السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حضارتان تتعايشان في صراع!

حضارتان تتعايشان في صراع!
15 ديسمبر 2010 19:33
سيرة الشاعر العراقي سركون بولص (بحيرة الحبانية العراق 1944 برلين 2007) وشعره هما مثال لحالة فذة من وعي المهاجر بالمكان القديم والماضي، وبالحاضر ومكانه الجديد، فقد ترك العراق ليصل إلى سان فرانسيسكو عام 1969 ليعيش قرابة أربعة قرون غير بعيد عن النسغ الثقافي الذي انتمى إليه كونه واحدا من أهم أسماء الستينات الشعرية التي اقترنت بها أسلوبيات الحداثة، لاسيما في اتخاذ قصيدة النثر شكلا للكتابة الشعرية التي كان سركون بولص من أوائل روادها في العراق. لم ينجُ سركون بولص من الصدمة التي تصيب المهاجر والشاعر مهاجرا بشكل أخص، وفي أميركا حيث تتلعثم الحضارة ولا تجد لها مكانا بإزاء مدنية فاقعة تقدم البصري على الروحي وبديلا عن غيابه وتفتقر إلى العمق الحضاري والمنجز البشري. كان ذلك كبيرا بالنسبة لشاعر قادم محتدما بحمولة رمزية وروحية وثقافية وحضارية هائلة كسركون بولص: من العراق حيث الجداريات والرقم الطينية والأساطير والفكر والفن والشعر والموروث الغني في مجالات الحياة المختلفة. “شوبنغ مول”... يصف سركون بولص هجرته بأنها أسفار ضد الزمن ليس له أن يحمل أشياءها على ظهره إلى الأبدية، ويصير فيها لسانه برج بابل، فيتخذ له وجهة أخرى، فحين تكون ثمة طرق أخرى إلى روما يقول “لستُ ذاهبا إلى روما، روما ليست مدينتي/ أنا عارٍ وها هي يدي إنها فارغة”. ولكن روما لم تعد روماه أيضا؛ وبمقابل ذلك لا يهبه المكان الجديد إلا اغترابا أبديا ووعيا شقيّا يؤرق شعره وحياته معا، فيشبه هذا المكان بمخزن كبير (شوبنغ مول) رآه في كاليفورنيا؛ فكتب مفلسفا وجود حاجاته المكدّسة “أهرام/ من البضائع/ الجاهزة/ عرق البشرية/ المستحيل أحذية/ وحقائب/ في ثكنة/ جنودها/ جيش من المستهلِكين..”. وإزاء ذلك يخاطب احد أسلافه المهاجرين هو جبران خليل جبران بالقول: “..إذا بنا هنا نعيش/ لكننا نحيا هناك” مشخصاً التشظّي في (العيش) هنا = أميركا، بما يعنيه من حيوانية وعادية، و(الحياة) هناك بما تحمل من سمو وحيوية في أوطانهما البعيدة، مقترحا على جبران أن يخفي نايه فيقول: “أعطني الناي/ أو لا. لا تعطني الناي/ سيّان أن أغنّي/ أو لا أغنّي في هذا الهدير/ هنا تشتري المغنّي/ بدولار/ وهذه ليست أورفليس”.. فالعيش في المكان الحلم لا يمنع رؤيته من بعد بعيني الحقيقة.. حتى ليتساءل الشاعر في قصيدة من ديوان “عظمة أخرى لكلب القبيلة” الذي صدر بعد وفاته: “أينها؟ أين أميركا التي عبرتُ البحر لآتيها، أنا الحالم؟ هل ستبقى أميركا ويتمان حبرا على ورق؟”. لقد كانت أميركا حلماً تغذيه (أوراق العشب) للشاعر والت ويتمان ولكنها سرعان ما تتبخر في واقعات تواجه الشاعر وتوقظ وعيه. سرّ أميركا! قصيدة سركون “حانة الكلب” من ديوانه “إذا كنت نائما في مركب نوح” تعيد الحوار الشخصي مع المكان ودلالاته النفسية والثقافية. وهي ذات أهمية في تاريخه الشعري، فضلا عن تعبيرها عن درجة الصدمة التي تلقاها كأي مهاجر، فهي مكتوبة عقب سنوات النسيان الشعري التي عاشها الشاعر بعد وصوله المهجر بسنوات، يؤرخها الشاعر في عام 1975 وهي السنة التي يعود فيها للكتابة بعد توقف وقطيعة شبه كاملة ـ كما يقول ـ مع كل ما كان يعرفه من شعر الحاضر العربي وماضيه. وهي أولى قصائده بعد العودة التي يعترف أن رسالة جاءته من أدونيس شجعته عليها، وبعث له قصائده لينشرها في مجلته “مواقف”. لكن لكن الواقعة التي كانت وراء “حانة الكلب” والعودة للشعر هي تجلٍ آخر للصدام والصدمة: في ختام ديوانه يشير سركون مطولاً للقصيدة: “كان هذا العنوان قد خطر ذات يوم وأنا أسوق سيارتي في شارع إل كامينو ريال أي الطريق الملوكية وهو أطول شارع في كاليفورنيا.. يرمز إلى الطريق التي سلكها كهنة المكسيك.. لاحظت بالمصادفة يافطة على باب بار استرعت انتباهي في الحال وتوقفت عندها كأنني وجدت سر أميركا أخيراً: حانة الكلب حرفيا على طريق الملوك.. ملوك الروح.. ذلك المعنى المتأرجح بين الكلبية والقداسة، بين حضارتين متصادمتين، عالمين بينهما فروقات شنيعة.. كتلك التي بين أميركا الشمالية والجنوبية، أو بين الغرب والشرق. هكذا عدت إلى الكتابة ثانية. وكانت حانة الكلب”. وهذا يؤكد أن الشاعر عاش الصدمة كسواه، على الرغم من هجرته مسلحاً بإنجليزية عالية يترجم عنها ويقرأ بها، وعلى الرغم من تربيته وانتمائه الديني، ورايات الرفض والتمرد التي عرف بها جيله، وجماعة كركوك تحديدا. لقد كانت حانة الكلب شرارة في هشيمين خامدين ولكن متحفزين للاستثارة الأول: ما عاش الشاعر من تفاصيل يومية ناسيا ومكافحا حياتيا وغريبا، فانتبه إلى الكتابة وعاد إليها. والثاني هو الاصطدام الحضاري فها هي أميركا تبدو ملخصة وقد عثر الشاعر على ما أسماه سرها. إنها تعيش معنى متأرجحا بفعل الصراع بين الكلبية التي يمثلها الكلب، والملوكية التي يمثلها الشارع الذي تقع فيه الحانة، حانة وكلب بإزاء طريق وملوك، روح ومادة، حضارتان متضاربتان، وعالمان: جنوب وشمال، شرق وغرب. لا غرابة أن يضع سركون لقصيدته مفتتحا هو مقتبس من جلال الدين الرومي يقول: “إذا كنتَ نائما في مركب نوح وأنت سكران/ ما همّك لو جاء الطوفان” وصار النوم في مركب نوح عنوانا للديوان أيضا، لكن الشاعر لا يريد قراءة عتبة العنوان أو الاقتباس أعلى القصيدة بكونه انبهارا بصوفية ما بل لتوظيف العبارة لما يسميها الشاعر (مجال الوثبة الشعرية) لا الروحية المقصودة في تصوف الرومي.. فقد كان مقدرا لشعريته أن تظل في إغفاءة طويلة تنتظر في مركب نوح مختلطة بالحيوات التي حملها بحثا عن اليابسة ورؤية الأرض ثانيةً.. حتى عاد للكتابة. مصالحة مع القصيدة تبدأ “حانة الكلب” باستهلال يؤكد خطتها كبشارة للعودة إلى الشعر، فيسرد الشاعر لمرويّ لهم متخيلين موقفه من التفكير بماهية الشعر، تلك التي تمثل حالة حلمية يجد لها الشاعر ألفاظا وصورا معبرة؛ فكأنه نائم يحلم انه يتعثر برجل نائم تحت جبل فيركله ليوقظه ثم بتهور لكي يستيقظ ويوقظ الراوي. اليقظة تساوي الحياة التي وضعها الشاعر في طرف مقابل للنوم، هي العودة للكتابة المهيمنة على القصيدة “ربما لأن الكلب يعرف/ أن شرطة العالم والتاريخ كلها تقف من ورائه/ سيقضي حياته إذن بانتظار الجلاد/ ابتسامته الكاذبة ستملأ الأرض بموضوع هذه القصيدة”. الكلب والجلاد سيتماهيان ليخلقا ابتسامة القصيدة أو موضوعها الذي يمثل سر أمريكا. يصادف الشاعر جبران وأبا فراس ويشتق من غربتهما حافزا للعودة إلى عربية كتب بها ثم نسيها في المكان الجديد نائما في مركب نوح الذي تحتشد فيه الحيوات فيجره ذلك لذكر أنواع الحيوانات التي تتردد في القصيدة، وحضور الحيوانات في شعر سركون ذو دلالة، ربما هو أحد ترسبات لا وعيه أو محصول قراءة رمزية مبكرة للخلق والطبائع. فالذئاب تدخل في عنوان أحد دواوينه “حامل الفانوس في ليل الذئاب” وفي آخرها “عظمة أخرى لكلب القبيلة”، ويفتتح الديوان نفسه بالمثل السومري (المدينة التي ليس لها كلاب حراسة يحكمها ابن آوى) وصار للكلاب ضرورة تذكرنا بسقراط الذي يرى ضرورة أن تتوافر في الحكام أو الحراس الذي يتعهدون الجمهورية بالحماية والحراسة ما تتوافر في الكلاب من صفة الشجاعة والحماسة، والمعرفة بالعدو حتى قبل ظهور عداوته، والألفة والوداعة مع الصديق حتى من دون إبداء تعاطفه، لكن كلاب قصيدة سركون تنهش الروح التي يمثلها الكهنة الذين ساروا في طريق الملوك قاصدين أديرتهم المقدسة، ناثرين بذور الذرة أينما يخيمون. يتحدث سركون عن قصيدته داخلها ويناشد الصديق المخاطب (ألا يسيء فهمه) فهذه (كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة) فالشاعر (يهدف لشيء غامض قليلا؛ لأنه لم يكتمل بعد، وأقول هذا بكل بساطة). تلك البساطة والغموض القليل هما من مزايا قصيدة سركون على مستوى البنية النصية، لغة يمكن استيعاب دلالاتها التركيبة بالتوافر على لعبة المجاز داخلها، وهي أرضية أليفة. قد يلتقط الشاعر من خلالها مفردات نثرية لا وهجاً شعرياً فيها لكنه سرعان ما يعيد لقصيدته وهج الشعر. ولا يمكن قراءة القصيدة وسائر شعر سركون بولص من دون تقنية السيناريو التي تعتمد علها القصيدة؛ فهو يلم جزئيات ويجمع لقطات ثم يربط بينها لتكون مركز القصيدة الذي نكتشفه ببساطة في شعر سركون، المؤثر في كثير من الكتابات الشعرية في قصيدة النثر العربية لا العراقية فحسب. حانة الكلب لا أخفي عليكم أنني أنا أيضاً أفكّر أحيانا بماهية الشعر بخطورة القضية.. كنت أؤمن ببساطة أن هذه التورية هي المسؤولة.. إيماناً أعمى لا يشفيني منه علماء الجاذبية حيث القصائد لا تحتاج إلى مجذاف لتعبر بنا جميعا إلى الضفة الثانية وكل كلمة فيها، كوَّة سرّية يتجسس منها الماضي على الأحياء. في حالاتٍ كهذه عادةً أحوم حول أسوار العالم حيث أسجل في دفتري موقع الثغرات بدقة وأضيفها إلى الخارطة بالمسامير أفكر بجبران بن خليل يسير في نيويورك بشجاعة الحالمين، بأبي فراس أسيراً في بلاد الروم يخاطب (على بحر الطويل) الحمامة وعندما أكاد أنسى العربية أغمض عيني ّوأحلم لأستحضر المعجم من الذاكرة في رأسي مركبُ نوح في بحر متلاطم من المخلوقات تُدوزِن كل سمكة فيه حراشفها وهي تسبح في (على عتبة) خارج نافذة مشرعة على مصراعيها... وجدتُ نفسي نائماً في حانة السلحفاة والأرنب في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال في حانة الخَلد والفراشة والعظاءة والقرد... وجدتُ نفسي نائما في الجانب المظلم من العالم أنقّب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ يربطني بك، أنتَ، دائما، وحتى إنني أتردد في أن أسميك؛ لأنك، لستَ امرأة أو الأرضَ أو الثورة، شجرةً فقيراً حذاءً في الطوفان لا أسمّي أحداً بالضبط، لكنني أريدك أن تشعر بخطورة القضية.. لأن المعنى دائما هناك يدخّن صابراً في نهاية القصيدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©