الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مخاطر الفساد: إدامة الفقر والبؤس

8 سبتمبر 2012
الفساد، وهو "إساءة استخدام السلطة السياسية لمكاسب شخصية"، كان ولا يزال سبباً في الإضرار بالناس العاديين منذ أمد سحيق. ولقد كان هناك قبول تقليدي بأن "تزييت أيدي" المسؤولين ضروري لتحريك عجلات الحكومة، وكان القليل من "الكسب غير المشروع" يعبر عن حسن النية تجاه المسؤولين منخفضي الدخل. لكن في عصرنا هذا تتعاظم النظرة إلى الفساد باعتباره انتهاكاً للفكرة القائلة بأن البشر يولدون جميعاً وهم متساوون في حق السعي إلى السعادة بكافة السبل المشروعة المتاحة لهم. لقد حازت هذه الفكرة الفردانية على القبول الشعبي إبان عصر التنوير، وكان لها آثار في تحديد الدور الذي يلعبه طرفا العقد الاجتماعي. ونجد لهذه الفكرة نصاً صريحاً في إعلان بنسلفانيا للحقوق (1776). لقد خاض فلاسفة القرن الثامن عشر صراعاً مريراً عندما اعتبروا الفساد أمراً سيئاً من الناحية الأخلاقية، واليوم نجد تعاليمهم وهي تنتشر في أنحاء العالم لتعزز تفاؤلاً جديداً بإمكانية القضاء على الكسب غير المشروع. وقد قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بحثّ الحكومات الأعضاء فيها على اعتبار تقديم الرشى للمسؤولين الأجانب والشركات الأجنبية، جنحةً جنائيةً. وفي نهاية عام 2005 أصبحت بنود معاهدة الأمم المتحدة ضد الفساد قيد التطبيق، والتي تهدف إلى وضع معوقات أكثر أمام عمليات غسيل الأموال وتسهيل استعادة الأموال المسروقة. لكن إذا نظرنا إلى السجل التاريخي لمعاهدات الأمم المتحدة فلا يمكننا أن نتيقن من تبني الدول الفقيرة لمعايير هذه المعاهدة. وقد احتج المصدرون من دول منظمة (OECD) أحياناً بأن ذلك يضعهم في الجهة الخاسرة عند التنافس مع جهات محلية فاسدة، لكن بعض دول منظمة (OECD) أصبحت تعتبر التعامل الفاسد لمواطنيها جنحة يعاقب عليها القانون، إذ لاحظت أن الفساد يؤدي إلى امتيازات غير عادلة تحوزها النخب والصناعات ذات النفوذ، مما يعود بالخسارة المجحفة بحق باقي المواطنين. كما يعد الفساد عقبة بوجه التنافس الأصيل عبر السعر والنوعية، وهكذا تمتد آثاره إلى النمو الاقتصادي. إن من يتسامح مع الفساد، ومن يدعو إليه، ينتقص من أهمية المؤسسات التي تعتبر شرطاً أساسياً للنمو الاقتصادي، وذلك يؤدي إلى إدامة الفقر والظلم والبؤس. كما أن المتنافسين الذين يعتمدون على الفساد في الارتقاء بأعمالهم إنما يرتكبون خيانة بحق الشروط الأساسية لاقتصاد السوق، وذلك لأن التقسيم الحديث للعمل يعتمد على استثمار ما يعرفه الناس، وليس على من يدفع الرشوة الأكبر. والثروة تتكون على أساس المعرفة التكنولوجية والتجارية وعلى تواصلها الفعال مع إشارات السوق التي توجه التخصص الفعال والابتكار، وإذا أردنا لذلك أن يحدث، فيجب أن تؤسس الأسواق على قاعدة الثقة بين الغرباء، والفساد يستهدف هذه النقطة بسمومه، فيجعل القرارات تتخذ على أساس (من يعرفه المرء) وليس (أفضل ما يعرفه المرء)، وفي قطاع الأعمال يؤدي الفساد إلى فرض ضوابط مرهقة تجعل الأسواق تبث إشارات بنشاط أقل كفاءة. إن التجربة التنموية خلال نصف قرن تظهر لنا بأن النمو الاقتصادي الضعيف لا ينتج عن نقص الثروات الطبيعية أو رأس المال أو غير ذلك من الموارد. وإنما تشترك كافة الاقتصادات التي فشلت في تحقيق النمو بأنها تمتلك قواعد ضعيفة لتنسيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات)، والتي تقف عائقاً بوجه الادخار والاستثمار واستكشاف الموارد وغيرها من الجهود الريادية لتحريك القوى الإنتاجية. وينقل عن عميد الاقتصاد التنموي، الراحل لورد بيتر باور، أنه قال بوضوح: "الأداء الاقتصادي يعتمد على العوامل الشخصية والثقافية والسياسية، وعلى مواهب الناس ومواقفهم ومحفزاتهم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية". وتتأتى هذه الأهمية العالية للمؤسسات من أن عملية النمو تتطلب تنسيق جهود العديد من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة، والذين يتحملون تكاليف التعامل ويتجشمون عناء المخاطرة في استكشاف طرق جديدة أفضل لأداء المهام. ولا حاجة هنا للتأكيد على أن النمو الاقتصادي قد ساهم في القضاء على الكثير من الأمراض التقليدية التي ابتليت بها الإنسانية طويلاً: كنسبة الوفيات الكبيرة لدى الأطفال، والأعمال الشاقة، وتكرار المجاعات، والأوبئة، وانتشار القذارة، والجهل، والإحساس الدائم بالضيق والضجر، والشيخوخة المبكرة، وقصر العمر. إن ما يهم بالنسبة للنمو الاقتصادي ليس نوعية المؤسسات فحسب، وإنما مستوى الفعالية والإنصاف في تطبيقها وفرضها. فمن القواعد ما يُفرض من قبل المجتمع: حيث يتعرض الغشاش، مثلاً، إلى تحاشي الناس له تلقائياً وخسارة سمعته، والكاذب يتعرض للتوبيخ، وهكذا دواليك. ومن القواعد ما يُصمم ويُفرض بواسطة فعل سياسي من قمة الهرم: حيث تقوم الحكومة بإصدار تشريعات تحمي الأنفس والملكية الخاصة، وتشكل منظومة قضائية وقوة شرطة لفرض هذه القواعد، وعندما تؤدي بعض النشاطات إلى التسبب بالأذى للآخرين، فإنها تصبح خاضعة للترخيص الحكومي، وهكذا دواليك. إن المجتمعات التي تحقق التنسيق غالباً بواسطة قواعد داخلية في المجتمع وعبر الفرض التلقائي، وبالتالي فهي لا تعتمد إلا بشكل محدود على القواعد الخارجية للحكومة، هي مجتمعات تميل إلى إبداء فعالية أكبر في تحقيق النمو الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وذلك بالمقارنة مع مجتمعات تحكمها قبضة قوية وتخضع لقواعد إيعازية متعددة. ويصح هذا بالأخص عندما يستسلم وكلاء الحكومة للإغراء البشري المشترك بالانتهازية التي تبحث عن المنفعة الذاتية فيقعون في فخ الفساد. وما أن يترسخ الفساد حتى تتغلغل تأثيراته وتتعمق جذوره. وولفغانغ كاسبر أستاذ الاقتصاد بجامعة "نيو ساوث ويلز" -أستراليا ينشر بترتيب مع «مشروع منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©