الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التواضع المؤسسي

3 مارس 2016 02:02
استوقفتني تجربةٌ تستحق التأمل لمديرِ مؤسسة أوروبية يعرض فيها إحدَى آليات التطوير والتعلّم المؤسسي تتمثّل في مسابقة شهرية بين موظفي تلك المؤسسة كافة يُطلق عليها «مسابقة خطأ الشهر» «Mistake of the Month»، حيث يتم مكافأة أفضل مشاركة لموظف وقع منه خطأ في أثناء أداء عمله واستخلص هذا الموظف من الخطأ دروساً مستفادة وفرص تحسين تشاركها مع زملائه لتفاديه مستقبلاً وليجعل منه منصة تعليمية، ومدخلاً للتطوير والتحديث المؤسسي، وقد حققت هذه التجربة نجاحاً باهراً في تحسين مسار العمل وزيادة الإنتاجية وغرس ثقافة تحويل الأخطاء إلى فرص تحسين. ويُعد هذا النوع من آليات التحفيز والتعلم والنقل المعرفي تجسيداً واقعياً لمفهومٍ يفتقده كثير من مؤسساتنا، وهو (التواضع المؤسسي)، فهو مفهومٌ قائمٌ على النظر إلى القصور والعجز البشري على سبيل أنه فرصة للتحسين والتطوير، ودعم شركاء العمل في رحلتهم نحو الأفضل والأجود والأكثر تميُّزاً واستدامة. والراصد بعمق لمفهوم التواضع المؤسسي يجده يتكون من ثلاث ركائز رئيسة: الأولى: الضمير المهني اليَقِظ الذي يحدد مسارات الخطأ والصواب، ويميّز بين المرفوض والمقبول في إطار العمل، ويلزم العاملين بالتحلي دوماً بقيم الأمانة والنزاهة والاحترافية والمصداقية والاعتراف بالقصور، لتصبح هذه القيم منارات تنير للآخرين دروبهم، في مشهد صافٍ، بعيداً عمن يتشبث برأيه، منزهاً نفسه عن الخطأ، وبعيداً عمّن ذكرهم الله تعالى فقال: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)، «سورة الكهف: الآيتين 103 - 104». والأمر الثاني يتعلق بالأمانة المهنية التي تتجسد في السلوك القويم القائم على الالتزام بالوعود والوفاء بالعهود لتسبق الرقابة الربانية رقابته الذاتية وتكون مِقود الإنسان الذي يقبض عليه بإحكام ليوجهه في أداء عمله المهني بإتقان وإحسان ويقين وضمير، واضعاً نصب عينيه أنه مؤتمن في أداء عمله أمام خالقه وذاته، ممتثلاً لأمر ربه جل في علاه: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، «سورة المؤمنون: الآية 8»، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك». وأخيراً الإرادة والتوجّه المؤسسي نحو التعلم والتطوير المستمر من خلال ممارسات وعادات وترجمات عملية وواقعية تُجسد المفهوم، لأن الكبر والغرور والتعالي المؤسسي من أهم معوّقات التعلم، والله عزّ وجلّ يقول منبّهاً ومحذّراً: «وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)، «سورة الإسراء: الآية 37». التواضع المؤسسي هو الذي يصنع الفرق في مسيرة الدول والمجتمعات والمؤسسات نحو الإبداع والابتكار والريادة والتميّز المستدام، وهو القيمة المؤسسية الغائبة في بعض المجتمعات التي تعاني خصومة مع التعلم والمشاركة المعرفية والاستفادة من تجارب الآخرين بتحيزها إلى التعالي والأنانية، ولهذا نشهد كل يوم كيانات وشركات ومؤسسات حكومية وخاصة صغيرة وكبيرة تترجّل عن مطيّتها وتغادر ساحة التميّز بعد أن ظنت في وقت ما أنها ستعيش للأبد، ولكنها تلاشتْ نتيجة لغرورها المؤسسي، لتكون العواقب وخيمة وغير محمودة من التجمد المؤسسي وما يلحق به من أمراض مؤسسية، كمن أخذته العزّة بالإثم فجنى ثمرات إثمه وسلوكه. سرّ التميّز المؤسسي في الانحناء للقيم والارتفاع بالتواضع، ومنظار المؤسسة المتميزة الذي ترى به العالم حولها من زاوية مختلفة هو الفرص الواعدة والممارسات العالمية التي تتخذها منصات حقيقية للتعلم والتطور، ولهذا يمكن أن نطلق على التواضع المؤسسي ببساطة أنه «غربال الأخطاء» الذي يجعل المؤسسة أكثر حكمة ومرونة وقابلية للتطوير والنافذة التي تطل على العالم لمواكبته ثقافياً ومعرفياً وفكرياً وحضارياً وتقنياً لتحقق طموحات شركائها. لهذا تواضعوا مؤسسياً لتبدعوا مجتمعياً واقتصادياً ولتمضوا قدماً بخطى واثقة نحو المستقبل المستدام. قَالَ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رفَعَهُ اللَّهُ، فَهُوَ في نَفْسِهِ صَغِيرٌ، وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ». وختاماً، لسنا فحسب بحاجة إلى التواضع المؤسسي، بل إلى عقدٍ حبّاته من النزاهة والمعرفة والشراكة والمودّة والأمانة المؤسسية، لنكون بحق جزءاً من مستقبل لم يعد فيه مكان إلا لمن يملكون القيم، ويعملون بها ويرتقون من خلالها علواً وسمواً وإنجازاً وأثراً مستداماً. الدكتور - عماد الدين حسين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©