الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

مارسيل غوشيه يدعو إلى مجتمع كوني تعدُّدي غير مُتمركز

16 ديسمبر 2006 00:14
محمد السعدي: في فرنسا، لا يمضي يوم دون أن يُطلّ واحدٌ، على الأقل، من الفلاسفة الجُدد، بريشته، خفيفة الظل، في مطبوع ما، أو يُطل بصوته زائف النبرة على أثير ما، أو طلعة متصنِّعة النظرة على قناة ما· لا تمر 24 ساعة، وحسب، دون إطلالة مشعوذين أقحمهم في البدء إعلام الغرب الأمريكي أكثر من الفرنسي· ما انفكَّت بخور الدعاية تنفث حول هؤلاء (الخُطباء)، في أفضل الأحوال، حتى فُرضوا كفلاسـفة جُدد في ساحة فكرية أضحت سمعية/ بصرية؛ ساحة خلت من الجياد الأصيلة، فصال بها وجال أشباه خيول تجيد الصهيل؛ وصهل بها وجهل مقدِّمو منوعات تافهون لندوات يزعمون أنها (فكرية)· المضمار الفكري الباريسي بدأ بحزم حقائبه منذ عقود، فانتقل من الحي اللاتيني إلى استوديوهات التلفزة· باتت الأضواء أهم من الإشعاع، والفلاش أكثرَ شأنا من الفكرة· هكذا تربَّى جيل من الفرنسيين لا يُقسم إلا بـ (قرقوزيات) طيِّب الذكر (بيرنار هنري ليفي)· ولا يفقه إلا خزعبلات المحروس (أندريه غلوكسمان)· ولا يؤمن إلا بمخاضات (ألان فنكلكراوت) الغزيرة· ولا يفغر فاه إعجاباً إلا لهذيان حضرة (باسكال بروكنر)· ولا يرتعش انفعالاً إلا لترّهات (ألان منْك)· ولا يصفق ابتهالاً إلا لتصريحات المهرِّج؛ عفواً المخرج (رومان غوبيل)، وغيرهم كثر· هؤلاء، من جانبهم، لا ينطقون واواً للقسـم إلا مشفوعاً بصهيون والأطلسي· فهم من واو (الجماعة)، أنهم طيـِّعون، خدومون· لكن، ولحسن الحظ، أنجبت فرنسا أيضاً مفكرين حقيقيين يجهلهم العوام بسبب الحظر التلفزيوني والإذاعي والصحفي، وأحيانا النشري، المفروض عليهم· لكن مريديهم المثقفين المتنورين، لا مستهلكي (ثقافة الصورة)، يبجلونهم ويمعنُون التأمُّل بما يَنعم به فكرهم من نتاج خلاق، لا كلام أجوف برَّاق· ومنهم، مثالاً لا حصراً، المفكِّر (مارسيل غوشيه)، رئيس تحرير مجلة (المناظرة) منذ 1980 وأسـتاذ في (الكلية العليا للعلوم الاجتماعية) بباريس· هذا ما دعا دار نشر (ستوك) الفرنسية إلى طبع كتاب غوشيه (الظرف التاريخي/ حوارات مع فرانسوا آزوفي وسيلفان بيرون)· فهذا (الفيلسوف المتشائم حدّ اللاتوبة)، مثلما وُصِف، لا يمتعض من مقاطعة التلفزيون له، إنما على العكس يفخر بهذا النبذ ويعدّه إطراءاً· إلى ذلك، فهو كتوم بطبعه، لا تستهويه الأضواء· يكتفي بحمل أنوار فكره في ظلِّ المناظرة المخملي، وإيقادها أمام (صفوة) مريدين متمردين على ثقافة السوق· وعلى رغم أننا لا نوافقه في جوانب مما يذهب إليه، فإن له في فرنسا (مدرسة) تسـتحق الاهتمام، على الأقل، لأنها تستقطب عدداً من طلاب ومثقفين توّاقين إلى بديل فكري أكثر عمقاً من دجل (الفلاسفة الجُدد)، طيبي الذكر· تجلَّى مذهب غوشيه المتأثر بفلسفات كل من كلود لوفور وفرانسوا فوريه وبيير نورا· في كتابه (الديمقراطية ضد نفسها)، رسم غوشيه لوحة مريرة، بالأبيض والأسود، لما آلت إليه ديمقراطية الغرب، مؤكداً على أنه من الصحيح أن الرأسمالية الليبرالية تغلَّبت على الشـمولية الماركسية، لكن مجتمعاتنا الرأسمالية مريضة· ونبَّه المفكِّر، منذراً بعواقب وخيمة، إلى تخلخل الأنظمة السياسية الغربية، وابتعادها التدريجي عن الديمقراطية الحق بدعوى العولمة، وشعور الناس المتزايد بأنهم غير ممثلين، وتفاقم (النزعة الطائفية)، لا بمعناها الديني، إنما تنويهاً لما يتشكَّل من تكتلات تتسم بالعصبية والانعزالية حول ظاهرة اجتماعية أو موضة معينة· فمثلاً، يتصرَّف أنصار هذه المطربة أو ذاك الممثل، وعُشاق موسيقى الديسكو، وهواة التيكنو، وأعضاء ذلك التجمُّع المهني والنقابي أو تلك الجمعية لمحبي الحيوانات الزاحفة والقارضة والمنقرضة، وما إلى ذلك، وكأنهم ملَّة متعصِّبة ومتحزِّبة، بكيان طائفي التوجُّه· كما ندَّدَ غوشيه، وهذا في رأينا أهم احتجاج ورد في كتابه (الديمقراطية ضد نفسها)، بغلبة شريعة السوق في المجالات كلها، بما فيها الثقافة، التي يأسف على أنها لم تعد ميداناً مقدَّساً، بل سلعة كباقي السلع خاضعة لأحكام السوق· أما كتابه الجديد (الظرف التاريخي···)، فيشدِّد على ضرورة الكف عن اعتماد التاريخ لوحده لتشخيص عِلل المجتمعات الصناعية المعاصرة· يُفند غوشيه، ضمناً، دعاوى من يتهمونه بـ (التشاؤم التلقائي)· فالكتاب يبين أنه ليس يائساً من المستقبل تماماً· لكنه يؤكد القول: إن التقدُّم ليس مفهوماً خطياً (بمعنى الخط المستقيم)، بل تبزُغ في كل لحظة من صيرورته مشاكل جديدة، ينبغي دوماً تغيير الوجهة لتفاديها· تبدو الفكرة الأساس في (الظرف التاريخي···) منصبّة على ما يلي: الليبرالية ليس فقط لا تنسجم والديمقراطية، لكنها أطلقت العنان لقوى تحمل مخاطر كامنة جمَّة على الديمقراطية نفسها، وتهدِّد بتقويض توازن الأنظمة السياسية الصناعية، بعدما كانت تلك القوى ملجمة، أو على الأقل مسيطراً عليها· يؤكِّد غوشيه، الذي عاف تشكيكه السالف بجدوى مشروع الوحدة الأوروبية، فأضحى من مؤيديه، أن تعاضد الأمم الأوروبية قد يمثل أملاً كبيراً لأُمم الأرض· ويخلص إلى القول متفائلاً: أُمم الدنيا لا تحمل فقط بذور الضغينة والمواجهة، بل تمتلك أيضاً إمكانيات هائلة لكونية غير إمبريالية ·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©