الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مآزق الاختيار.. ومخاوفه

مآزق الاختيار.. ومخاوفه
3 مارس 2016 05:15
رضاب نهار ازدحم الواقع من حوله بمفردات التطور والمعاصرة حتى فقد العلاقة مع إرثه الثقافي القديم، وبات منقطعاً عن حضارة أمته لا يعرف عنها شيئاً. فقد ترك الإنسان العربي مئات العناوين في الأدب والتراث والفلسفة والعلوم وأدار ظهره لها، غير آبهٍ بما تحتويه صفحاتها من مواضيع وحكايات، وتركها بانتظار قارئ رحيم يتصفّحها ويدرك فحواها. لذا كان لا بد من التوجّه إلى عدد من المعنيين والمختصين وسؤالهم حول إمكانية تبسيط أمهات الكتب العربية، أو إعادة تقديمها للمتلقي بأسلوب حداثي يحفظ أصالتها وقيمتها الفكرية والمنهجية. وذلك من أجل تشجيعه على قراءتها، وجذبه إلى ثقافته التي بدأ ينقطع عنها يوماً بعد يوم... فماذا قالوا؟ في الإمارات تجربة على صعيد إعادة تقديم أمهات الكتب التراثية بشكل بسيط، بحجم أقل، ومختصر، من دون أن يخل بمضمون الكتاب الأصلي. وهي السلسلة التي حملت عنوان «عيون النثر العربي»، والتي يمكن اعتبارها نموذجاً للفكرة التي يبحثها هذا التحقيق.. ظاهرة قديمة في هذا الشأن يرى الدكتور علي بن تميم أن تجربة تقديم جوهر الكتب هي ظاهرة قديمة في الثقافة العربية. إذ كان القدماء يقدّمون كتب أسلافهم بإيجاز نظراً لأهميتها الفكرية والنقدية، أولاً، ولإتاحة الفرصة أمام القراء للاطلاع عليها، ثانياً. ويبيّن أن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، كان لها تجربة هامة في ذات الخصوص من خلال نشر سلسلة «عيون النثر العربي» التي تضمّنت 100 عنوان من أهم كتب التراث العربي. وقد قام عليها جملة من الباحثين والمتخصصين الذين قدّموا لها واشتغلوا على صياغتها لتوائم روح اليوم دون أن تفقد جديتها وروحها. كما أوضح أنه عند الاختيار من أي كتاب، يجب النظر إلى ما يحتاجه العصر من موضوعات وأفكار وقضايا، واستكشاف احتياجات واهتمامات القارئ العصي. فضلاً عن ما يحضر عند الدارسين من مضمون الكتاب. ولا نقصد بالاختيار التلخيص بمفهومه المتعارف عليه، إنما هو الاختيار الذي يعبّر عن مضمون الكتاب بحيث لا يفقد قيمته ورونقه. وقال: «كثيرون راهنوا على فشل (سلسلة عيون النثر العربي)، إلا أنها أثبتت العكس تماماً. ففي هذا الوقت هناك تطلعات حول موقف الإسلام من الآخر. وثمة تطلعات أخرى نحو التراث العربي القديم، سواء من قبل الغرب أو من قبل أبناء المجتمعات العربية أنفسهم. ولا بد من الاعتراف بوجود قطيعة كبيرة حاصلة بين القراء المعاصرين وبين موروثنا المكتوب في الماضي. لذا من الضروري مراعاة تجليات العصر والكتابة بأسلوب حداثي، والتركيز على النصوص السهلة التي لا تشكل عائقاً لغوياً أثناء التعاطي معها، لتكون بداية جاذبة للقراء». مفاتيح أو مداخل بدوره، أكّد الدكتور خليل الشيخ المشرف على تحرير سلسلة (عيون النثر العربي القديم)، أن هذا المشروع بدا على نحو لا يسعى إلى التلخيص أو الاختصار بالمفهوم المدرسي. بقدر ما كان يسعى إلى تعريف القارئ غير المختص بنقاط ارتكاز أساسية في كل كتاب من الكتب التراثية. وكان هذا يتطلب قراءة مستوعبة للكتاب وإدراك ما ينطوي عليه من ثيمات كبرى بعيداً عن الاستطراد. والقيام بعد ذلك بتقديم هذه الأفكار وشرح ما يحتاج منها إلى إيضاح. وأضاف: «إن هذه السلسلة تقدم للقارئ مفتاحاً معاصراً لقراءة نصوص تراثية كما تعرّفه بقضايا كانت محور اهتمام المؤلفين العرب وهي تمثل خريطة معرفية متنوعة، ولاسيما للاجيال الجديدة التي ابتعدت عن قراءة هذا اللون من الكتب وكذلك لغير المختصين، وأرجو أن نستطيع تحويل هذه السلسلة إلى صيغة كتب إلكترونية». وعن فكرة تبسيط الكتب العربية بالعموم قال مؤيداً لها: «المهم هو إيجاد مداخل جديدة تحفز على القراءة والتأمل في هذا التراث لفهمه وإعادة قراءته والحوار معه من منطلق المعرفة وليس من منطلق الجهل به. إنها مداخل لا أكثر». فكرة جذابة.. ولكن! إلى هذا يرى الدكتور في جامعة أوكسفورد الناقد علي سليمان أن فكرة تبسيط أمهات الكتب العربية القديمة ذات جاذبية خاصة في هذا الوقت الذي تعاني فيه الثقافة العربية من أزمة وجود حقيقية، لكن كما في أي فكرة لا بد أن ينطلق المشروع من رؤية ثقافية واعية وشاملة لا تتعامل مع أمهات الكتب كنصوص تراثية متحفية ينبغي تبسيطها من أجل تقديمها للقارئ بمعزل عن علاقتها بالثقافة المعاصرة عربياً وعالمياً. ويقول: «إن أحد أكبر المشاكل في علاقة القارئ العربي مع التراث هو عجز المؤسسات الثقافية والتعلمية عن ربط هذا التراث بالحياة المعاصرة. كما أن هناك تحدياً كبيراً أعتقد أنه سيواجه أي مشروع من هذا القبيل. فمن أجل إعادة صياغة أمهات الكتب بلغة معاصرة يفهمها القارئ غير المختص يجب تحديد الهدف والجدوى من هكذا مشروع. أعتقد إن لم ينطلق هذا المشروع من رؤية تنويرية متحررة من سلطة الماضي على العقل ومن تسييس التراث وتقديسه بشكل مرضي فإنا تحرير النصوص وتبسيطها لن يحقق هدفاً نوعياً». ويشرح مضيفاً: «في هذا السياق يمكن التأكيد على قضية هامة تتعلق بالمصطلح وبجوهر الفكرة. لا أعتقد أن التلخيص أو التبسيط مصطلحات مفيدة في هذا السياق لأنها ذات محاذير قد تشوه أي نص من أمهات الكتب وتحوله إلى موضوع إشكالي من حيث الدلالة والتفسير. إن تلخيص أي كتاب أو تبسيطه سينطلق حتماً من رؤية فردية خاصة لا يمكن أن تنجو من حمولات سياسية أو أيديولوجية مما سيفقد المشروع أي جدوى ثقافية حقيقية. أقترح هنا استخدام مفهوم تحقيق أو تحرير أمهات الكتب بلغة معاصرة واضحة. في هذه الحال يمكن تطبيق واعتماد أساليب علمية في التحرير والصياغة مما يضمن قدراً كبيراً من الموضوعية والأمانة العلمية. لقد تطور هذا الأسلوب في الغرب وتحول إلى اختصاص علمي قائم بذاته له تقنياته ومؤسساته وبرامجه في الجامعات والمؤسسات البحثية. ففي بريطانيا على سبيل المثال هناك طبعات عديدة لأعمال شكسبير بلغة إنكليزية معاصرة. لا تنطلق هذه الأعمال من فكرة التلخيص والتبسيط بل من صياغة لغوية معاصرة بمنهجيات وأدوات علمية تحقق علاقة حيوية مع القارئ وتبقى أمينة للنص الأصلي في الوقت ذاته». ويختتم رأيه بالتأكيد على ضرورة وضع مشروع كهذا في سياق المشاكل العامة التي تتعلق بثقافة القراءة في العالم العربي. هناك أزمة حقيقية في علاقة الإنسان العربي بالكتاب ولا بد من العمل على إنتاج وتطوير ثقافة قراءة معاصرة تربط الإنسان بالمعرفة في أفقها الواسع. فقبل بناء ثقافة قراءة حقيقية سيبقى أي مشروع مجرد إجراء على هامش حركة الواقع. الاختيار هو الفيصل أما الدكتور أحمد خريس المشرف على سلسلة عيون النثر العربي القديم، فيبيّن أن اختيار المرء قطعة من عقله، أو مثلما فسر الخليل بن أحمد ذلك حين قال: لا يُحسن الاختيار إلا من يعلم ما لا يُحتاج إليه من الكلام. ولعل المقولتين السابقتين تقوداننا إلى أن مسألة الاختيار تدل على طرفي المعادلة: صاحب المختارات، والاختيارات ذاتها، فالأخيرة دالة على الأول، والأول منفعل بالأخيرة، وتقودنا المقولتان كذلك إلى أن فعل الاختيار ينطوي على نوع من التشذيب، والعزل. هنا كان لا بدّ من التأكيد على أن اختيار ما يناسب القارئ المعاصر من التراث، معضلة في ذاته، فينبغي لمن يتصدى لهذه المهمة أن يضع الماضي والحاضر نصب عينيه، فينتقي من الأول ما يناسب القارئ الحديث، ذي الانشغالات الكثيرة، والوقت القليل، فلا يثقل عليه بالأسانيد والشروحات والاستدلالات، التي وسمت نمط الكتابة القديم، فضلاً عن تسهيل الكلام بالشرح المقتضب، أو التغيير الطفيف، الذي لا يحول دون تقديم المادة بأمانة. وأهم من هذا وذاك أن تستأهل المادة المختارة عناء اختيارها، فليس كل ما في التراث حسناً. ويتعين فضل صاحب الاختيارات في قدرته على تلبية حاجة القراء، ورفدهم بما يغير وجهة نظرهم حول مشاق قراءة التراث أو عدم جدواها، وأن الحضارة العربية الإسلامية لا تقل شأناً عن غيرها من الحضارات، بالتفات مؤلفيها إلى ما لا يحصى من المواضيع والتوجهات. إن التراث تراثات، وفيه غث وسمين، ومهمة من يتصدى للاختيار منه، أن يكون أميناً لماضيه وعصره، فلا يجمل الأول إلا بالدرجة التي تتيح الاطلاع عليه دون عوائق. لا للتبسيط إلا أن الناقد والكاتب صبحي الحديدي، يعرب عن عدم ميله إلى التبسيط خشية وقوع اختزال مخلّ بالمضمون، أو المسّ بالحدّ الأدنى من التعقيد الحميد في النصوص التراثية، خاصة تلك التي تحمل صفة التنظير الفلسفي أو العلمي أو النقدي. ويسأل: «كيف، حقاً، يمكن أن نلخص «دلائل الإعجاز» للجرجاني، أو «أساس البلاغة» للزمخشري، أو «سحر البلاغة وسر الفصاحة» للثعالبي، أو «البيان والتبيين» للجاحظ، أو «البصائر والذخائر» للتوحيدي، أو «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر، أو «عيار الشعر» لابن طباطبا...؟ وكيف السبيل إلى تلخيص «القانون في الطب» لابن سينا، أو «المقدمات الممهدات» لابن رشد، أو «معيار العلم في المنطق» للغزالي، أو «السياسة» للفارابي...؟ وفي كلّ حال، يقتضي خيار التبسيط، ومثله التلخيص، مقداراً كبيراً من الحذر، ومهارة عالية في التنبّه إلى ما يُبسّط ويُختصر، وما لا يستقيم تبسيطه واختصاره، الأمر الذي يقتضي من المبسّط والمختصر معرفة جيدة بمفاتيح النصّ الأهمّ، ودراية أجود بعناصره التكوينية وركائزه ومحاوره». ويقترح بالمقابل: «أميل إلى إصدار سلاسل يمكن أن تحمل اسم «دفاتر تراثية» مثلاً، يتولى كلّ كرّاس منها التعريف بعمل تراثي أساسي، كان له أثر بالغ في عصره، واستعادته تمثّل أيضاً صلة وصل مع الراهن، وبوّابة إلى معاصرة التراث واستلهامه. وقد يتوجب على التعريف، هنا، أن يتوخى لغة بسيطة (وليست تبسيطية!) لا تجحف المصطلح والمفهوم والمعنى، ولكنها تعيد صياغة لغته بما يتناسب مع مدارك الحاضر ومعارف العصر. ولعل من الضروري، أيضاً، أن تخاطب هذه الدفاتر شرائح قراءة واسعة، تبدأ من الفتيان، وتشمل الأدب والبلاغة، مثل الفلسفة والعلوم». تحقيق أو تحرير لا تبسيط يقترح الدكتور علي سلمان استخدام مفهوم تحقيق أو تحرير أمهات الكتب بلغة معاصرة واضحة بدل تبسيط، في هذه الحالة يمكن تطبيق واعتماد أساليب علمية في التحرير والصياغة، مما يضمن قدراً كبيراً من الموضوعية والأمانة العلمية. لقد تطور هذا الأسلوب في الغرب، وتحول إلى اختصاص علمي قائم بذاته له تقنياته ومؤسساته وبرامجه في الجامعات والمؤسسات البحثية، ففي بريطانيا على سبيل المثال هناك طبعات عديدة لأعمال شكسبير بلغة إنكليزية معاصرة، لا تنطلق هذه الأعمال من فكرة التلخيص والتبسيط بل من صياغة لغوية معاصرة بمنهجيات وأدوات علمية تحقق علاقة حيوية مع القارئ، وتبقى أمينة للنص الأصلي في الوقت ذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©