الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الأساتذة الصغار» يخلخلون الأفكار

«الأساتذة الصغار» يخلخلون الأفكار
15 ديسمبر 2010 19:52
تثير رسومات الأطفال المشاعر إلى حد مربك، بل إلى حد يخلخل فكرة المرء عن الفن وظيفة ودوراً، سواء على المستوى الاجتماعي أو الفردي. إذ يمارس الطفل الرسم ثم يقوم بعرضه على عائلته الصغيرة فإنه يمارس تعبيراً ما نفسه، لكن إذ يكون هناك معرض متكامل ويضم هذا العدد من الرسومات، فإن الأمر يتجاوز ذلك ليعبر عن موقف الطفولة إجمالاً من العالم، فثمة أشواق ورغبات ومشاعر وإحباطات وأحلام أيضاً. هذا النوع من الممارسة الفنية الفطرية والتلقائية ليست بتعبير عن الذات فحسب، وليست لعباً وحده بل هناك دوافع أخرى غير كلاسيكية في محاولة فهم هذا الأمر لا تتوقف عند الإحساس بالجماليات الفنية، إذ يتجاوزها الأمر إلى الرغبة العميقة لدى الطفل في التعبير عن “أناه” التي تخصه وتفسر بوضوح رأيه في ما يجري حوله وتقول رأيه بواسطة “الشخبطة” بما هو تنفيس عن ما يشعر به الآن وهنا وليس سابقاً أو لاحقاً. هذا ما يشعر به الناظر إلى أعمال معرض بينالي الشارقة الدولي لفنون الأطفال الذي تقيمه الإدارة العامة لمراكز الأطفال والفتيات ـ المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، الذي افتتح في متحف الشارقة للفن العربي المعاصر، دون أي إشارة من قبل الصحافة المرئية والمسموعة، في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي ويغلق أبوابه في الثلاثين من هذا الشهر. بدءاً، فإن المعرض فضلاً عن مشاركات من دولة الإمارات يضم رسومات، يكاد يكون لا حصر لها لجهة إمكانية الوقوف أمام كل عمل بمفرده، إذ تبلغ 1445 عملاً، من أربع وثلاثين دولة من العالم، يستحيل التوقف أمام أي عمل إلا بوصفه عملاً تشكيلياً مكتملاً وناضجاً ولدقائق معدودة فحسب، ما يجعل أي تجربة جمالية هي تجربة عابرة وربما تنطوي على موقف مسبق، إلا أن البعض منها، في الوقت ذاته، يثير شكوكاً في أن الذي قام بإنجازها هو الطفل ذاته الذي يحمل العمل توقيعه عليه، لذلك سوف يجري التوقف عند الأعمال الفائزة فقط، بل بنماذج منها، هي التي توزعت على فئات عمرية عديدة، ومثلما على ثلاثة حقول، الرسم والتصوير وطباعة اللاينو، التي هي نوع الطباعة الغرافيكية الأولية كي لا نقول البدائية إذا جاز التوصيف، حيث بوسع الطفل أن يتعامل معها بليونة وبمخيلة واسعة أيضاً وأخيراً الخزف. إجمالاً وبحسب الأعمال فإنه يمكن القول، كلما انطلقنا عمرياً من الفئة الأصغر إلى الأكبر، وبحسب تصنيف كاتالوغ البينالي، تبدو الخطوط أكثر قوة وصراحة والألوان فاقعة أكثر إلى حدّ أنها صاخبة والأفكار المطروحة أكثر قرباً من البيئة والمشهد العام، أما لدى الفئات الأكبر سناً فهي أكثر وفاء لإيقاع ما ومنشغلة بالبحث عن توازن “فني” في العمل التشكيلي، الأمر الذي يبرر تلك الشكوك بأنها من منجز أطفال. الفارق الكبير الآخر الذي يستوقف الناظر إلى أعمال معرض البينالي يمكن اختصاره بالقول: في أعمال الأطفال من الفئة العمرية الصغرى فإن “الأستاذ الصغير” يرسم العالم كما يراه، أما في الفئات الأخرى فهو يرسم العالم كما يعرفه، أي أن “الأستاذ الصغير” أكثر فطرية، وربما صدقية، في التعبير عن نفسه فقط. إن تعبير: “الأستاذ الصغير” أو “الأساتذة الصغار” هو من اشتقاق الرسام الإسباني بابلو بيكاسو، ولربما في الأصل من النقد الذي أحاط بأعماله، لكن ما هو أكيد أن هذا الرسام الذي شغل الناس طيلة القرن العشرين قد انحاز في فنه نحو الفئة العمرية الصغرى في رسومات الأطفال، بحيث استطاع التعبير بفطرية عن مشاعر كالكراهية أو الغضب يمكن للمرء أن يلمسها بسهولة في أعمال هذه الفئة العمرية التي من الممكن تصنيفها، لو صرفنا النظر عن العمر، بأنها أعمال تشكيلية سوريالية، إذ من الصعب القول إن ذلك نتاج لخبرة تخييلية وافية، بل هو نتاج لمخيلة لا تزال تنمو وتنمو. في ما يتعلق بالفئات العمرية الأكبر، يتراوح الأمر ما بين المقدرة على تحقق الفردية وعدم تحققه، ففي حين يلحظ المرء أن الأعمال المنجزة من قبل فتية وأطفال من ثقافات غير عربية هي أعمال ليس للفرد أو الشخص حضور فيها، فإن الأعمال التي تنتمي إلى ثقافة أوروبية تجد أن مَنْ يُمارس الرسم فإنه يعبّر عن ذاته بالدرجة الأولى، لا عن بيئته والمجال المحيط به، وهنا ثمة افتراق بين ثقافتين، يتربى الطفل في الأولى منهما بحيث يكون جزءاً من المجموع، وهذا غالباً وليس بالمعنى المطلق، وثقافة أخرى تذهب باتجاه دفع الطفل إلى تحقيق فرديته وإشباع رغباته والتعبير عن أشواقه بعيداً عن إن كانت ساذجة أم لا. أما اللوحات التي أنتجها أطفال ينتمون إلى ثقافات آسيوية بعيدة مثل بنجلاديش والصين والهند فيشعر الناظر إليها أنها أكثر نضجاً وأكثر احترافاً والمحيّر فيها هو امتلاؤها بالتفاصيل حتى في تلك الأعمال المنفذة باللاينو، حيث يبدو أن هناك “حرفة”، كي لا نقول “احتراف”، في توزيع عناصر العمل على السطح التصويري إلى حدّ أن المرء يحسب نفسه بإزاء عمل تشكيلي لفنان ناضج سواء أأعجبه العمل أم لا، حيث يجري غالباً رسم الشخوص بطريقة تقليدية، لكن هناك عيون واسعة على نحو غريب في وجوه الشخوص في الأعمال، حتى الذين هم من الفئة العمرية الصغرى يثير الاهتمام بالفعل. إنما تقنياً، أي استخدام أدوات أكثر حداثة، أو غير تقليدية بمعنى أصح، في الرسم والتصوير فتظهر في الرسومات لفتية من الفئة 16 إلى 18 من أوروبا الشرقية، يشعر المرء أنه أمام فعل فني ناضج، هو استمرار لمدرسة بعينها للكيروجراف الروسي حيث ينحو “الفنان” باتجاه غموض من نوع مثير للتأمل، لكن الخلفية قد تمّ تطريزها بالتفاصيل بدأب على نحو ما تفعل فلّاحة عريقة من بلاد الشام عندما تطرز ثوباً لها وتريده أكثر إغواء. ومن الأرجح أن هناك مدارس خاصة بهذا الفن الطباعي في بلدان أوروبا تلك، بل وفي الصين أيضاً، حيث اخترعت الطباعة يوماً ما، وحيث لا يزال الصينيون يفاخرون العالم بأنهم علموا البشرية هذه التقنية، لكن ما يميز الصنيع الآسيوي، الصيني والكوري تحديداً، هو ميل “الأساتذة الصغار” إلى نوع من التجريب في استخدام التقنية الطباعية بحد ذاتها كتقنية، أما ذلك التجريب الذي ينتسب إلى المدرسة الروسية فينتسب إلى الشكل، كأنْ يرى المرء صوراً سوريالية فيتذكر، مباشرة، فرانسيسكو غويا الإسباني ولوحاته التي عنونها بالنزوات، وبالطبع ليس لجهة رفعة سوية إتقان استخدام التقنية والتعامل معها كوسيلة لإنتاج خصوصية ما تميز صنيع الفنان بل لجهة الأجواء الغرائبية والسوريالية التي يتم التعبير عنها، بحيث تبدو كما لو أنها مدروسة مسبقاً. أما بالنسبة للخزف فقد حازت الطفلتان الإماراتيتان حصة علي المزروعي وهبة أحمد المزروعي المركزين الأول والثاني فيما حلّت آية نجاح من مصر في المركز الثالث. والسؤال الذي يثير الفضول بالفعل هو: إلى أي حدّ يمكن لطفلة ما بين التاسعة ولغاية الثانية عشرة أن تتعامل وفقاً لروح إبداعية مع تقنيات عالية التعقيد في إنتاج أعمال خزفية فنية بمثل هذه الجودة والسوية الفنية العالية، ويزداد الأمر تعقيداً مع الفئة العمرية من الثالثة عشرة وحتى الخامسة عشرة، حيث حازت المركز الأول والثاني والثالث الفتيات الإماراتيات: شهد محمد عبيد وحليمة سالم علي وشمة علي سبت فيما حلّت ثالثة الفتاة إيمان علي أحمد خميس ثالثة لفئة ستة عشر عاماً وحتى ثمانية عشر. بالنسبة للفئة الصغرى يبدو العالم واضحاً وبسيطاً وممتلئاً، إما بعناصر بشرية أو بعناصر تراثية تمنح العمل طابعاً تجريدياً، أما لدى الفئة العمرية الوسطى، فإنه أكثر تعقيداً ويمنح الناظر إليه انطباعاً بأنه ينتمي إلى المدرسة العراقية في صناعة فن الخزف، ذلك أن الأعمال هنا هي أقرب إلى الصور، فضلاً عن الرموز والإيحاءات التراثية الأكثر تعلقاً بالمرأة ربما ومن ثم الدينية شديدة الحضور، لكن ما يميز هذه الأعمال جميعاً هو انتباه المشتغلات على إنتاج هذه الأعمال إلى مستوى مقبول جداً في التعامل مع الخزف سواء على مستوى “شي” الأعمال والدرجة التي ينبغي عندها إطفاء النار أو على مستوى درجة اللون وخلق قَدْر من التناغم بينها في العمل. في أي حال، يمثل بينالي الشارقة الدولي لفنون الأطفال فرصة “لاذعة” للخروج من حياة يومية ضاغطة، بل إنه مثير للمخيلة أيضاً، ويجعل المرء يدرك كم أن هؤلاء “الأساتذة الصغار” هم أساتذة حقاً وبمقدورهم أن يبدلوا صورتنا عن أنفسنا وعنهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©