية فهو أساس المشكلة والمساهم الرئيس في صنعها. اسودت الدنيا في وجهه خاصة بعدما لم يجد منها استجابة تذكر، لكنه لم يقف مكتوف الأيدي وواصل جهوده التي قابلتها بالمزيد من التعنت والصدود، وصل الأمر إلى نهايته وانقطع الرجاء عندما شاهدها مع عريسها المحتمل يختاران شقة الزوجية، فاقتحمها وراءهما كالمجنون وهو يهذي بكلمات غير مفهومة تشير إلى رفضه واستنكاره، وحاول أن يستعيدها بالقوة ويمسك بها، فقام العريس بالدفاع عنها وبدأ التشابك بينهما وتحول الأمر إلى عراك ولديه قناعة تامة بعدالة قضيته وأحقيته فيما يطلب فاستخدم كل قواه من أجل الفوز بالمعركة والانتصار فيها فإنهال بالركلات والضربات على غريمه بأي شكل وفي أي مكان في جسده، يضرب بيديه ويعض بأسنانه ويركل بأقدامه، ثم تقع يداه على سكين فينهال عليه بالطعنات، ولا يتوقف إلا بعدما سكن الضحية وتحوَّل إلى جثة هامدة بلا حراك. هنا أدركت المرأة أنها بين أمرين لا ثالث لهما إما أن يجبرها على المسير معه والعودة إليه، وإما يقتلها هي الأخرى وهذا هو الاحتمال الأقرب لأنه قد قتل نفساً ولا مفر من السجن ولا توجد فرصة لحياة جديدة بينهما، فأطلقت ساقيها للريح، وهي تتعثَّر في ملابسها، وتصرخ بأعلى صوتها وتستغيث بالجيران الذين لم تعرفهم بعد، تطلب الإنقاذ والنجدة وهو يحاول أن يلحق بها إلا أنه لم يستطع لأن قواه قد خارت وهو ينظر إلى الدماء تلطخ يديه وعلى ملابسه. أُلقي القبض عليه وجلس يتذَّكر ويعترف في آن واحد، سبع سنوات كاملة مضت على زواجهما لم تغير في طباعهما وعلاقتهما الجافة التي لم يحاول أي منهما أن يصلح منها، إلى أن مات والد الزوجة وورثت مبلغاً معقولاً من المال جعلها تتغير أكثر وتشعر أنها صاحبة رأس مال أو سيدة أعمال، وشعر الزوج منها بشيء من التعالي، على الرغم من أن المبلغ الذي بين يديها لا قيمة له في عالم المال والأرقام فزادت الفجوة بينهما وتحوَّلت من هدوء كامن إلى حوار حاد وتصيد لأخطاء أو هفوات، وللحقيقة لم يكن الرجل طامعاً في مالها ولا ينظر إليه أبداً لكنها تخشى أن يسيطر ويستولي عليه فبادرت بالهجوم معلنة أنه لا حق له فيه وأنها صاحبة التصرف المطلق فأيدها بلا جدال ولم تطمئن له مع أنه أكد موقفه بكل الوسائل وأغلظ الأيمان، بحثت عن وسيلة للاستثمار فلم يكف المبلغ لأي مشروع ولو صغير فقررت أن تشتري سيارة أجرة واستعانت بسائق ليعمل عليها. كانت السنوات الخمس عشرة كافية لتصنع فجوة كبيرة بين الزوجين وتحول من دون التقارب والتفاهم المطلوبين، فسارت حياتهما روتينية رتيبة خالية من الود والتراحم، مجرد شخصين يعيشان تحت سقف واحد بلا تواصل أو إحساس متبادل، فهو موظف قد تجاوز الخمسين من عمره وهي ربة منزل لم تتلق من التعليم إلا النذر القليل الذي تستطيع معه بالكاد أن تقرأ وتكتب، يخرج من منزله في الصباح الباكر يتغيب لساعات عدة لا يفكر خلالها ولا مرة في أن يجري بها اتصالاً هاتفياً من الهاتف المجاني الموجود على مكتبه ولا حتى يسألها سؤالاً عمَّا أعدت من طعام ولا حتى يطلب منها أن تعد له وجبة معينة، وهي تعامله معاملة دبلوماسية بالمثل فلم تبادر مرة بالسؤال عنه إذا تأخر ولا حتى تسأله عن سبب التأخير، ولم تعرض عليه يوماً أن يصطحبها لزيارة أسرتها إنما تفضل أن تذهب وتعود وحدها. وفي البيت يسود الصمت الرهيب، لا حوار ولا نقاش في أي موضوع مهما كان، الكلمات محدودة، كأنهما سيدفعان عنها رسوماً جمركية، هو يقرأ في صحيفة اليوم وقد يكمل المطالعة في مجلة قديمة، وهي تشاهد التلفاز وتدور بجهاز التحكم بين المسلسلات المحلية والأجنبية المدبلجة، وبالطبع تندب حظها أنها لم تعش تجربة عشق ورومانسية وفترة خطوبة تغرد فيها بين الحدائق والمتنزهات وتتبادل مع خطيبها كلمات الغرام الناعمة، وفي النهاية تزفر حسرة وتأففاً وتندب حظها العاثر الذي أوقعها في زوج مصاب بالخرس المنزلي مثل معظم الأزواج في هذا العصر، وتعلن عن ضجرها إذا طلب منها كوب شاي أو ماء لأنه يقطع متابعتها للمسلسل وقد يفوتها بعض الأحداث المهمة على الرغم من أنه سيعاد في اليوم التالي وستشاهده أيضاً. لم تكن تتخيل أن الزواج شكل من أشكال السجون، وأنها ستظل أسيرة في المنزل، مجرد جارية تطهو الطعام وتنظف الغرف وتغسل الملابس، إنما كانت أحلامها أكبر من ذلك وأبعد بكثير، كانت تعتقد أنها ستكون في سعادة تحلق معها كل يوم في الآفاق وفي عنان السماء، وقد وافقت على تلك الزيجة أملاً في ذلك، وهروباً من بيت أبيها لتلحق بقطار الزواج خشية أن يفوتها، ولم يكن أمامها أفضل من ذلك، بل إنها تخطت الثلاثين ولم تتم خطبتها ولم يتقدم لها إلا هذا الرجل فلم يكن أمامها بدائل أو اختيارات وليس في الإمكان أفضل مما كان. وتولت الزوجة إدارة مشروعها بنفسها فهي التي تتعامل مع السائق وتقوم بشراء مستلزمات السيارة وإجراء التراخيص، وفي كل ذلك يصطحبها السائق في تنقلاتها، وقد يتولى شراء احتياجاتها المنزلية، وفي الوقت نفسه يسمعها كلمات الغزل والإطراء ولو من قبيل المجاملة باعتباره يعمل لديها وما زال الزوج عند موقفه لا يريد أن يتدخل حتى يبعد عن نفسه وساوسها ولا تتهمه بالطمع، لكنه لاحظ تغيراً ملموساً في زوجته التي بدأت تخرج كثيراً مع السائق بحجة العمل وتهمل بيتها وحتى لا تعد الطعام أو تقوم بالأعمال العادية كما كانت، فضاق بها وخرج عن صمته ليعلن رفضه لتصرفاتها فاحتد النقاش ووجد أمامه نمرة شرسة غير تلك التي اعتادها من قبل طوال السنوات العشر بينهما فلم يصدق ما يرى وما يسمع منها، فوقف وقفة أمام نفسه يستعرض الأسباب فلم يجد جديداً إلا هذا الذي دخل حياتهما وهذه السيارة التي فجرت الكبت وأخرجت المكنون من النفس. حتى الهدوء لم يعد له وجود بينهما، والصمت الذي كانا يكرهانه هو الآخر ولى وحلت محله المشاكل والمشاجرات التي لم تخل من الصوت المرتفع يتبادلان خلالها الكلمات الجارحة والتوبيخ والتقريع، دونما أن يتعرض أحدهما لأساس المشكلة ويحومان حولها مع عدم التوافق وغياب التفاهم الذين لم يستطيعا تحقيقهما بسبب التباعد. يفيق على الشرطي وهو يضع في يديه القيود الحديدية ليقتاده إلى محبسه، ولم يخفف عنه ما همس به محاميه في أذنه بأن عقوبته ليست مغلظة لأن القتيلة تعتبر زوجته لأنها ما زلت في فترة العدة، وأنها بتصرفاتها دفعته إلى الجريمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©