الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ريح الفواجع

ريح الفواجع
17 ديسمبر 2006 01:15
سعاد جواد: suad-jawad@hotmail.com كنا أسرة بسيطة طيبة، نجتمع دوما على الخير والمحبة أنا وأمي وأبي وأختاي وأخي، نرتبط كلنا برباط عاطفي قوي وضع أساسه والداي رحمهما الله، فهما مثال للعطاء اللامحدود والطيبة اللامتناهية، لم يقصرا معنا في الرعاية والحنان وتوفير كل ما نحتاج إليه في حدود إمكاناتهما الضيقة وبالطبع فإننا لم نكن نطلب الكثير، لأننا تربينا على القناعة والرضا بالمقسوم مع الحمد والشكر على النعمة· أختي الكبرى متزوجة ولها طفلان جميلان، ولحسن حظنا أنها تسكن قريبا من بيتنا فتأتي لزيارتنا كل يوم تقريبا مع أولادها فنهنأ بهم ونسعد بوجودهم بيننا· أخي الأوسط معاق ذهنيا، استحوذ على كل حبنا واهتمامنا منذ أن كان صغيرا، فقد أدركنا بأنه إنسان مغلوب على أمره لا يستطيع الاعتماد على نفسه وهو يحتاج إلى التركيز والاهتمام من قبل جميع أفراد الأسرة· وهو على الرغم من تصرفاته اللاواعية إلا أنه ظل محبوبا ولطيفا إلى أبعد الحدود، حتى أنه إذا أصيب بأي مرض ولو بسيط فإننا نتأذى بشكل كبير ولا نرتاح إلا بعد أن نطمئن إلى شفائه وعودته لوضعه الطبيعي· أختي التي تصغرني، كانت طالبة في الأول الثانوي، رقيقة وخجولة، متفوقة في دراستها وهي تفيض بالحب والحنان للجميع على الرغم من صغر سنها، وقد ميزها الله بجمال ساحر يجذب الأنظار، وقد خطبت وهي في الخامسة عشرة من عمرها إلا أننا لم نشأ أن نزوجها قبل أن تنضج ويشتد عودها وتفهم طبيعة الحياة الزوجية ومسؤولياتها· وأنا كنت طالبا في كليات التقنية العليا في السنة الثالثة، الرجل الثاني في العائلة بعد والدي، وقد استحوذت على الحب والتقدير من قبل الجميع· كنا نجتمع دائما في أجواء عائلية جميلة، نتحدث عن أحلامنا وطموحاتنا بسعادة وفرح، ولم نفكر يوما بما تخبئه الأقدار لنا· موسم الفواجع بشكل غير متوقع هبت علينا ريح الفواجع فاقتلعت أركان بيتنا وزعزعت استقراره· إنها ريح الاختبارات الإلهية التي يتعرض فيها المؤمن لامتحان صبره وصدقه مع ربه، ولكن للأسف لم نكن أهلا للاختبار وكادت حياتنا الأسرية أن تنهار تماما لولا أنني تداركت الأمر وعدت الى رشدي كي أعيد توازن الجميع ولأثبت أركان حياتنا لتستقر من جديد· لم يكن الأمر سهلا بالطبع ولكن الأمور عادت إلى نصابها بعد الخسائر الجسيمة التي منينا بها كلنا بلا استثناء· المهم في الأمر هو أننا عدنا من جديد كأسرة متحابة متماسكة يحسدنا الناس على قوة تماسكنا وحبنا لبعضنا· الفاجعة الكبرى التي أصابتنا هي رحيل الوالد بشكل مفاجئ وغير متوقع، على غير شكوى أو مرض· كان في عمله ثم أحس بألم في رأسه فعاد إلى المنزل ليستريح، تناول بعض الحبوب المسكنة ونام ولم يستيقظ بعدها أبدا· كانت الصدمة عنيفة· لم نستوعب ما حدث· جزعنا، بكينا، صرخنا، رفضنا أن يرحل والدنا بهذا الشكل المفاجئ· نسينا أن الحياة والموت هما قدران محتومان على جميع الخلق· نسينا أن نستعين بربنا ونطلب منه منحنا الصبر· نسينا كل ما تعلمناه في حياتنا· حولتنا الصدمة إلى أناس مختلفين، لا نحب أن نجتمع، ولا يريد أحدنا أن يخفف عن الآخر، ولا يطيق أحدنا البيت· الضحية الأولى كان أخي المعاق· فقد وجد نفسه ضائعا بلا اهتمام أو رعاية ففر إلى الشوارع، يجري وسط الخطر، يوقف السيارات ويستجدي الدراهم عند محطات الوقود، ينام في باحات المساجد· يذهب إلى الجمعية التعاونية ويشتري زجاجات البيبسي بدراهمه التي يجمعها ثم يرجها ويفتح الغطاء فينطلق السائل ليغطي رأسه وثيابه· أصبح منظره مخيفا مقززا ورائحته نتنة وكأنه من حيوانات الشارع الضالة· أختي الصغرى هي الأخرى نبتت لها أجنحة ففرت هي الأخرى إلى صحبة الصديقات اللائي قدنها بسهولة إلى عالمهن المليء بالعلاقات مع الشباب والحياة بلا هدف غير مكترثات بالسمعة السيئة وكلام الناس· تلك الفتاة البريئة الرقيقة الطيبة أصبحت تشبه الشياطين وهي تضع المساحيق والألوان على وجهها وتهرب من بيتها إلى عالمها الجديد· ولم يمض الوقت طويلا حتى جاءنا خبر إصابتها بحادث سيارة وهي برفقة شاب مخمور كان يقود بسرعة جنونية أدت إلى انقلابها عدة مرات فتوفي الشاب وقطعت ساقا أختي فأصبحت مقعدة على كرسي متحرك· أما أختي الكبرى فقد طلقها زوجها وأرسلها إلينا مع طفليها بعد فضيحة أختنا الصغيرة وسيرتها السيئة التي لاكتها الألسن بشكل لا يرحم· أما أنا فإنني بعد وفاة والدي صرت أتردد على أماكن سيئة، فتعرفت على إحداهن وقد أوهمتني بأنها تحبني فعشقتها وتزوجتها وأحضرتها لتعيش معي في بيتنا دون الاكتراث لحال أمي المريضة أو لأختي المطلقة أو الأخرى المقعدة· بدأت هذه المرأة عملها منذ أول يوم من وجودها في زرع الشر والأحقاد وإثارة الفتنة والأذى ، وكان هدفها هو إبعاد الجميع لتستحوذ على البيت وتحوله إلى مقر جديد لنشاطاتها· فاجعة أخرى لم تحتمل أمي المسكينة كل ما كان يحدث من حولها، ففقدت النطق منذ رحيل الوالد ولم تستطع أن تتحدث من جديد، وبقيت تستمع وتشاهد كل ما يحدث من حولها ولا تملك حياله شيئا سوى ذرف الدموع حتى صارت طريحة الفراش طوال الوقت· وفي إحدى المعارك التي حدثت بيني وبين أختيّ إثر فتنة أشعلتها زوجتي، حملت أمي جسدها المرهق وخرجت من غرفتها ثم صرخت بصوت مخيف وسقطت عند الباب وماتت· موت أبي كان السبب في كل ما حدث لنا لعدم قدرتنا على استيعاب الصدمة··· أما موت والدتي فكان الصدمة التي أعادتنا إلى وعينا، خصوصا أنا· صحوت من غفوتي وفتحت عينيّ على كل ما يحدث من حولي، ولمت نفسي كثيرا· لمتها لأنني لم احتضن أسرتي بعد رحيل الوالد ، ولأنني تركت نفسي للحزن وللشياطين تعبث بي· نظرت إلى أختي المطلقة وهي تصرخ بلوعة وألم، ذهبت إليها واحتضنتها، قلت لها: لا تبكي ولا تجزعي ولا تخافي، فالله معنا· نظرت إلي وهي لا تكاد تصدق· أهذا هو نفسه أخي الذي أراد أن يطردني أنا وأولادي إلى الشارع ليرضي زوجته؟ قلت لها : لقد صحوت ··· أعدك بأن أعيد كل شيء إلى مكانه الطبيعي بإذن الله· ثم قمت بطرد امرأة السوء التي أحضرتها من الشارع وسلطتها على أهلي، طردتها بعد أن طلقتها بالثلاث· دفنت أمي وعدت ورأسي مثقل بهذه المسؤولية وهذا الحمل الكبير· أخت مطلقة معها طفلان، أخ معاق، وأخت مقعدة ومعقدة نفسيا··· وقررت التوكل على الله في أموري كلها· أعدت أخي إلى البيت وصرت أتابعه بنفسي، وشجعت أختّي على العمل في المنزل واستغلال مواهبهما في التصميم والخياطة· وجدت لنفسي عملا لائقا وجمعت بين العمل والدراسة حتى أكملتها فتعدل وضعي نحو الأفضل· استطعت بفضل الله تثبيت أركان أسرتنا وأجهدت نفسي لتعود الألفة والمحبة بين أفرادها· لم يكن الأمر سهلا، ولكن لله الحمد فقد وفقت لإعادة الابتسامة لتلك الوجوه الشاحبة فبدأ الجميع يشعر نحوي بالامتنان، وعدنا لنجتمع في أحاديث جميلة تنسينا كل ما عانيناه من ألم وحزن· أمل جديد بعد أن أنهيت دراستي وجدت عملا أفضل ثم بدأت الحياة تبتسم لي من جديد، فقد صارت أختي تحدثني عن ابنة الجيران، إنها فتاة جميلة ومؤدبة طالبة في السنة الجامعية الثانية· عرضت علي أن أتقدم لخطبتها فترددت· اعتقدت بأنها سترفض الارتباط برجل مثلي، ارتبط بامرأة من الشارع وطلقها· وهي بالتأكيد تستحق شابا لم يسبق له الزواج، لكن شقيقتي صارت تلمح لي بأن البنت تكن شعورا خاصا نحوي منذ زمن بعيد وقد أصيبت بالإحباط والمرض عندما علمت بزواجي· وعندما فشل ذلك الزواج كانت سعيدة للغاية وهي لشدة حيائها لم تستطع البوح لأختي عن مشاعرها سابقا مع أنها من صديقاتها المقربات· والشيء العجيب هو أن أختي بادرت فعلا بمفاتحة أهل الفتاة ووجدت عندهم الرضا والقبول، كل ذلك وأنا آخر من يعلم· في الحقيقة لم أتضايق مما فعلته أختي لأنني متأكد من حسن نيتها، وأن الدافع الأقوى الذي دفعها لتقوم بكل ذلك هو حبها لي ورغبتها القوية في إسعادي· لم أترك الأمور لتطول مادام كل شيء مرتبا على هذا الشكل فأقمت إجراءات الزواج بسرعة، وكان العرس بسيطا والمهر معقولا والأمور كلها ميسرة ولله الحمد· سعدت بزوجتي لأنها طيبة وقد أحبت أهلي وانسجمت معهم، وقد رزقت منها بطفلة جميلة رائعة· كل هذه الأمور الطيبة التي أكرمني الله بها لم تملأ بداخلي شعورا غريبا ظل يتحكم بي وبجميع تصرفاتي· فبدأت أتغير نحو الأسوأ من جديد· لا شعوريا صرت عصبيا متوترا طوال الوقت، لا أجيد التعامل مع زوجتي ولا أستمتع بحب طفلتي ولا أرغب بالاجتماع بأسرتي· صرت مكتئبا، حزينا بلا سبب، أهرب إلى أماكن مختلفة، أجلس لوحدي بلا هدف ودون فكرة محددة، أشعر بأن الكون ضيق وأن قلبي صار كالعصفور السجين الذي ضاق بسجنه وهو يفكر بالطيران من عشه فيحلق بعيدا في الفضاء· وما هو ذلك الفضاء ؟ إنه فكرة شيطانية ظلت تلح على رأسي، رغبة جامحة قوية في رؤية طليقتي· رفضتها، حاربتها، أبعدتها عن رأسي ولكنها تلح وتلح حتى قادتني إليها أخيرا· ذهبت إلى وكرها وشيء بداخلي يصارع شيئا آخر يحاول إعادتي إلى أسرتي· عندما شاهدتني ضحكت ضحكة فاجرة من أعماقها وقالت : لقد تأخرت··· كنت أنتظر مجيئك· لا أدري كيف أصف مشاعري؟ إحساس بالقرف، إحساس بالمهانة، إحساس بالخوف من الله، كلها أحاسيس ترفض ما أقوم به، ولكني فعلت ما فعلت وخرجت من عندها وكأنني مخلوق وسخ لا تكفي بحار الدنيا كلها لتطهيره· كرهت نفسي كرها شديدا واحتقرتها احتقارا رهيبا، وصرت حائرا لا أدري ما أفعل؟· عادت بي قدماي إلى بيتي، كانت زوجتي بانتظاري· حاولت التهرب منها ولكنها كشفتني بسهولة، فتلك الساقطة تركت آثار أصباغها على ثيابي، وكأنها تقصد بذلك الفعل تخريب حياتي من جديد· أخبرت زوجتي بحقيقة ما يعتريني من مشاعر غريبة لا أقوى على مقاومتها مع إحساسي الشديد بالاشمئزاز والخزي مما أقوم به فتعاملت معي بمنتهى العقل والحكمة· طلبت مني الاغتسال والصلاة وطلب المغفرة من الله ثم دبرت مسألة ذهابنا لأداء فريضة العمرة· في تلك الأرض الطاهرة اغتسلت بدموعي وبماء زمزم من تلك الآثام، وتطهرت من تلك الأفكار وذبحت شيطاني بتوبتي الصادقة وعدت من جديد وكأنني إنسان جديد ولد مرة أخرى· يا إلهي أشكرك على تسامحك معي، فكم أنا خطّاء وكم أنت غفور رحيم· إذا أعطيتنا فجرنا وإذا اختبرتنا نيأس ونكفر فكم نحن ضعفاء، وكم نحن بحاجة لعفوك وكرمك·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©