الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السينما·· الكتابة بالضوء

24 فبراير 2008 00:28
السينما، تلك الشاشة السحرية التي تذيب ذهب الفنون وتعيد سبكها وتصديرها؛ تصرّ دوماً على طرح نفسها كطرحٍ نهائي يأتي دوماً بعد أي فن، يتجاوزه ويعيد ترتيبه· معتمدةً على كونها ـ بالرغم من واقعيتها نظرياً ـ ليست زمانية كالموسيقى والرقص ولا مكانية كالنحت والهندسة، وكونها مزيجاً مذهلاً بين تعظيم وتثبيت الزمان (اللحظة) وتكثيف المكان (المشهد)، تعيد تكوين العلاقة بينهما بمنتهى البساطة والتعقيد معاً· وعلى أن الكثيرين كانوا يعارضون بشدة المفهوم القائل إن الصورة السينمائية مركبة من عناصر فنية مختلفة، الفكرة التي تنفي أن السينما فن، وعلى أنه قد يبدو نظرياً أن السينما والتشكيل عالمان مستقلان من حيث الأدوات وطريقة التعبير والعلاقة مع العالم؛ إنما فعلياً ومن خلال التداخل الحاصل بينهما على المستوى الجمالي والتقني ثم من خلال تبادل الأدوار بينهما عبر التاريخ، إلا أن بينهما توأمةٌ فنية كتلك التي بين النحت والهندسة تماماً· تبادل الكراسي التشكيل الذي سبق السينما بطبيعة الحال، حاول منذ بدايته أن يثبت ويجمد اللحظة/ الحركة، وظل هاجسه الأكبر تضفير جديلة الزمان والمكان الجدلية!، وذلك في قالب واحد وبأدوات بسيطة وقاصرة· وكانت اللوحة هي الزمن معروضٌ بلغةٍ مكانية، ووجدت تلك المحاولات تطوراً في أدواتها ومعطياتها مع بداية عصر النهضة الإيطالية التي (بروزت) اللوحة داخلياً وأطّرت المساحة التشكيلية داخل اللوحة بما يشبه (الكادر) الذي له ثلاثة أبعاد محكمة بعناية، عرض وعمق وارتفاع؛ مؤسسةً بذلك للمسرح الذي خلف فيما بعد السينما بشرعية تطورية كان لا بد منها· فالمساحة التشكيلية في اللوحة إذن هي التي أسست للمساحة الفلمية فيما بعد (وما الشريط السينمائي في بداياته إلا لوحات تشكيلية بكوادر متلاحقة)· وجاء التأثيريون ليضعوا حلولاً مبدئية لمشكلة العلاقة بين المكان والزمان في تركيب بصري تصويري وبعض البناءات المفاهيمية التي استخدمتها فكرة نشوء السينما فيما بعد، ونجد أن أكثر من لوحة إبان ذلك صورت لحظتين على قماشة رسمٍ واحدة مثل (الطوفان) لأوشيللو، ولوحات اعتمدت التوليف والمونتاج كلوحة الفنان ذي الصليب الأصفر لـ''جوجان''، وأخرى صورت الحركة وانتقال الاهتزاز تشكيلياً كأعمال ''رينوار'' و''مونيه''· إن هذه الحقبة قدّمت الكثير من وجهات النظرالتشكيلية، والتي لم تكن في حقيقة الأمر إلا وجهات نظر سينمائية، الفن الذي قام على الأدوات ذاتها (الألوان والظلال والخطوط والتكوين والحركة والضوء والظل، وغيرها)· لقد أثرت الحركات الفنية على السينما بشكلٍ عام، فمع بروز التعبيرية في ألمانيا أفرزت أفلاماً تعبيرية أيضاً مثل (آخر البشر وكاليجاري والفجر المتأخر ومتروبلوليس)، والواقعية في إيطاليا وهبت السينما أفلاماً رائعة مثل (روما مدينة مفتوحة) و(الصعاليك)؛ وحتى مع ظهور حركتي السوريالية والتكعيبية، كانت هنالك سينما موازية لهما؛ فظهرت التكعيبية في أفلام عدة مثل (إنفجار) لأنطونيوني؛ وبلعبة تبادل الكراسي والنفعية المتبادلة والمدورة، نجد أن التكعيبية استفادت من السينما بشكلٍ منقطع النظير، بل وتدين لها في الكثير من أساسياتها، فقد ذكر دون ريتشاردسون، كاتب سيرة بيكاسو الذاتية، أن بيكاسو رأى فيلمه الأول في برشلونة قبل أن يرى سيزان، وكان ذلك 1896 وأن أول لوحة رسمها بيكاسو في داخل الاستوديو والمسماة the point charge، قد تكون مستوحاة بشكلٍ جزئي من مشهد في أحد الأفلام القصيرة التي رآها، وهو '' the cavalry charge'' . المخرج تشكيلي والرسام مخرج لعل المخرج الياباني أكيرا كوروساوا أول نموذجٌ يتبادر للذهن كمخرج تشكيلي في جميع روائعه (الساموراي السبعة والملاك السكران··)؛ أيضاً المخرج الإسباني لويس بونويل المجنون الذي أشرك معه رائد السوريالية سلفادور دالي في كتابة وإخراج فيلمه (عصر الذهب) إضافةً لإشراك الشاعر جاك بريفير والرسام السوريالي ماكس إرنست في الفيلم الذي قدموه مثالاً لنظرية تكامل الفنون· كما لا ننسى السينمائي والمنظر الفرنسي إيريك رومير الذي دفع بالسينما باتجاه تحدي بقية الفنون، بل وحتى ان إيمانه بالسينما كفنٍ قائم أوصله لأن يقارن بين السيليلويد (المادة التي يتكون منها الفيلم) والرخام (مادة النحت الأولية)!، وهو الذي استلهم الثيمات التاريخية والإشارات الهندسية في أفلامه، والفرنسي الآخر جان غودار· هذا وهنالك العديد من المخرجين الذين أتوا من التشكيل مثل المخرجة المغربية نرجس النجار والفرنسي موريس بيالا والبريطاني بيتر جرينوي والنمساوي فريتز لانج صاحب التحفة ''متروبوليس'' الذي بدأ حياته العملية كمهندس معماري ورسام تشكيلي وكاريكاتوري، مان راي وهانز ريختر وفرانسس بيكابيا كانوا ضمن الفنانين الذين قاموا بمحاولات تجريبية مع الفيلم لغايات سوريالية· كما نذكر الأميركي ديفيد لينش صاحب المقولة التي توثق العلاقة الممتدة بين السينما والتشكيل إذ يقول: ''بدأت رساماً، والسينما هي امتداد لهذا الفن''· أفلام لكنها لوحات·· لوحات إنما سينما حينما يبدأ المخرج السينمائي في قراءة السيناريو فهو يرسم الشخصيات والأحداث ذهنياً وبصرياً ويشكل ملامحها، ثم يشرع ـ عملياً ـ وفق أدواته وعناصره الفنية بتحويل كل ذلك إلى تكوينات بصرية، وهو في تحقيق ذلك يوظف الضوء والظل والنسق اللوني، ويعالجها وفق تجربته وإدراكه وعاطفته وحساسيته الجمالية والفكرية· عكس ذلك يفعل الرسام إذ يخرج الصورة النهائية ذهنياً ويعيد تركيبها· فالسينما في العموم ـ إن جاز التعبير ـ تخضع لعقلٍ تركيبي والتشكيل يخضع لعقلٍ تحليلي أو تفكيكي· ولدت السينما صامتة وظلّت كذلك ردحاً من الزمن، ثم أضيفت النصوص للمشاهد والشخوص· من ينسى فيلم (خطوات الأوديا) للمخرج الروسي سيرجي إيزنشتاين الذي يرسم مشاهده وينحتها بصمت خصوصاً في المشهد الذي تتحول فيه الاحتفالية إلى مذبحة وحشية· في فيلمه (فريديانا) نقل المخرج لويس بونويل مشهد العشاء من لوحة ليوناردو دافنشي (العشاء الأخير)، وفي فيلم الفتاة ذات القرط اللؤلؤي صور المخرج البريطاني بيتر ويبر العلاقة بين الفنان الهولندي فيرمير وموديله الملغز من رواية تريسي شيفالييه، واللوحة التي تحمل العنوان· الأميركي روبن ماموليان لم تخل أفلامه من لوحات موريللو وجويا وآل جريكو وفيلاسكويز، الإيطالي لوشينو فيسكونتي كان يعتمد على اللوحات في إزياء أفلامه، ستانلي كوبريك كان ناقل أمين للوحات وأفكار الرسام جويا· ويعترف المخرج تيري جيليام أن فيلمه (Jabberwocky) مؤسس على رسومات بوش وبروجيل، كما صرح المخرج الفيتنامي تاران أن فرانسيس بيكون هو رسامه المفضل· وهناك بضعة أشياء من بيكون في فيلمه (Cyclo). وقال: أنا متأثر به كثيراً وبالفكرة التي تتضمن بقوة في رسوماته: الوحشية بوصفها حقيقة، المخرج البريطاني بيتر جرينوي عبر عن افتتانه بإحساس فيرمير البصري· كما لا يفوتنا ذكر أن منفذي أفلام الرسوم المتحركة هم من الرسامين أساساً، الذين يحملون أساليب ورؤى مختلفة، بل إن بعضهم حقق نجاحاً لافتاً عندما انتقل إلى مجال الأفلام الدرامية الطويلة مثل الياباني كون ايشيكاوا والبولندي فاليريان بوروفشيك وغيرهما من الذين حملوا معهم تأثراتهم بمجال التحريك من حيث توظيف الألوان والتعامل مع الشاشة كما لو أنها لوحة تستقبل تكويناتهم الجديدة، والتعامل بطريقة مغايرة في السرد والبناء والمونتاج، واعتماد الغرابة والإدهاش· تبقى السينما هي الكتابة بالضوء، وتبقى اللعبة مستمرة بين اللوحة والشاشة يفيدان من بعضهما وتثري إحداهما الأخرى· هاني نديم haninadeem@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©