الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شوك المسرح.. وعيه الجارح

شوك المسرح.. وعيه الجارح
23 يناير 2013 20:22
أزعم في البداية أن أي سبر أو بحث أو دراسة متعمقة تفتش عن ملامح الخطاب المسرحي في مسرح غانم السليطي، لا يمكن فيه الفصل بين عاملين اثنين، هما: حياة الفنان نفسه التي انصهرت في المسرح وانصهر المسرح فيها، والعامل البيئي الذي دفع ظاهرة السليطي لكي تكون حاضرة في واقع المسرح الخليجي المعاصر وبالضرورة واقع المسرح العربي. إذ تشتبك أقدار السليطي الفنان بالأقدار التي أحاطتها به بيئته، فولد فناناً حاملاً راية خطابه المسرحي اللاذع ومبضع الجراح الذي يفتش عن العيوب ليظهرها ويهزأ منها. ويضحكنا عليها إلى الدرجة التي يجعلنا نعترف بقبحها ومأساويتها. مرعي الحليان سخر السليطي كل ما يتمتع به من موهبة فنية عالية ومن قدرات وعيه اللاقطة، لكي يقرر أنه ذاهب في مسار خطاب مسرحي لا يتراجع عن النقد الاجتماعي والسياسي، فرتب شخصياته وصاغ نصوصه وهيأ مسرحه لجعل الفرجة المسرحية التي يعرضها علينا مليئة بالشوك، مليئة بالفضح الجريء مليئة بالكوميديا السوداء المرة، وبالجراح الموجعة أيضاً. .. ومن أجل أن نفهم انحيازه الفني المتطرف هذا، علينا الرجوع إلى البيئة التي أفرزت لنا فنانا صارما في تصديه لقضايا مجتمعه وأمته، تلك الصرامة التي ستكلفه الكثير فيما بعد ولكنه لن يتنازل عنها؛ فغانم السليطي الذي عرفناه فوق خشبة المسرح ممثلًا يمتلك أدواته الأدائية الاحترافية القادرة على شد انتباه الجمهور وجذبه، وغانم السليطي المؤلف الذي كتب عشرات النصوص المسرحية والدراما التلفزيونية في خطاب واحد، حمله واستمر في تكراره بأوجه مختلفة وببراعة المؤلف التي تتجاوز نمطية التكرار عبر غمسها في الابداعي والفني الذكي والمحترف، لكي يستمر هذا الخطاب، الذي يبدو وكأنه مصير.. في تعرية واقع وجده السليطي قاسيا ومؤلما ولا يطاق. وأخطاء متغيرات تركت وطأتها على أصالة الإنسان الخليجي ونزعت عنه رائحة البحر والنخل والدفء الإنساني الصادق. وغانم السليطي المخرج الناقد الذي لم يتنازل عن أشكال المسرح الكلاسيكي بهدف تقريبه إلى الجماهير الغفيرة، نافرا عن التغريب والمغالاة، كغيره من فناني المسرح في الخليج، نشأ وشب في بيئة هزتها المتغيرات المتسارعة، نتيجة لظهور النفط في المنطقة، وهنا نعود، كما قلنا إلى المؤثر الأول الذي صاغ خطاب السليطي المسرحي، كما تكشف عن ذلك مفاصل تجربته المسرحية الغنية.. فمن المعروف «أن التفاعل بين الوجوه المتعددة لظهور النفط وانقلاب الحال على نمط ألإنتاج التقليدي الشائع في المنطقة، وبين الهياكل الاجتماعية التقليدية جعل مجتمع الخليج العربي في ظرف تاريخي يتميز بظواهر ومشكلات مصاحبة للتغيير، ربما لم تعرفها المجتمعات العربية الأخرى، بنفس الحدة والتوتر، والصراع الذي وجدت عليه في ذلك المجتمع، كظواهر التسريع، والهوة الثقافية، والانقسام بين القديم والجديد، والصراع بين التقليدي والمحدث، وصعود طبقات اجتماعية إلى السلطة، وتلاشي الماضي، رغم قرب عهده، وسيطرة الخدمات الاستهلاكية، رغم لا عقلانيتها، وقلق التغيرات الديموغرافية، والصراع بين الأجيال وسقوط النظام القديم على مرأى من صعود النظام الجديد للحياة الاجتماعية، ونحو ذلك من مشكلات التغير البنائي في مجتمع الخليج العربي». خطاب نقدي هذا التوصيف لانقلاب الحال بعد النفط، وتلك المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفجائية، صاغت خطاب العديد من مفكري ومبدعي الخليج ولا زالت تؤثر حتى اليوم في خطابهم الابداعي، حتى وإن كانت هناك تفاوتات.. لكن الملفت في حالة مبدعنا غانم السليطي، انه حينما أراد أن يجعل من فنه وإبداعه خطابا ناقدا ومساهما في ذات الوقت في نبش عيوب هذه المتغيرات ومؤشرا إليها ومنورا حول مخاطرها.. استمر في ذلك ولم يتخل عنه إلى اليوم.. هذا الإصرار على الاستمرار هو اللافت المهم في تجربة السليطي. اذ رغم الشهرة الواسعة، ورغم مغريات النجومية، التي انزلق فيها كثيرون سواه، وجعلتهم يتنازلون عن المهمة الحقيقية للمسرح في التنوير، نجد أن السليطي يستمر ويصر على خطاب النقد الاجتماعي والسياسي في مسرحه الذي أراد له أن يكون مواجها وراصدا لتلك المتغيرات. استمر رافعا راية التنوير برغم خطورة عدم الرواج، لكن لأنه فنان ومبدع حقيقي استطاع أن يصوغ من فنه بضاعة فنية عالية المستوى تقدر وتحترم العقول.. فكان مسرحه يغص بالمتفرجين من جميع فئات وطبقات المجتمع، لأن هؤلاء وجدوا فيه ما يشبع خطابهم المكبوت. فمن يلقي نظره سريعة إلى قائمة الأعمال التي قدمها السليطي للمسرح في الخليج، سواء كان فيها ممثلا، ام كاتبا أو مخرجا، يرى أنها لا تخرج عن خطاب واحد امتلكه ونوع عليه ووظفه لكي يؤشر الى تلك المزالق التي أوجدتها اختلالات الحياة والبيئة واعتلال الشخصية الخليجية نتيجتها.. إن المتغيرات التي مر بها الإنسان الخليجي والتي يمر فيها الى اليوم. كانت هي الصلصال الذي صاغ لنا به السليطي أعماله المسرحية والدرامية التلفزيونية حتى اليوم.. والغريب والمدهش انه أصر ولا زال يصر على قسوة خطابه اللاذع ومبضعه الفني الجارح لكي يقوض شرور تلك المتغيرات. واكب السليطي خلال مسيرته الفنية في المسرح قضايا مجتمعه وناسه، منذ انطلاقته الأولى، فنراه يخط وال تجربه له في مجال التأليف المسرحي، وهو طالب في دار المعلمين وهي مسرحية «بيت الأشباح» في العام 1973 التي تعد أول نص مسرحي يحسب في تاريخ منجزه الفني.. ومنذ الكلمة الأولى نجد أن غانم يذهب إلى بيئته ومجتمعه ليعالج قضية كانت تشكل ظاهرة من ظواهر المجتمع القطري آنذاك وهي ظاهرة زواج القطريين من غير القطريات وانعكاسات ذلك كما عبر عنها في ذلك النص على وحدة الأسرة والمجتمع.. والمفارقة التي تذكر في هذا المقام أن هذا النص قدمه السليطي فوق خشبة حلبة ملاكمة كانت قد أعدت خصيصا لمباراة كانت سيجريها الملاكم العالمي محمد علي كلاي في قطر في نادي السد.. النادي الذي سوف يؤسس منه السليطي وزملاء له فرقة مسرحية تحمل الاسم ذاته.. ثم ستتحول إلى اسمها الجديد فرقة مسرح الدوحة.. كانت سن غانم السليطي حينما كتب نص «بيت الأشباح» سبعة عشر عاما، ولعب فيها ثلاث شخصيات، هي: الابن، وشخصية الشبح وشخصية الأخرس.. وكانت الأدوار الثلاثة فرصة سانحة لكي يستعرض فيها غانم السليطي الفتى قدراته في التقمص والتشخيص. كما يحسب لهذه المسرحية انها ساهمت في اعتلاء أول ممثلة على خشبة المسرح في قطر وهي الفنانة مريم راشد، ولم تشارك امرأة قبل ذلك في عرض مسرحي. بين التمثيل والنقد ناضل السليطي من أجل الحصول على مؤهل أكاديمي في الحقل الذي يمثل عشقه الأول وهو التمثيل، فبالرغم من انه كاتب لأغلب أعماله المسرحية ومخرجا لبعض منها، إلا انه يبدو ومن خلال العديد من تصريحاته واعترافاته أنه يعشق الممثل قبل كل شيء، لكن سارت الأمور بعكس ما يرتضيه، فحينما قدمت أوراق اعتماده في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت في العام 1974 اختارته لجنة الفحص لقسم التأليف والنقد، وحينما حاول نقل تخصصه إلى مجال التمثيل قوبل بالرفض من قبل الدكتور إبراهيم حموده رئيس قسم النقد آنذاك.. الأمر الذي ازعج فناننا، وفي إجازة نصف العام الدراسي عاد إلى الدوحة ليقابل المسؤولين لتحويل بعثته إلى المعهد العالي للفنون المسرحية في مصر، وكان له ذلك، وبعد سنتين جاءته فرصة التخصص، فوجد اسمه في قائمة «النقد والأدب المسرحي» فاحتج وذهب لمقابلة المسؤول في المعهد وإذا به الدكتور إبراهيم حموده الذي هرب منه في الكويت.. ويذكر غانم تلك الكلمات التي قابله بها الدكتور حموده قائلاً: «إن معاهد الفنون المسرحية في الوطن العربي تخرج لنا في كل سنة مئات الممثلين لكنها لا تخرج لنا كتابا». في العام 1978 حصل السليطي على شهادة البكالريوس في النقد والأدب والمسرحي وعاد إلى الدوحة لتبدأ رحلته الحقيقية في المسرح، تلك الرحلة أبقث عليه مؤلفا بارعا في مسرح النقد الاجتماعي والسياسي وممثلا يصول ويجول فوق خشبات المسرح.. ومنها وعبر العديد من أعماله المسرحية التي توالت بعد ذلك، كان حس الناقد وأدواته هي التي تصنع مسرحه وتجعله حالة فريدة في منطقة الخليج، بل وتطلق اسم غانم السليطي في سماء المسرح العربي.. فهل كان الدكتور حموده الذي هرب منه السليطي على حق.. يبدو أنه كذلك. فالذي يدقق بعد ذلك في أعمال السليطي سواء الكتابة والتأليف للمسرح أو التلفزيون، يجد أنها نصوص محكمة وذات سوية فنية عالية، فدروس النقد التي درسها تمثلت في تلك الكتابات وحددت مساراتها. لا أريد لهذه الورقة أن تتبع بالتفصيل سيرة أعمال غانم السليطي الفنية بالتتابع الزمني، الذي تحدده السيرة الفنية، وأنما سأحاول الإبقاء على تتبع غانم السليطي الكاتب والممثل الذي أراد لمسرحه أن يواكب متغيرات بيئته، ووعيه الفاحص والناقد لتلك التقلبات التي طرأت على إنسان الخليج وقضاياه، وكذلك قضايا امته وعروبته، فغانم السليطي لم ينفصل وهو في قمة انشغاله بهموم الخليج والخليجيين ورياح التغيير تعصف بتفاصيلهم الحميمة وتقتلعهم من هويتهم وجذورهم نتيجة الطفرة التي خلفها النفط، وأنما كانت له عين على الخليج وعين على قضايا امته.. فنرى أن فلسطين القضية الكبرى تحضر دائما في إعماله، حتى تلك التي كانت غارقة في همومها المحلية الصرفة.. فبذكاء وبإصرار وبإلحاح كان السليطي يغمز ويلمز هنا وهناك.. واحيانا يوجه خطابه المباشر حول ضعف الأمة التي ضيعت الوطن السليب حينما كانت تشتد الأزمات، وهنا لابد من الإشارة إلى ملمح مهم في مسرح غانم السليطي الذي كانت تنفتح لجماهيره الغفيرة أبواب المسرح الوطني في قطر، فعروضه التي كسرت حاجز الرقم الاعتيادي في ليالي العرض، كانت بمثابة الترمومتر للأحداث اليومية، أحداث محلية وخليجية وعربية، ولا يتوانى غانم عن إيقاف تدفق مشهد من مشاهد عرضه المسرحي ليطلق صرخة احتجاجية على حادث حدث في الأراضي المحتلة أو لبنان، أو أي مكان في الوطن العربي، فلقد كان حسه النقدي متواصلا بصورة مستمرة.. مع نبض الحياة والناس من حوله.. هكذا يتجدد العرض معه في طقس من الفودفيل السياسي.. وهذا التبني المفعم بالحس الوطني والقومي العروبي هو الذي جعله يحتل مكانة مرموقة في قلوب الجماهير الخليجية و العربية على حد سواء. مسرحية «المتراشقون» التي كتبها السليطي في العام 1980 ومثلت قطر في الدورة الثانية لمهرجان أيام قرطاج المسرحية في العام 1985 شكلت منعطفا فنيا كبيرا في مسيرة السليطي المسرحية، ويمكن الجزم أنها هي التي وضعت اسمه على خارطة المسرح العربي، وقدمته مسرحيا قوميا مرهقا بأحمال وطنيته.. فقد حصل على جائزة أفضل ممثل في هذه الدورة، الأمر الذي اشبع غروره كممثل واجزم أن فرحته بالجائزة، كانت فرحة الانتصار على الدكتور حموده الذي أبعده عن قسم التمثيل.. إلا أن أهمية «المتراشقون» في مسيرة السليطي تنبع من تعزيزها لاختياره المسرحي والمصير الذي أراده لفنه، وأراد توظيف قدراته وطاقاته من أجله..هو ذلك الانشغال والتماثل مع هموم المواطن العربي..»فمن واقع معاناته الشخصية كمواطن عربي ومن الواقع العربي المرير الذي يشهد أسوأ فترة في تاريخه بسبب ما يعانيه من الخلافات العربية / العربية التي جعلت من الوطن العربي وطنا ممزقا تعبث به أصابع الخيانة فتعمل على زيادة عوامل الفرقة والتشتت كتب السليطي مسرحيته «المتراشقون » التي استوحى لبها من حكايات ألف ليلة وليلة. تمويل ذاتي لم يستطع فناننا غانم السليطي الخضوع لروتين الفرق المسرحية الأهلية وواقعها المرير، كما وصفه في كثير من المناسبات، فالسليطي يرى أن هذه الفرق لا تعرف كينونتها الواضحة ولا أهدافها، فهي ما بين أن تكون فرق رسمية حكومية وما بين كونها فرق خاضعة لأهواء ونزاعات أعضاء مجالس إداراتها، لهذا نراه في العام 1986 يقرر خطوة جريئة في مسيرته الفنية، فيؤسس الدار القطرية للإنتاج الفني، معتمدا على جيبه في تمويل مسرحه الذي سوف يتوجه به إلى الجماهير، وفي هذه الخطوة سوف يجذب السليطي إليه كل نجوم الفرق المسرحية الأهلية، وسوف يشق طريقه بالرؤى التي أراد لها التحقق وأحلامه في مسرح حر له صوته المرتفع في مواجهة سلبيات المتغيرات الاجتماعية والسياسية.. وهكذا كان له، فقد انتج في العام 1986 مسرحية «عنتر وابله» والتي تناولت ظاهرة الثراء السريع، وظهور الصراع الطبقي بعد طفرة النفط، إلا أن هذه المسرحية لم تكتف فقط بتعرية الواقع في ذلك الوقت، ولكنها أيضا شكلت فتحا مسرحيا لافتا في الحركة المسرحية القطرية، فللمرة الأولى تعرف العروض المسرحية القطرية، شباك التذاكر، ولأول مرة يستمر عرض واحد في مكان واحد لأكثر من 28 ليلة.. وينفتح مسرح غانم السليطي التي توالت عروضه الخاصة على نجوم وأسماء لامعة في الساحتين المسرحيتين العربية والخليجية، فقد استضافت عروض السليطي الخاصة فنانين عرب منهم: مظهر أبو النجا، فاطمة التابعي، سوسن بدر (مصر)، هناء نصور (سوريا)، سعد الفرج (الكويت)، احمد الجسمي، سميرة احمد، عائشة عبدالرحمن (الإمارات) وكذلك اشرك السليطي فنانين من البحرين ومن سلطنة عمان في اغلب أعماله. استمر السليطي في خطابه المسرحي الموجه لتعرية واقع المتغيرات الخليجية والعربية، في العديد من الأعمال التي انتجها، إلى أن علت نبرة الخطاب السياسي في مسرحياته الأخيرة ومنها «هلو جلف»، «امجاد يا عرب» و»عنبر و 11 سبتمبر». قضايا كاشفة لقد كان مسرح السليطي كما اشرنا تريموميتراً كاشفاً لحرارة التقلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تعصف بحياة ألإنسان الخليجي والإنسان العربي، فاذا ما تتبعنا أعمالة الإنتاجية بعد مسرحية عنتر وابله.. فإننا سنجدها جميعا تتبع بشفافية عالية تواتر تلك التقلبات.. وكأن مسرح السليطي أرشيف كاشف يرصد توالي الظواهر ويتوقف عندها ليضعها ويضعنا معها أمام مرآة المسرح الكاشفة، وبين ثنايا قفشات لاذعة مرة، جارحة بلا دم كما وصفها احد النقاد ذات ليلة.. هكذا وظف السليطي قلمه وعرقه فوق خشبة المسرح لكي تتكرس الفرجة المسرحية التي يصنعها كقيمة فنية هدفها التنوير أولاً وآخراً، وتعرية واقع مظلم وقاتم. ففي مسرحية « زلزال» التي انتجها في العام 1988 يطرح السليطي مقولته حول انتماء الإنسان لمبادئه وأخلقفه وفكره وليس للمال وجاه المال.. وفي مسرحيته «دوحة تشريف» التي انتجها في العام 1989 يلتفت السليطي إلى مفارقة التغير الديموغرافي في منطقة الخليج والوجود الآسيوي، لكنه ينتصر في النهاية لصالح الإنسان مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه.. وفي مسرحية «مفلح في المريخ» التي انتجها في العام 1991، يبدو الأمر وكأنه استشراف للمستقبل، إذ يتصور السليطي الخليج بعد نضوب النفط، ويعزي هذا النضوب الى البذخ والترف الذي يعيش فيه الخليجيون دون تدبير وتفكير في اقتصادهم الحيوي.. وفي مسرحية «وحش الليل» التي اعدها السليطي عن وحش طوروس للكاتب عزيز نيسين، في العام 1993 يلتفت بحسه الفني الشفاف، إلى ما يحيط بأمته وما يتربص بها.. ويؤشر في هذا العرض الذي اعده ليتواكب والمرحلة الجديدة إلى عالم القوى المتجبرة، إلى عالم القطب الواحد الواحد.. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد أميركا بالعالم.. تصاعدت التحذيرات من مخاطر سياسات القطب الواحد، والتفت السليطي كونه الفنان المثقف، إلى ذلك فقد قدم «وحش « بالطريقة التي تخيلها في «وحش الليل». وهكذا بدأ خطاب السليطي يدنو من خطاب المسرح السياسي شيئاً فشيئاً.. ففي العام 1995 يحلل السليطي تجربة مجلس التعاون الخليجي بشكل نقدي في مسرحيته «هلو جلف» وهي المسرحية الأكثر جرأة في طرح إشكالات ومفاصل تجربة الوحدة الخليجية. غامر السليطي في مسرحه بكل شيء، هدفه الأوحد هو التنوير وتعرية المتغيرات الزائفة في الواقع الخليجي، في الوقت الذي كانت فيه نجوميته تتعزز ويلمع نجمه في سماء الفن، وهذا كله لم يمر بسهولة، ولم تكن الأرض كلها ممهدة له، فنحن نعرف الواقع الرقابي ونعلم أن فنانا بحجم شهرته التي وصل إليها، كان بالإمكان أن يجني ثمارها عبر تلبية رغبات وطلبات توالت عليه من اجل العمل في أعمال مسرحية ودرامية، هي بضاعة للاستهلاك، لكنه رفض واستمر على هذا النهج المعارض، والكاشف. ويعلو الخطاب مجددا عند السليطي في مسرحيته «أمجاد يا عرب أمجاد» التي قدمها في العام 1998 وفي هذه المسرحية يعود السليطي بخطابه اللاذع ليعري معاهدات السلام العربية مع العدو الصهيوني والحرية الزائفة في المنطقة، وكبت حرية المثقف والإعلام المدجن.. لكن هذه المسرحية تشكل أيضأ منعطفا في مسيرة الفنان السليطي، إذ كان يحلم أن تنفتح عروضه على الساحات العربية ومنها مصر التي درس وتعلم فيها فن المسرح، فيأخذه الحلم إلى عرض المسرحية هناك وسط منافسة شديدة بينه وبين نجوم المسرح المصري الذين وجدوا قدومه اقتحاما لساحتهم.. أما الأمر الأهم في هذا العرض هو حضور أمير البلاد افتتاح عرض مسرحية «امجاد يا عرب» في الدوحة الأمر الذي عده فناننا انتصارا للمسرح الجاد والجريء.. استمر السليطي مواجهة تحديات انتشاره واشتهاره ونجاح مسرحه وكانت تحديات صعبة، لكن إصراره لم يثنه عن مواصلة خطابه المسرحي الشائك متنازلا عن مغريات الشهرة التي كانت تجلب إليه المزيد من الدعوات للمشاركة في أعمال مسرحية وتلفزيونية لم تكن تناسب خطه ونهجه.. رفض السليطي الأموال والإغراءات، واستمر يواجه مصير أحلامه وتطلعاته في إنسان خليجي عربي حر.. وهكذا جاءت مسرحيته التالية «عمبر و11 سبتمبر» وكانت تعرية جديدة لواقع النظرة الأميركية للمنطقة بعد هجمات 11 سبتمبر التي جعلت رئيس الولايات المتحدة ينظر إلى الخليج باعتباره مرتعا للإرهاب والإرهابيين.. ولم يتراجع السليطي عن رسم مشهد مر وساخر لأكبر سجن غير قانوني هو سجن غوانتنامو.. وكانت صرخة في وجه تعجرف وهيمنة القطب الواحد المتسلط. هذا هو فناننا السليطي.. هذا هو خطابه المسرحي الذي أصر عليه ولا زال.. وان كان المجال لا يسنح لذكر تفاصيل التجربة وعقباتها التي تحمل مشاقها.. إلا أننا أيضا لم يمكن إغفال أن غانم السليطي الفنان والمبدع.. لم يغفل الطفولة أيضأ، فقد خص مسرح الطفل بجملة من أعماله المسرحية، كتابة واخراجا..فقدم لجمهور الأطفال مسرحيات: «حبوب الحبوب» عام 1993 «طيب في الغابة» عام 1996 «بوكاهانتس» انتاجا فقط. الخطاب الفني لمسرح السليطي يمكن الإشارة إلى تفصيلة مهمة في جملة أعمال غانم السليطي المسرحية والدرامية التي قدمها عبر التلفزيون، وهي أن كلا الخطابين الدرامي المسرحي والدرامي التلفزيوني تمثلا خطاب النقد الاجتماعي والسياسي، فقد قدم السليطي في التلفزيون سلسلة «فايز التوش»، وسلسلة «تصانيف» وهي مسلسلات درامية ذات حلقات منفصلة، تمازج فيها خطابه المسرحي بخطابه التلفزيوني.. ويمكن اعتباره عزفا على وتر واحد لكن بتنويعات وتقاسيم فنية تحمل الذكاء الشديد وحس الموهبة المرهف. اذ لم يتخل السليطي المؤلف عن آرائه في المسرح بل نقلها إلى التلفزيون، فواصل نقد الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السالبة في سلسلة من الأعمال الدرامية ذات الطابع المنفصل المتصل، وبدا السليطي مقلا بصورة لافتة في كتابة أعمال الدراما التلفزيونية ذات الحلقات المتصلة والقائمة على وتد قصة رئيسية وأحداث متواصلة، وهذا يبين أن فناننا كان الأقرب إلى الصورة الناقدة المختزلة والمتنوعة المواضيع، ويبدو أيضا وكأنه هروب من اسر القصة الواحدة والحدث الواحد.. وربما هذا الأمر يسمح بطرح سؤال حول الأسباب التي جعلت السليطي يهرب من دراما السرد الطويل؟ كما يمكن طرح جملة من الأسئلة حول الأسباب التي جعلت السليطي ككاتب والسليطي كمؤلف مسرحي، متمسكا بالمسرحية الكلاسيكية ذات الفصول والمشاهد الكلاسيكية، وأيضا ينعكس ذلك على الخطاب الفني في مسرحه، إذ لم يقترب السليطي في مسرحه من مساحة التجريب والتجريد، ولم يبحث عن فرجة مسرحية مغايرة، أي انه لا يذكر له تنويعات في صناعة الفرجة المسرحية.. فهل هذا تمسكا صارما بالواقعية الرومانسية؟ ألا يعتبر العزف على وتر مواضيع الطبقية واثار المتغيرات على الأسرة الخليجية عزفا متكررا في أعمال كثيرة من أعمال السليطي؟ إلا يمكن اعتبار السؤال عن أسباب التعامل مع الخطاب المباشر، والكلاشيه المكشوف والذي يظهر بوضوح في مسرح السليطي سؤالا يمتلك شرعيته من بؤرة النقد الفني، لأعمال تبدو متقاربة في أطروحاتها؟ أم أن ما يشفع للسليطي كمؤلف هو إصراره على البقاء بجانب المتفرج العادي والبسيط، وبالتالي ضرورة الاتكاء على خطاب مسرحي بسيط وواضع ومفهوم ومباشر؟ أسئلة تأتي من ساحة النقد بغية تقييم الفني في هذه التجربة المسرحية النبيلة في وطنيتها وقوميتها ومشروعها الخطابي اللاذع. أيضاً على مستوى الفنان غانم السليطي الممثل، يمكن رصد ملامح اشتغال عالي التقانة يدل على حرفية ممثل يمتلك أدواته التعبيرية، ويمتلك لها مقدرة هائلة على التطويع، فالسليطي كممثل امتلك ملكة الأداء والتشخيص، تثبتها قدرته على التلون والتقمص الواقعي، والمحاكاة الذكية التي لاحظها من حوله حينما كان طفلا في أحضان أهله، وصبيا في الحارة، وتلميذا في المدرسة، إذ اشتهر عنه تقليد كل ما يراه لافتا، فعند رصد الشخصيات التي لعبها السليطي سواء في المسرح أو في التلفزيون، فإنها تكشف عن ممثل بارع في رسم مكياج الشخصية التي يلعبها داخليا وخارجيا، وتجده مهموما منذ البداية بتفاصيل هذه الشخصية الروحية والنفسية، فهو مراقب جيد، وله قدرة على التلون والتشكل.. فهل السليطي كممثل اقدر على التنويع من السليطي المؤلف؟ تلك أسئلة تستحق الاعتناء عند التعرض لتجربة غنية وثرية ومكتنزة بكثير من الملامح الفنية الفطرية كما هي عند السليطي. مراجع: ? غلوم، إبراهيم عبد الله، المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي، دراسة في سوسيولوجيا التجربة المسرحية في الكويت والبحرين، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت ? غزال، زهير، كوميديا النقد الاجتماعي والسياسي في مسرح غانم السليطي، الطبعة الأولى 1998 الدوحة، قطر ? مجموعة كتاب، المسرح في الخليج، توصيف الواقع ورؤى المستقبل، واقع ندوة علمية، دراسات مسرحية» دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، الطبعة الأولى 2003 ? مطالعات في مواقع الإنترنت حول مواضيع تتناول أعمال الفنان المسرحي غانم السليطي. ألقيت هذه الورقة البحثية في مهرجان المسرح العربي الخامس في الدوحة 2013
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©