الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التمرد على الواقعية الجديدة بالتشويش عليها

التمرد على الواقعية الجديدة بالتشويش عليها
15 ديسمبر 2010 19:50
إن الانشغال الأساسي في أعمال المخرجة الفرنسية كاثرين برييلا (1948) السينمائية هو الجنسوية النسوية؛ بكل ما فيها وعنها، وهو المنجَز الذي لا منجَز سواه لهذه المخرجة. كم من النساء من المخرجات السينمائيات، على العكس منها، لم يكنَّ، بطريقة ما، مشغولات بأمر النساء. وذلك بالطبع، وذلك في الوقت نفسه حيث الانشغال بالجنسوية الأنثوية، في أغلب أشكال الإنتاج السينمائي، ينصبّ على ما هو “فضائحي” أكثر مما هو نوع من الاستبطان والغوص في إشكالية معرفية بامتياز؛ إنها ـ أي أغلب أشكال الإنتاج السينمائي ـ تطمئن حيث يمكن ذرف الدمع وحيث أي مسعى لتنقيح صورة شخصية المرأة قد تمّ تقويضه كاملا من خلال ما يحدث من عرض شامل للجسد الأنثوي. في هذه الحال، ليس بوسع المرأة، حتى لو كانت امرأة فاتنة، أن تكون أكثر من سبب لسقوط البطل، لكنها تبقى مصدرا لسعادة بصرية. وعلى الرغم من أن أفلام برييلا قد وطأت قدمها على الخط الناعم جدا بين الفضائحي والاستبطاني ـ فقد اعترفت برييلا أن أعمالها غالبا ما كانت تدور حول فعل الجنس ـ وقد حدث ذلك بسبب وطأة الاختلاف الجوهري في الوعي النسوي لديها. وبكلمات برييلا: “لقد اتخذت من الجنسوية دافعا وليس موضوعا”. لكن، بالطبع، فإن هذه الصيغة هي نصف الحقيقة. إذ أن أفلامها قد انشغلت بتوضيح طبيعة فهم المرأة لجنسويتها، على نحو عزّ نظيره. ومن المحتمل، أنّ العلاقة المازوشية لفعل الجنس كما في فيلمها في Romance (عام 1999) كانت على ما يبدو هي الخليج الذي لا يمكن ردمه ما بين الجنسي والعاطفي في علاقة تجمع بين امرأة ناضجة ورجل شاب، الأمر الذي يتكرر إلى هذا الحدّ أو ذاك في in Parfait amour (عام 1996) وBrève traversée (عام 2001). مع ذلك، فإن الأفلام جنسوية صريحة، وتعارِض دوافع برييلا، إذ أن فعل الجنس هنا هو دافع وموضوع معا، في أفلامها. علاوة على ذلك، فإن أفعال الجنس في أفلام برييلا ليست واضحة فحسب، بل غير مصطنعة أيضا، وميزة أفلامها، التي أسهمت في بناء شهرتها العالمية غير المتملقة، هي التعامل معها ليس كمخرجة بل بوصفها مؤلفة مشاهِد متميزة. وبالنسبة لبرييلا، فإن الظهور المرئي لفعل الجنس غير منفصل عن إبرازها لوعي شخصياتها. وهذا الإبراز للوعي مركزي أيضا في تطوير مستوى الشكل المرئي الذي ابتكرته والذي يجري التغاضي عنه في الأفلام الثقافية المعاصرة. وهذا ما يجعل سيل الاعتراضات على أعمالها ممتدا وكذلك الاختلاف بشأنها، أي كون برييلا مخرجة سينمائية، بالمعنى الحقيقي، أم لا. بدأ انشغال كاثرين برييلا بإبراز الجنسوية النسوية في مرحلة مبكرة من سيرتها الفنية؛ بدأ بوصفها كاتبة، عندما طُبعت روايتها الأولى،L’homme facile، وكانت لا تزال في السابعة عشرة من عمرها. ومن المفارقات أن الكتاب كان محظورا على القرّاء دون الثامنة عشرة في فرنسا بسبب محتواها الجنسي الواضح والفاضح والآثم، وهكذا بدأت برييلا حياة الاختلاف والجدل في مرحلة مبكرة من مسيرتها الإبداعية. فحازت بسرعة صيت “السيدة دو ساد” ـ إشارة إلى الكاتب الفرنسي الذي كتب روايات جريئة تقترب من الهذيان تحت اسم الماركيز دو ساد خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطالع التاسع عشر الماضيين ـ وذلك بوصفها بائعة متجولة للجنسوية الآثمة. لكن، مضت برييلا قدما فطبعت سبع روايات ومسرحية، أعدت البعض منها بنفسها للشاشة. توجهت برييلا إلى الإخراج السينمائي في العام 1975 بإعداد روايتها الرابعة “الفتاة الحقيقية يونغ” فبدت واقفة في المنتصف بين إعدادها روايتها للسينما بوصفها كاتبة هذه الرواية وبين المخرجة المتقدة حماسة التي ينبغي عليها أن تختصر وتحذف وتشذِّب، لكن ما من ريب فإن مهمة الإخراج كانت ذات نفوذ أعلى. في عام 1972، ظهرت برييلا في “التانغو الأخير في باريس” للبيرناردو بيرتولوشي، ولعبت دور شخصية تُدعى “لوتشي”، لم يختر بيرلوتشي هذا الاسم بحكمة، بل أخِذَ كما هو، من مسمّى بطلة رواية “موتشي” لروبرت بريسون 1966. كانت “موتشي” بريسون شابة إلى حدٍّ بعيد، وفتاة محرومة تماما، وناضجة، بالمعنى الفني للكلمة، على مستويين: الاعتداء الجنسي تجاهها وممارسة الانتحار الجنسي، اللذين كانا، على الأرجح، قالبا للكثير من مراهقي برييلا المعذبين. لكن فيلم بيرلوتشي، تمركز حول المعاناة العاطفية لرجل أميركي في باريس وبدأ بعلاقة غرامية مجهولة وآثمة تجري في فراغ؛ وفي شقة باريسية متهدمة، الأمر الذي ترك بلا شكّ أثرا كبيرا في سعي برييلا إلى إبراز الجنسوية. كانت تلك مرحلة فقط، تفضح لنا برييلا، فيما بعد، مواجهة جنسوية، متقلِّبة غالبا، لكن لا تخبرنا كيف تفكِّر هي بها. إنها لا تُحاكم شخصياتها أو رغباتهن. لكن هذا لا يعني في أية حال، أنّ صور برييلا وشخصياتها قد طُرِدت من الاعتبارات الأخلاقية بالضرورة. بالأحرى، فإن غموض شخصياتها والدلالة الجوهرية للبذاءة، هي فقط كي تجعل من أفلامها ذات معنى أعمق. هذه المقاومة للبساطة، ومن ثَمَّ الاقتصار على موضوع الجنسوية النسوية، وطبيعة إدراك الشخصية لذاتها، هي مفاتيح أفلام برييلا، إنها كلّها تقف بوصفها مساع لتقديم وعي شخصياتها النسوية بكل عناصر المُركّب الكيميائي الذي يخص كل منها على حدا. في الوقت نفسه، لا تمنحنا برييلا حرية وصول سهلة إلى العقل النسوي، ذلك الذي نجده في تيار من الأفلام حيث وعي المرأة هو دائما مظهرها الخارجي. تقول برييلا: “ما من سيكولوجيا مذكرة في أفلامي. هناك فقط ضغائن ورغبات نسوية. لا يمكن لرجل أن يحاول أن يميِّز نفسه في شخصياتي الذكورية. من جهة أخرى، يمكنه أن يجد في أفلامي فهما أفضل للنساء. ومعرفة الآخر هي الهدف الأكثر سموا”. ربما أن التأثير الأكبر في أعمال برييلا يوجد في الواقعية الجديدة الإيطالية، أو على الأقل في فكرة هذه الواقعية. تتحرك أفلام برييلا ببطء، إذ أنها تفضّل المَشاهِد الطويلة غير المنقطعة مصحوبة ببضعة كاميرات معدّة. وهي مهتمة إلى حدّ بعيد بتوثيق اليومي والعادي، ومولعة بمشهد فتاة شابة تمشي في الشارع أكثر من أن تكون جالسة، رغم أن الشخصية في الحالين هي نفسها، على الأقل، قبل أن ينحلّ الصراع، في مسعى منها لإبقاء السرد السينمائي متحركا. لقد تأثرت برييلا كثيرا بالفكرة الشهيرة للمخرج الإيطالي زافاتيني حول الواقعية الجديدة وما ينبغي إعادته إلى مكانه من هذه الواقعية: “إن أهمية الابتكار، فيما يدعى بالواقعية الجديدة، يبدو لي، هي أنه ينبغي إدراك ضرورة “الحكاية” بوصفها طريقة لا واعية للتمويه على الإحباط الإنساني، فالحكاية هي ذلك النوع من المخيِّلة التي تقتضي، ببساطة، تكنيكَ موتٍ جرى تركيبُ أكثر من صيغةٍ له فوق حقائق المجتمع الحيّ” تقول برييلا. وفي الأغلب من بين أفلامها الأخيرة، تقدم برييلا تأملا ارتداديا عن صناعة البورنوغرافيا. وارتداد برييلا هذا كان من الممكن أن يكون مخيِّبا للآمال. في 36 Fillette، تطرح للنقاش أمرا يتعلّق بأهمية حكاية عن فتاة شابة تحاول الوصول إلى تفاهم مع جنسويتها الخاصة، دون تأويل للحكاية. مع ذلك، فإن نزعة برييلا إلى التشويش على سردياتها الواقعية هي جزء من شاغلها الأكبر في تحليل، ليس فقط، تقاليد الصناعة السينمائية المعنية بنفيها، بل أيضا هي تقوم بتوظيف هذه النزعة. بكلمات أخرى، هي ترتاب من الواقعية بوصفها استراتيجية حتى لو كانت أسلوبها المفضل في الاحتجاج.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©