الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«اخرس يا ولد»

«اخرس يا ولد»
17 سبتمبر 2011 02:30
كانت أمي تراقب حركة الكلمات في فمي، وأي شيء أقوله يوتّرها ويغضبها لدرجة أنني كنت أتحاشى الكلام معها، لكنها كانت تقول لي: اخرس يا ولد، ولو كنت أتكلم مع شخص آخر، فأخذت أتجنّب الكلام أمامها نهائياً. لكن شكراً لأمي، فلولا القمع الذي كانت تمارسه ضدي لكنت الآن أدفع ثمن زلاّت لساني. كنت مثل معظم الأطفال والمراهقين أقول كلاماً تافهاً، مثل: يخطر ببالي أن أطعن نفسي بسكين لأرى ما سيحصل، فتغضب أمي وتبكي وتندب حظها. وأقول: حين أحصل على سيارة، فإنني سأقفز بها في البحر بعد أن أفتح نوافذها لأقيس الفترة التي ستطفو بها السيارة قبل أن تبتلعها المياه، فتغضب وتسب. وأذكر مرة قلت فيها إنني حين أكبر سأتزوج من خادمة، لأنها ستكون زوجة وخادمة في الوقت نفسه، فقلبت أمي البيت على رأسي كأنني تزوجت خادمة فعلاً وهي حامل بولدي العاشر. وفي مرة أخرى كنا نستعد للذهاب لبيت أحد الأقارب لأداء واجب التعزية، فسألت من هم معي وأنا أضحك: ماذا سيحدث لو قلت لهم: مبارك عليكم؟ فسمعتُ صوت أمي من بعيد وهي تسبّني وتصفني بالجنون. لم أكن أفهم سبب غضب أمي، فما أقوله يندرج في خانة المزاح أو الهذر أو اللغو أو الكلام التافه لتضييع الوقت، وكنت أقول إنها لا تملك حسّ الفكاهة، ولا تفرّق بين المزح والجد، ولا تؤمن بحرية التعبير، ولا تعرف التهكّم ولا الكناية ولا الاستعارة ولا التشبيه البليغ، فهي مع احترامي لها، لم تدخل المدرسة إلا سنة أو سنتين، وبالكاد تعرف الحروف الأبجدية، فمن أين لها أن تعرف الأساليب البلاغية؟ وأذكر أنني قلت كلاماً من الصنف نفسه لمعلم اللغة العربية الذي كان يعتبرني أفضل طالب في الفصل، فإذ به يجذبني من ياقة كندورتي ويلقي بي خارج الفصل وأنا أصرخ: نعالي.. نعالي.. ووجدت نفسي أقف في الممر حافي القدمين مذهولا من تصرف المعلم، لأنه المعلم نفسه الذي علّمنا الأساليب البلاغية، فكيف لم يفطن إلى ذلك؟ ومع استمرار غضب أمي، ووقوعي في مشكلات مع بعض المعلمين ومع أشخاص آخرين، اضطررت إلى بلع لساني وممارسة القمع معي، ومرّت عليّ آلاف المواقف واللحظات التي كنت على وشك أن أقول فيها جملة فكاهية لكنني حبست الجملة في اللحظة الأخيرة خوفاً من سوء الفهم والتورّط مع أشخاص لا يملكون حسّ الفكاهة. لم أعرف أن أمي أحسنت تربيتي في هذه الجزئية إلا حين كبرت ورأيت بنفسي ما يحصل للأشخاص الذين كبروا وهم يعتقدون أنهم يملكون حسّ الفكاهة، ولم يحالفهم الحظ في وجود شخص يمارس القمع معهم، فإذا هم لا يزنون كلامهم، ويقولون كلاماً لا يُقال، أو يُقال في مقام آخر، ولا يميّزون أثناء المزاح إن كان الواقف أمامهم صديقا يتسكعون معه في «المولات»، أو هو ضابط شرطة يحقق في قضية قتل، ويظلّون يمزحون سواء مع البائع في البقالة المجاورة أو مع مفتش الجمارك في مطار أجنبي. فهل من المتصوّر أن يقول رجل بالغ عاقل راشد وهو يصعد سلّم الطائرة إنه يحمل قنبلة، فيلقى القبض عليه وتفتش الطائرة حقيبة حقيبة، وتتأخر الرحلة، ويتضرر مئات الأشخاص؟ لا يمكن لشخص لم يكن معتاداً على قول مثل هذه العبارات أن يتفوّه بمثلها فجأة، هو بالتأكيد شبّ على قول الكلام التافه، فربما كان يقول في صغره: أريد أن أجرّب القفز من فوق سطح البيت، أو: متى ستموت يا أبي ليقول عني الناس إنني يتيم، فتضحك أمه لبراءته ويصفّق أباه لخياله الواسع، ولو كان يحصل على دفعات من الضربات على وجهه بين الحين والآخر وهو صغير، لما تورّط بلسانه وهو كبير. كلما تخطيت البوابة الإلكترونية التي تكشف المعادن في المطارات، ثم وقفت رافعاً يداي بينما الموظف المسؤول يفتّش أنحاء جسدي، يخطر ببالي أن أقول مازحاً: إنني أحمل قنبلة لكنني لن أقول لك أين هي؟ لكنني لا أتفوّه بأي شيء لأنني أتخيّل أن أمي تقف إلى جانبي. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©