الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المغرب.. سنوات التكوين من «أحفير» إلى الجامعة

المغرب.. سنوات التكوين من «أحفير» إلى الجامعة
11 سبتمبر 2013 20:45
أنجز الدكتور عبد الملك مرتاض، الأكاديمي والناقد الجزائري المعروف، كتابة “مذكرات أدبية” تختلف عما ألفناه مما يكتبه الأدباء والمثقفون عادة من ذكريات. يستذكر مرتاض ذاته في الآخرين، أو أنه يستحضر صور الآخرين كما انطبعت في ذهنه خلال مسيرة طويلة. خلطة مشوقة بين الشخصي والثقافي يقدمها الدكتور مرتاض للقارئ، فتتبدى غالبا طبيعة الأكاديمي الجاد دون أن تتخلى عن مسحة من المرح، ونتف من سلوك الناس ومواقفهم. وينهج صاحب هذه الذكريات، المنهج الجغرافي، إذ ينطلق فيها من دولة عربية إلى أخرى، ناقلا عن مثقفيها أفعالًا وأقوالاً. إنها خريطة طريق عكسية، ترسم خطوطها وتشابكاتها، أحوال الثقافة والمثقفين.. هنا، ننشر الحلقة الأولى من الذكريات، على أن تتوالى الحلقات كل أسبوعين. المغرب والمغاربة في نفسي من الحبّ والتقدير، ومن الإكبار والإقرار، ما لو كتبتُ كلّ كتابات الدنيا عن ذلك لَما كنت وفيْت هذا القطرَ الشقيق الجارَ ما كان له عليّ من أفضال، تنوء بأحْمالها الأَجبال! فقد كنت أذهب إلى سُوق “أحفير” وأنا يافعٌ، في أقصى الحدود المغربيّة الشرقيّة فكنّا نتسوّق من هناك، فكنّا ندخل المغربَ آمنين، دون أن يطالبَنا أحدٌ بتأشيرة أو إظهار أيِّ هُويّةٍ لعبور الحدود!... وكان ذلك لأنّ الاستعمار الفرنسيّ، السيّئ الذكر، كان يوحّد بيننا! ثمّ دار الزمن دورته، فذهبتُ إلى جامع القرويّين بفاس، فتابعت الدراسة بهذه المؤسسة التعليميّة العريقة بضعة أسابيعَ فقدْ، قبل أن أُصابَ بمرَض السّلّ فأغادرَها إلى المستشفى العسكريّ، بدار الدبيبغ، بفاس، ثمّ إلى الاعتزال ـ باعتبار أنّ السّلّ مرَضٌ مُعْدٍ ـ في فَترة نُقُوهٍ طويلة دامت ستّة شهور... وفي المدرسة البوعنانيّة التي كنت أقطنها بمدينة فاس، والواقعة في الطالعة الكبرى، عرفت كثيراً من الطّلاّب المغاربة، ظلّت صداقتي مع بعضهم وطيدة وثيقةً زمناً طويلاً. ثمّ التحقت بجامعة الرباط التي غيّر اسمُها إلى جامعة محمد الخامس، والمدرسة العليا للأساتذة، بالرباط، فتابعت دراستي هنالك مع طلاّب مغاربة، ظلّتْ صلتي ببعضهم قائمةً إلى يومنا هذا. وفي تلك الفترة التي قضّيتها بمدينة الرباط، وقد دامت ثلاث سنوات، عرفْتُ كثيراً من الشخصيّات الثقافيّة والأدبيّة والعلميّة المغربيّة الكبيرة مثل الأستاذ محمد الفاسي الذي تتلمذت عليه، (وكان تحدّث معي على سبيل المصادفة في سنة 1957، إن لم تخنّي الذاكرة، بمدينة أحفير، وذلك أنّي كنت كشّافاً في الكشافة الإسلاميّة الجزائريّة بتلك المدينة، وكنت لا أبرح يافعاً، فجنّدنا الثُّوّارُ، ثوّار الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسيّ، لنكونَ نحن أيضاً في استقبال الملك محمد الخامس في زيارته الرسميّة لتلك المدينة الصغيرة الحدوديّة، وكان محمد الفاسي وزيراً للمعارف في الحكومة المغربيّة، وبالاتّفاق العجيب توقّفت سيّارته من الموكب الرسميّ أمامي، وأنا مُرتَدٍ بِزّة الكشافة، فسألني: كيف تسمَّى هذه المدينة، والحال أنّها كانت مدينة صغيرة في أقصى المغرب الشرقيّ، والأستاذ محمد الفاسي كان من مدينة فاس (وسط المغرب)؟ فقلت له: أحفير! فقال لي كلاماً، له علاقة، من الوجهة اللغويّة، بالحفْر، لم أعد أذكره على سبيل الدّقّة، وكنت يومئذ مدرّساً في المدرسة الابتدائيّة للبنات بتلك المدينة، ولم أكن أتوقّع لا أنّي أُصبح طالباً جامعيّاً، ولا أنّي أصير طالباً في حلقة هذا الأستاذ البحّاثة الكبير الجليل، الذي يذكّرني بعمق ثقافته المغربيّة وسَعة اطّلاعه بعبد المجيد مزيان من الجزائر!...). كما تتلمذت على الدكتور جعفر الكتّاني الذي كان يحبّني كثيراً، وهو الأستاذ الأوّل الذي شجّعني على الكتابة والاستزادة من طلب العلم بعد أن اطّلع على شيءٍ كنت كتبته عن معلقة امرئ القيس، تحت إشرافه. ثمّ على الأستاذ سيدي إبراهيم الكتّاني، مدير الخزانة المغربيّة، الذي وجّهني إلى دراسة الأدب الجزائري، لأنّه كان صديقاً لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين على عهد الاستعمار الفرنسي، وكان يأتي من المغرب إلى الجزائر ليحضر بعض مؤتمراتها، فكان كثير الحديث عنها، شديدَ الإعجاب بها. ثم تتلمذت، أثناء ذلك، على الفيلسوف محمد عزيز الحبابي الذي أصبح عميداً لكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، وهو الذي درست عليه في قسم العلوم السياسيّة بكلية الحقوق بالرباط أيضاً، وكنّا، ونحن طلاّبٌ، نهابُه مهابةً شديدة، وهو الذي جعلني أعزف عن اختيار الفلسفة تخصّصاً في شهادة الليسانس إلى الأدب، دون أن يكون له، هو، عِلمٌ بذلك، أو ذنْب فيه! وعلى عهده كان عددُنا في قسم اللغة العربيّة وآدابها، لا يقلّ عن ثلاثمائة طالبٍ في السنة الأولى، فلمّا تخرّجْنا كنّا ثمانيةً فقط! وقد سمِعته وهو يمشي في حديقة بهوِ كليّة الآداب، بمناسبة تخرُّجنا، متباهياً (وكنّا في شهر يونيو من سنة 1962): ـ الآن، أنا واثق من أنّ الذين تخرّجوا هم أهلٌ لذلك!... وقد جاء إلى الجزائر العاصمة ليحاضر في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر في مطالع الأعوام السبعين من القرن الماضي، وقد التقيت به وتحادثت معه كثيراً على هامش الملتقى الدولي للفكر الإسلاميّ الذي انعقد بمدينة تيزي وزو في الشهر السابع من سنة 1973. وقد تعرّض لموقف، ثقافيّ على كلّ حال، في ذلك المؤتمر، غيرِ محمودٍ، مع وزير الشؤون الدينيّة الأستاذ مولود قاسم، فشكاه إليّ قائلاً، باللهجة العامّيّة المغاربيّة: ـ أيْوَا لَوْزِيرْ ظْلَمْنِي! وآخر مرّةٍ التقيت به، وقد كان استفحالُ المرض بادياً على صفحة وجهه، وسِحنة جسده كلّه، كانت بمدينة أصيلا في صيف سنة 1989، وذلك بمناسبة مشاركتي في الجامعة الصيفيّة التي يُشرف عليها، ويشرُفُ بها، الأستاذ محمد ابن عيسى، سنويّاً. وقد دعاني الأستاذ الحبابي، في تلك المناسبة، لزيارة بيته بتمارة، بضواحي الرباط، دعوة مفتوحة، هو وحرمه الدكتورة فاطمة الجامعيّ، ولم أفعل لموانع الحياة. وقد كنت أتألّم كثيراً وأنا أشاهده وهو يكابد المرَض العضال، دون أن يجد ظهيراً بارّاً!... وإنّ من الأمور، عن ذلك، لَمَا لا يقال! وكذلك استحال محمد عزيز الحبابي من مجرّد أستاذٍ أهابه، إلى صديق حميم أستحبّ الاقتراب منه، وأستمتع بالحديث معه. وممّن كان يدرّس لنا من الأساتذة المغاربة، وكان بمثابة الوالد والصديق الكبير، الأديب الأستاذ محمد ابن تاويت الذي كان اتَخْذَني مثل اِبنه، فكنت أقُوم له بالخِدْمات التي ينهض بها الاِبن البارّ، في دأب العادة، لأبيه. ومنه عرفت، لأوّل مرّة، مصطلح “التجارب المطبعيّة” حيث كان يرسلني إلى إحدى مطابع الرباطِ (وقد كان لي دراجة ناريّة صغيرة أتنقّل عليها بين أحياء الرباط وضواحيها) لأعيدَ إليها تلك التجاربَ، بعد أن كان يصحّحها لدى إزماع طبْع بعض كتبه. وممّن عرفتهم، الشيخ الأستاذ الوازاني عميد كلية الشريعة بتطوان، وهو الذي وجّهني إلى اختيار تخصّص الأدب، بعد أن كنت أزمعت على اختيار تخصّص الفلسفة في جامعة الرباط، في غياب أيّ موجِّهٍ آخر، وهو يقول لي بثقة وصرامة: ـ اسمعْ يا بنيّ! “إنّ الأدب هو التوجيه”! وهذه الكلمة التي كتبتها بين مزدوجين، له، ولا تزال عالقة بذاكرتي، كما كتبتُها بأمانة. وكانت حادثة وقعتْ في مخيّم مارتيل للأطفال الذين يقضّون العطلة الصيفيّة بشمال المغرب، وكنت متشرّداً من بين مربِّيه ومدرِّبِيهِ، فانقسم القيِّمون على الأطفال، في ذلك المخيّم المصطخب، على الإدارة القائمة، فمنهم من كان معها، ومنهم من كان عليها، فاستشرتُه في ذلك كالأب: أيّ موقف أقف، لأنّي كنت وحيداً شريداً وبعيداً عن الأسرة، فقال لي: ـ انظرْ، يا بنيّ، هذا الأمرَ فلا تكُ مع الأقليّة، وكن مع الأغلبيّة، ولو كانت على باطلٍ! وفي الرباط، أثناء متابعتي الدراسةَ بها، وخصوصاً في السنتين الأخيرتين، كنت أشهد محاضراتٍ وأمسيات ثقافيّة، ففتحتُ عيني، لأوّل مرّة، على ما تعنيه كلمة محاضرة، ومنها محاضرة كبيرة ألقاها الدكتور نجيب محمد البهبيتي بقاعة المحاضرات بكليّة الآداب عن أسباب انتشار اللغة العربيّة في بلاد المغرب، دون انتشارها ـ فتكون لغة رسميّة ـ في بعض البلدان العجميّة مثل تركيا وإيران وأفغانستان... كما كنت معجَباً بالأديب المغربيّ الذي كان يرأس تحرير جريدة “العلَم” اليوميّة، فيما أذكر، الأستاذ عبد الكريم غلاّب، فكنت أقرأ له كلّ ما كان يكتب... كما كنت أقرأ، خصوصاً من خلال جريدة “العَلَم”، لآخرين من شباب الأدباء المغاربة وقد ذهبتْ عنّي أسماؤُهم، وأخشى أن أذكرها محرّفةً، وإن لم يكُ لأولئك الأدباء الشباب، يومئذ، شأن كبيرٌ فيما بعدُ، فخَمُلوا، فيما يبدو، خمولاً. وممّن عرفتهم فأصبحوا من الأصدقاء، لكثرة ما ترددت عليهم، من المسرحيّين المغاربة عبد الله شقرون الذي ساعدني فأمدّني بالمعلومات التاريخيّة والفنّيّة، فأفادني ذلك في تحضير بحث ـ طولِبْنا بتحضيره في الكلية ـ عن المسرح المغربيّ لا أزال محتفظاً بنسخة منه إلى اليوم، وهو مرقون بالآلة الكاتبة ومطبوع على ورق الحرير، ولم أعد أذكر مَن رقَنَه لي على الآلة يومئذ، ولا مَن سحَبه على ورق الحرير البدائيّ، أيضاً، ولمّا أنشُرْه، على كلّ حال... ثمّ دارت الأيّام تارة أخرى، فعُدت إلى التسجّل في جامعتي الأصليّة ـ جامعة محمد الخامس بالرباط ـ في دكتوراه الدولة، هذه المرّة، تحت إشراف الأديب الباحث معالي الأستاذ الدكتور عباس الجراري الذي أعُدّه صديقاً، وأستاذاً معاً. وقد زرته بالرباط في صيف سنة 1973، فدعاني إلى بيته في حيّ أكدال الأنيق، لتناوُل طعام الغداء. واتّفق أن كان الصديق الدكتور أبو القاسم سعد الله في رحلة إلى الرباط، فكنّا في تلك المَدعاة معاً، وأذكر أنّ أبا القاسم سعد اللّه كتب عن ذلك اللقاء ونشره في مجلّة “الثقافة” الجزائريّة، وهو اللقاء الذي كان في بيت الصديق الدكتور عبّاس الجراريّ الذي كنت ألتقي به بمدينة الجزائر أيضاً، عندما كان يأتي أستاذاً زائراً لهذه الجامعة، وكنّا نتناول طعام الغداء في أحدِ المطاعم الأنيقة معاً، حين كانت المطاعم بالجزائر لا تزال موجودة! وذلك أنّا كنّا نتواعد فكان هو يأتي من الرباط، وكنت، أنا، أذهب من وهران، فنلتقي بالجزائر العاصمة لينظُرَ فيما كنت أكتب في أطروحتي... وممّن درست معهم في حضن الجامعة بالرباط، ممّن صاروا أدباء، وظلَّت صداقتي بهم عميقة، وصِلاتي معهم وثيقة: محمد الكتّاني الذي أصبح مستشاراً للملِك، ومحمد الريسوني، ومصطفى القباج الذي كان اختار هو الفلسفة... وتعرّفت الناقدَ المؤتلق بشير القمري على هامش مؤتمر القصة العربيّة بمكناس، لأوّل مرّة، في شهر مارس من سنة 1983، فقضيْنا أيّاماً معاً بمكناس، ثمّ حين عدنا إلى الرباط التي كان يقيم بها، لم يقصّر بشير في إكرامي بتلك المدينة التي أهيم بحبّها والحنين العارم إليها، بعد أن قضيت فيها ثلاثَ سنواتٍ، هُنَّ مِن أسعد أيّام عمري، وأشقاهنّ أيضاً إطلاقاً! وقد كان بشير القمريّ لا يزال شابّاً لمّا يناقش الدكتوراه، فكان يحدّثني عن آماله العِراض، وأنّه كان يَتَخِذُ من المفكّر الجزائريّ محمد أركون مثلاً له، وأنّه كان يريد أن يصرف همّه إلى الدراسات الأنتروبولوجيّة. وقد التقَيْنا بمدينة قسنطينة، تارة أخرى، على هامش مؤتمر الرواية العربيّة في نهاية الأعوام الثمانين من القرن الماضي، وهو المؤتمر الذي عقده فرع اتحاد الكتاب الجزائريّين بتلك المدينة الثقافيّة، وممّن حضره من الروائيّين العرب: صنع الله إبراهيم، وجمال الغيطاني. وكنّا جالسيْن في القاعة، يوماً، جنباً لجنب في ذلك المؤتمر، فقال لي على سبيل الطّرافة: ما رأيك في أنّني أصعد إلى المنصّة، فأعلّق على هذا المحاضر، فأتحدّث بمصطلحات نقديّة غريبة بحيث لا يفهمُني أحد من الحاضرين؟! وذكّرني ذلك بما كان ذكَرَ طه حسين في كتابه “الأيّام” بأنّ شيخاً أزهريّاً افتخر يوماً أمامَ زملائه، أو طلاّبه، فبلغ به الزَّهو والخُيَلاء إلى أن يقول لهم: إنّ ممّا أَتباهَى به وأُفاخر، أنّي قد أتحدّث الساعاتِ الطِّوالَ دون أن يفهمَني أحدٌ، ولكنْ دون أن أفهَمَ نفسي أيضاً!... وأعتقد أنّا كنّا التقيْنا بعاصمة عربيّة بمناسبة انعقاد فعاليّة أدبيّة، هي بغداد، كما أحال على بعض كتاباتي، في بعض كتاباته... وفي ذلك المؤتمر القسنطينيّ جاء وفد كبيرٌ من الكتّاب والنقّاد المغاربة، أذكر من بينهم الناقد والمترجم عبد الحميد العقار... ومن أصدقائي من الجامعيّين المؤتلقين المغاربة الأستاذ الدكتور محمد العُمَريّ الذي التقينا معاً أكثر مِن مرّة، وخصوصاً في تونس العاصمة، وكان ذلك زُهاءَ سنةِ 1998 حيث كنّا نتحادث في شؤون من العلم، وفي شؤون من السياسة أيضاً، وقد كشف لي عن بعض الأسرار السياسيّة ممّا يخصّ العلاقة بين الجزائر والمغرب بحكم أنّه كان إطاراً مناضلاً في حزب حاكمٍ بالمغرب... وقد سهِرْنا ليلة، بغرفته في النزل بتونس إلى الساعة الثانية صباحاً، بعد أن تركَنا الصديق عبد الله الغذامي، في منتصف الليل. وممّا أهدانيه من كتبه: “الموازنات الصوتيّة في الرؤية البلاغيّة”، و”تحليل الخطاب الشعريّ: البنية الصوتيّة في الشعر”؛ و”اتجاهات الصوتيّ في الشعر العربيّ”، و”البلاغة والأسلوبيّة: ترجمة وتقديم وتعليق”، وقد كتب لي إهداءً على العنوان الأخير هذا نصُّه: “الزميل الأستاذ المحترم عبد المالك مرتاض مع المودة والتقدير. محمد العمري” (دون تاريخ ولا مكان). ومنهم الأستاذ إبراهيم الخطيب الذي جاءنا إلى الجزائر العاصمة بمناسبة انعقاد فعاليّة ثقافيّة كبيرة، بقصر الأمم بنادي الصنوبر، وقد تبادلْنا أطراف الحديث عن عَوَص الترجمة، وتحادثْنا، خصوصاً، عن ذكرياتي بالرباط أيّام الطلب. ومن أصدقاء الطلَب، وأنا في رَيْعان الشبابِ الغُرانقِ، كما يقول الشاعر العربيّ القديم: عبد الهادي الحلو الذي كان نائب مدير المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، فقد توثّقت الصلة بيني وبينه، إلى أن جعلني وكأنّي عضوٌ في أسرته الكريمة، فكنت لا أزال أتردّد على بيته الذي كان في المدرسة العليا نفسها. كما أنّي أدين لأوّل ظهور لي في التلفزة للأستاذ عبد المالك الحلو الذي كان يقدّم حصّة على الهواء في التلفزة المغربيّة بالرباط عنوانها: “العقل والصورة”، فلأوّل مرّة استكشفت فيها عالم الشاشة، وما كنت أشعر وأنا أمشي في بعض شوارع الرباط إلاّ وأناس (فتيات وفتيان) يخاطبونني: On vous a vu à la Télé أي: لقد شاهدناك في التلفزيون! وكان ذلك بالقياس إلى فتىً يتابع دراسته الجامعيّة في مرحلتها الأولى أمراً غيرَ عاديّ!... والحقّ أنّ صلتي بمعظم الكتّاب والمثقفين المعاصرين المغاربة وثيقة إلى حدّ كبير مثل صلتي بمحمد برّادة الذي التقيت معه في صنعاء، وفي الرباط، وفي مكناس، ومحمد بنيس الذي التقيت به خصوصاً في تونس، وسعيد يقطين الذي التقيت معه في فاس والجزائر، ومحمد مفتاح الذي التقيت به أوّل مرّة بفاس، ثمّ بالقاهرة حيث تناولْنا القهوة معاً في مقهى نزل الميريدين الجديد، وقد شكا لي ممّا لحق به من إهانة حين دُعِي إلى أحد المؤتمرات العربيّة ممّا كان ينظّمه أحد الأثرياء العرب، ثمّ طُلب إليه أن يدفع أعباء الإقامة من طعام ومَبيت، بعد أن كان دفع التذكرة أيضاً من ماله الخاصّ... فقاطع صديقي محمد مفتاح ذلك المؤتمر وهو أشدّ ما يكون غضباً وانْحِضَاجاً، بعد أن دفع كلّ أعباء الإقامة والطعام بكلّ تكاليفها!... وقد كان يحيط بصاحب المؤتمر عصابة من الناس كانوا يزعمون له أنّ الأدباء العرب، من المشرق والمغرب، يشرّفهم أن يدعوَهم فقط، ليُهرَعوا فيشاركوا بتقديم أبحاث، وهم سعداءُ بدفع ثمن تذكرة الطائرة، والإقامة في النزل الفخم على حساب رزق أبنائهم!... وقد دعوْنا الصديق محمد مفتاح إلى مؤتمر نقديّ أقمناه، من بعدِ التقائي به في القاهرة، بجامعة وهران، فقضّى بيننا أيّاماً ظلّ فيها معزَّزاً مكرَّماً. وممّا عزّز من أواصر المحبّة بيننا أنّ باحثاً جزائريّاً بجامعة سيدي بلعبّاس حضّر بحثاً أكاديميّاً عن السِّيمَائيّة فقارنَ بيني وبينه في أطروحة واحدة، فكان ذلك ضرْباً من العِناق الروحيّ الذي أعتزّ به أيّما اعتزاز. وقد كرّمتْني إحدى الهيئات الجامعيّة بالجزائر فطلبتْ منّي أن أقترح لها اسميْن اِثنين من أصدقائي لتدعوَهما ليشهدا تكريمي، ويُسْهِما فيه: أحدهما مغربيّ، وأحدهما تونسي، فاقترحت البشير القمريّ من المغرب، ولكنْ فشِلْنا في الاتّصال به، من حيث جاء الصديق كمال الرياحي من تونس ونهض بواجب الصداقة... ومن أصدقائي ممّن كان لي معهم ذكرياتٌ جميلة في مكناس والرباط الروائيّ مبارك ربيع، وهو ناقد وروائيّ وجامعيّ. وقد التقَينا في أكثر من مرّة، وفي أكثر من مكان. وممّا أهدانيهِ من كتبه، روايتُه التي فازت بالجائزة الأولى لمجمع اللغة العربيّة بالقاهرة لسنة 1975: “رفقة السلاح... والقمر”. وكان هذا الإهداء على هامش مؤتمر القصة العربيّة بمكناس. وكنّا ـ أنا وهو ـ نتفكّه بالنُّكَت والنوادر في الرباط، خصوصاً، بعد الانتهاء من المؤتمر الذي انعقد بمكناس، بما لا يُكتَب ولا يقال! وإذا اتّفق لمبارك ربيع أن يقرأ هذه الإيماءة، فلا ريب في أنّه سيفهم، وسيذكر، وسيبتسم لذلك، حتماً! بل ربما سيضحك إلى أن تبدُوَ نواجذه! وقد التقَينا، من بعد ذلك، في أكثرَ من مناسبة، وفي غير مكان. وآخر مرّة التقينا فيها كانت في شهر فبراير من هذه السنة (2013) بمدينة مسقط، وشهِدْنا معاً عشاءً عامّاً أقامه عميد كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس. ومن أصدقائي، بل من أساتذتي المفترَضين، الأستاذ الدكتور أحمد اليبوري الذي كلّفته كلّيّة الآداب بجامعة محمد الخامس بالإشراف على أطروحتي، قبل الدكتور عباس الجراري، ولكنّ ذلك لم يتمّ لعلل لم أعد أذكرها. وقد التقينا جملة مرّات، منها ذات مرّة في الرياض. ومن أصدقائي الأدباء المغاربة، ممّن كان لي معهم ذكريات في وهران خصوصاً، الدكتور حميد لَحْمِيداني، وهو من نقّاد الرواية المرموقين. ومن أصدقائي من الأدباء المغاربة الأستاذ الدّكتور سعيد علّوش الذي هو من ألطفِ الناس عِشرةً، وأدْمثِهِ خُلقاً، وأحلاهُ رُفقةً ومنادمةً، وأكثرِه تأليفاً، وأغزرِه كتابةً. وقد أهداني كثيراً من كتبه التي يوجَد لديّ في مكتبتي منها أحدَ عشَرَ عنواناً. وقد زارنا في جامعة وهران، عدّة مرّات، لحضور فعاليّات أدبيّة وأسْهم فيها بمحاضراته بتألّقٍ وامتياز. وأعتقد أنّي دعوته إلى بيتي مع مجموعة من الأدباء الجزائريّين، في إحدى تلك المناسبات... وحين دُفِعت، في أحد أسفاري، إلى الرباط، ضيّفَني سعيد علّوش في بيته، وكان يحملني في سيّارته فيتجوّل بي في أحياء مدينة الرباط وضواحيها الجميلة، فأثار في نفسي من تجديد ذكرياتي مع تلك الأمكنة ما كان كامناً! وكرّمني المعهد العالي للسانيات بجامعة الجزائر، فكان سعيد علّوش معنا حاضراً، من حيث لم يأتِ أحدٌ، هذه المرّة، من تونس. وقد قضّينا ثلاثة أيّام معاً بنزل الجزائر الدوليّ، فكانت لياليها خصوصاً لا تتّسع لسهراتنا الطِّوال!... وقد التقَيْنا في مؤتمرات أدبيّة وثقافيّة أخرى خارج المغرب والجزائر، كما في مدينتيْ بغداد والقاهرة مثلاً... ومنهم الصديق الشاعر محمد علي الربّاويّ الذي لم يزل يزور الجزائر، لشهود الفعاليات الأدبيّة التي يدعَى إليها، وآخرها كانت منذ سنتين حين زارنا في الجزائر العاصمة بمناسبة انعقاد إحدى عكاظيّات الجزائر للشعر العربيّ. ولا يزال التواصل قائماً بيني وبينه، وآخر تواصلٍ وقع بيننا، كان في عيد الفطر، ما قبل الأخير حيث هنّأني، في سلوك حضاريّ راقٍ، بمناسبة حلول العيد السعيد. وقد كرّمني أحد الجامعيّين الشباب المغاربة المرموقين، وهو الدكتور فريد أمعضشو، بأن حضّر أطروحة دكتوراه دولة في النقد بجامعة محمد الأوّل بمدينة وجدة عن أعمالي النقديّة، وذلك بعنوان: “المصطلح النقديّ وقضاياه في كتابات عبد الملك مرتاض النقديّة”، ناقشها بحضور لجنة علميّة مؤلّفة من خمسة أساتذة من الأكاديميّين، وذلك سنة 2010. وإنّي إذْ أشكر، بهذه المناسبة، الدكتور فريد أمعضشو الباحث، أزْدَجِي شكوري حميماً خالصاً أيضاً إلى الأستاذ المشرف على هذه الأطروحة وهو الأستاذ الدكتور مصطفى اليعقوبيّ. والحقّ أنّ أصدقائي من أدباء المغرب وثَقِفِيهم لا يكاد الحصر يأتي عليهم، ولذلك لن أستطيع ذِكرَهم جميعاً، ومَن ذكرته منهم ليس إلاّ من باب التمثيل والإشارة، ولْيعذِرْني مَن لم أستطع ذكْرَهم، لأنّ حيّز هذا المقال لا يتّسع لذكرِهم كلّهم أجمعين...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©