الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سفر عبر الجحيم

سفر عبر الجحيم
9 سبتمبر 2015 23:37
مومياوات ثمّة مومياءُ تَمْشِي على الثَّلج مُومياء أُخْرى على الجليدِ وأُخْرى على الرَّمل تمشي. مومياءُ أخرى تَمشي عبر المُتنزَّه مومياءُ تَنْظر في مرآةٍ ثَمَّة مومياءُ أَفرغَتْ مسدَّسها بِطلْقةٍ فيها. كلُّ المومياوات تُبدِّل المكان كُلُّ المومياوات تقريباً انسحبَتْ العديد مِنَ المومياوات يجلِسُ إلى المائدة. ثمة مومياوات تعرض السَّجائر. وثمة مومياوات يَبْدو أنها تَرْقُص مُومْياء أخرى أَسَنُّ من الأخريات تُرْضِعُ صغيرها. سفر عبر الجحيم على مَقْعد طيَّارٍ قمتُ بسَفر إلى الجحيم في الدائرة الأولَى رأيتُ هيئات مُستندة إلى أَكْياس مِنْ قَمْحٍ. في الثانية رأيتُ رجالاً يسيرون على درّاجة هوائيّةٍ دون أن يعرفوا أَيْن يتوقّفون لأنّ ألسِنةَ الَّلهب كانت تعوقُهُمْ في الدائرة الثالثة رأيتُ هيئةً إنسانية وحيدةً كَانتْ خُنْثَى فيما يبدو وكانت تُطْعِم بَعْضَ الغربان. واصَلَتُ الهَرْولة والعَدْوَ عَلَى مَدى ساعاتٍ إِلى أَنْ بَلَغْتُ كوخاً دَاخل غابةٍ حَيْث كانت تعيش ساحرةٌ. ثَمَّة كَلبٌ أَراد عَضِّي فِي الدائِرةِ الرابعةِ رأيت مُسِنّاً بِلِحىً طويلةٍ أصْلعَ مِثْلَ بَطّيخةٍ كَان يَصْنع مركباً صغيراً بِدَاخل قِنّينةٍ. رَمقني بنظرةٍ بَشُوشٍ في الدائرةِ الخامسة رأيتُ بعض الطلّاب الشبّان يَلْعبون كرةَ الهنود بِخرْقة مَلْفوفة. كان البردُ وحشيّاً وكان عليَّ أن أَمْضي الّليْل سَهْران في إحدى المقابر مستنداً عَلَى قبر حتى لا أموت من البرد. في اليوم الموالي واصلتُ رحلتي عَبْر بعض التّلال فأبصرتُ للمرّة الأولى هَياكل الأَشْجار التي أَحْرقها السّياح. بَقِيَتْ دائرتان وَحَسْبُ في إِحداهما رأيتُ نفسي جالساً إلى طَاولةٍ سَوداء وأنَا آكل لَحْمَ طائرٍ. رُفقتي الوحيدة كانت مَوْقِداً من الشمع الأبيض. في الدائرة السابعةِ لَمْ أَرَ شيئاً على الإطلاق. سَمعت فحسبُ ضوضاءَ غريبةً أصَخْتُ إلى ضحكات مرعبةٍ وبَعْضِ التأوُّهات العميقة التي اخترقَت روحي. ثلاث قصائدُ -1 لم يَعُد لديَّ ما أقوله كُلُّ ما كانَ عليَّ أن أقُولَه قِيل ما لستُ أَذْكُر من مَرَّاتٍ -2 لقد سألتُ مَا لَا يُحصى من مرّاتٍ لكن لا أحَدَ أجابَ عَلَى أسئلتي من الضروريِّ تماماً أن تجيبني الهَاوِيةُ مرّةً واحدة لأنّ ما تبقَّى مِنَ الزمن قليلٌ. -3 ثمة شيء واحدٌ لا ريب فيه هو أنَّ اللحم سيمتلئ دِيدَاناً. ..................................... طقوس كلما عُدْتُ إلى وطني بعد سَفَر طويل أوّلُ ما أقومُ به هو السُّؤالُ عَمَّن مَاتوا: كُلُّ إنسانٍ هو بَطلٌ في ذاته لمجرَّدِ أنَّه سيموتُ والأبطالُ هُمْ مُعَلِّمُونا وفي المَقام الثاني أسْأَلُ عن الجرحى دائماً مِن بَعْدُ وليس قَبْل إتمام هذا الطقْس الجنائزيِّ الصَّغيرِ أكَرِّس نفسي للحياة عن حَقٍّ. أغلق العينين لأبصر على نَحو أفضل ثم بِحِقدٍ أغنِّي أغنيةً مِنْ بدايات القرن العشرين ..................................... مواقيت في سانتياجو تشيلي الأيامُ طويلةٌ عَلَى نحوٍ لا نِهائيٍّ: أَبدِيّاتٌ عديدةٌ فِي يَوْم واحدٍ لَكنَّ الأسابيعَ أقْصَرُ مِمَّا ينبغي والشُهورُ تمرُّ بِسُرعة قُصْوى والسَّنوات يَبْدو كَأنَّها تَطيرُ. ..................................... اختبار مَنْ هو نقيضُ الشاعر؟ تاجر في الإِجّانات والتّوابيت؟ قِسٌّ لا يُؤمنُ بشيء؟ جِنرالٌ لا يَثقُ حتّى بنفسه؟ متسكِّعٌ يَسْخرُ من كُلِّ شيءٍ حتَّى من الشيخوخة ومن المَوْت؟ مُحَاوِرٌ رَديءُ المزاج؟ راقصٌ على حافَّة الهاوية؟ نَرْجسيٌّ يحبُّ العَالَم بتمامه؟ مَتهكّمٌ دمويّ؟ بَائِسٌ عن عَمْدٍ؟ شَاعِرٌ ينامُ على كرسيِّ؟ خيميائيُّ من الأزمنةِ الحديثة؟ ثوريٌّ من ثُوار الجَيْبِ؟ بُورْجوازيُّ صغير؟ ثَرْثارٌ؟ سَاذج؟ قرويٌّ من سانتياجو تشيلي؟ ضَعْ خطّاً على العبارة التي تَحْسبها صحيحةً ومَا نقيض الشِّعر؟ زَوْبعةٌ في فنجان؟ لطخةُ ثَلْج على صخرة؟ سلَّة فَضَلاتٍ بشرية؟ ..................................... تقاعد مع التباشير الأُولَى للرّبيع يَأْتي المتَقاعِدُون إِلى ساحَة الأَسْلِحة في سانتياجو تشيلي ويَجْلسون على مَقاعد الحَديد وَاضعين رِجْلاً فوق رِجْلٍ. للتمَتُّع بالهَوَاء الشفَّاف تَحْت وَابلٍ من حَمَائِمَ رَماديّةٍ. المتقاعدون يَحْيوْنَ في تَعايُشٍ مع تلك الطيور. فَهُم يقدِّمون لَها فُستُقَ العبيدِ وهِي بنقراتٍ وُدّيةٍ تستخْرِجُ لَهُم بقايا الّلحْمِ مِنَ الأَضْراس. المُتقاعدون بالنِّسْبة إِلَى الحمائم يُمَثّلون مَا تمثِّله التَّماسِيحُ بِالنّسبة إِلى الملائكة. ..................................... في المقبرة هَذِه هي المقبرة أَنْظُر إلى العربات كَيْف تَصِلُ تباعاً؟ في سانتياجو تشيلي لَديْنا مقبرَتانِ: هَذِه هي المَقْبرة العُمُوميّةُ والأُخْرى هي المَقْبرة الكَاثُولِيكِيَّةُ دَوِّنْ مُلاحظاتٍ حَوْلَ كُلِّ ما تَراهُ. أَنظُر عَبْر هذا الشُّبّاك. تِلْك الصّناديق تُدعَى توابيت التَّوابيتُ البيضاءُ خَاصَّةٌ بِجَثامين الأطفال. أَتعْرفُ هذه الأشجارَ المُعْتِمة؟ لعلَّها إذا لَمْ أخطِئِ التَّسمية تُدْعَى أشجار السَّرو؟ - تَماماً. تِلْك الأشجار السَّوداء هي أشجار السَّرْوِ كَيف ترى المَشاكِيَ الدائمةَ هناك؟ - ما معنى مِشْكاةٍ دائمة؟ - كَيف تقول ما مَعْنى المشكاةِ الدائمة؟ هِيَ نقيض المِشْكاة المؤقتة. - هِيَ مِشْكاة دائمةْ. تِلْك الأخرى تُدعَى مشاكي مُؤقَّتة. هُنالك عربة أُخْرى قادمةٌ أنظر كيف يُفرِغون الأَكالِيل. يُمكننا أن نقترب إن رَغِبْتَ. تلك المرأة التي تُسْدِل البُرْقُعَ عَلَى وَجْهِها ينبغي أنْ تَكُون أرملةَ المتوفَّى. أنظُر إليْها كَيْف تبكي بِمَرارةٍ. النِّساء العَصبِيَّاتُ لا ينبغي أن يذْهَبن إلى المقابر: أنْظُر إليها كيف تَنْتَحب بحُرقة أنظُر إليها كيف تَنْتِف شَعْرَها ألَا تَرَى كيف تتلوَّى مِن الألم؟ لِنَذْهَبِ الآن لرُؤية الأضرحة - أتحبُّ رؤية الأضرحة؟ - أنا لَا أَعْرف مَا الأضرحة - سأُعرِّفكَ لكنْ عَلَيْنا أن نُسْرع. فَفي هذا الشهر يَحُلُّ الظلام في وَقْتٍ مبكِّر. حَاوِل مِنْ فَضْلك أن تُكرِّر العبارة: - تلك الأشجار السَّوداء هي أشجار السَّرو عليك أن تُكرِّرها مرَّاتٍ عديدة حتى تحفظَها عن ظهر قَلْب. تِلك الأشجارُ السوداء هِي أَشْجار السّرو. الإسْبَانُ هُمْ مَنْ يتلفّظون بالـce تذكَّرْ أنَّك في تشيلي: لا تتلفَّظ بـz ولا بـce. حسناً، لِنَعُدْ إلى دروسنا: تِلْك البيوتُ الصغيرةُ هِيَ غُرَفُ الأموات. وتُدْعى الأَضْرحة. بعضُها يبدو عِبارةً عن دكاكين بعضٌ آخر عن أكْشَاكِ مجلّاتٍ. تبدو كما لو كانَتْ بيوتاً لِلَّعِبِ بالدُّمى - لكنها قُصُور الأمْواتُ بالفعل. - أنظرْ إلى تلك السُّحُب السوداء عَلَيْنا أن نَنْسَحبَ قَبْلَ أنْ يُدَاهِمنا المزيد من الظلام. إنَّهم يغلِقُون المَقْبَرة باكراً. تقديم ولد نيكانور بارّا عام 1914 في سان فابيان أليكو (نيوبلي، تشيلي). عاش في العاصمة سنتياجو وفي شيجان. في 1940 سافر إلى الولايات المتحدة حيث أجْرى دراسات في الفيزياء وفي الميكانيكا المتقدمة، وفي 1945 عاد إلى تشيلي. في 1948 عُيِّن مديراً منتدباً في مدرسة الهندسة، وفي السنة نفسها نشر أولى قصائدهِ المضادة للقصيدة، ضمن مختارات خاصة. في 1952 أسس مع إنريكي لين وألكسندر جودروفسكي جريدة رسوم حائطية. عام 1954 نشر عمله الشعري الأوسع انتشاراً وتأثيراً، «قصائد وقصائد مضادة». حصل على الجائزة الوطنية للآداب عام 1969. وفي العام نفسه نَشَر القصائد الأولى من «آليات». في 1977 نَشَر «مواعظ مسيح إيليكي» العمل الذي مَثَّل تحوُّلاً هاماً في مَساره الشعري. نال عام 1991 جائزة خوان رولفو في مكسيكو، ثم جائزة الملكة صوفيا للشعر عام 2001. وفي سنة 1912 حظي بأرفع جائزة أدبية في اللغة الإسبانية: جائزة ثربانتيس. وفي منتصف أغسطس من 2014 تجمّع مئاتُ المحبين والمعجبين التشيليين بشعره أمام منزله لتهنئته وتحيته بمناسبة بلوغه مئة عام وهي السِّن التي تضعه في مقدمة المُعمَّرين من الشعراء في عالمنا اليوم. يختلف النقاد في تقدير وتقييم شعر نيكانور بارا. المغالون منهم يضعونه في مصافّ أهم شعراء القرن العشرين من الناطقين بالإسبانية وغير الإسبانية، جنباً إلى جنب مع بابلو نيرودا وأعلى منزلةً من أوكتافيو باث. وبعضهم الآخر يَرَى أنَّه مبتدع شعرية جديدة تماماً وصاحب ثورة في اللغة والتعبير الشعري في الإسبانية. أما النُّقاد «المنصفون» فيحسبون له نجَاحَه المنقطع النظير في أمرين اثنين جوهريين، الأول: تبسيطه الكلامَ الشعري وإيصال الرسالة الشعرية إلى جمهور واسع من القراء. والثاني نجاحه المنقطعُ النظير في تحويل القصيدة إلى أداة للنقد الجذري للقيم الثقافية والأيديولوجية السلبية بأسلوب يعتمد على السخرية واصطياد المفارقات من دون التفريط في جماليات الأداء الشعري. وهذا ما حقّق لشعره ذيوعاً وتأثيراً بالغاً في تلقّي الشعر وتذوقه داخل الشيلي وخارجها وفي عموم القارة اللاتينية الأميركية وإسبانيا. نيكانور بارّا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©