الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلاح الـ «جوع» العلني...

سلاح الـ «جوع» العلني...
8 ديسمبر 2010 21:54
كيف يمكن للقسوة والرهافة أن يجتمعا في شريط سينمائي يتسيّده الصمت ويحتشد فيه، كما لو كان هذا الصمت هو ذروة الصراخ ونهايته، وكيف يمكن للصورة المتخلصة من ثرثرة الحوارات الزائدة أن تستنطق ما لا يمكن البوح به وترجمته، خصوصا إذا كان المقصود هو تقديم (الألم) بلا أقنعه، وإظهاره أمام الكاميرا بكامل عريه ووحشيته أيضا. إنه الألم الذي يحفر في الداخل بمكر وخفة وأناقة مبتذلة، وهو الذي ينتشر ببطء مثل حقنة السم في جسد منهوب ومنتهك، أو مثل الدم الذي يشقّ طريقه بهدوء، كي يلوّث المياه الصافية للروح. إنه أيضا الألم الذي يجمع الطهر والقذارة، ومبادئ النضال وصدمة الخيانة، والخيال النبيل والواقعية المدنّسة، وكل الثنائيات المتناقضة والمتنافرة التي يقدمها المخرج البريطاني ستيف ماكوين في باكورة أعماله السينمائية “جوع” Hunger، وللمشاهد أن يضع هنا ما يشاء من تأويلات وتفاسير لكلمة “جوع”، لأنها كلمة بقدر ما هي مقترنة بالجسد، إلا إن انعكاساتها القادمة من ضمور ونقص الحرية يمكن أن تضع (الجوع) في مناخ افتراضي مأهول بعذابات أعنف وأكثر تدميرا مما يعانيه ويختبره الجسد الصائم قسرا أو طوعا. يعود بنا الفيلم إلى العام 1981 وتحديدا إلى سجن (مايز) الرهيب في أيرلندا الشمالية، وهو السجن الذي ضم خلف قضبانه وأبوابه الحديدية كل العذابات والتحديات والمرارات التي خبرها أعضاء من ميليشيا “الجيش الأيرلندي السري” IRA، والذين اعتبرتهم الحكومة البريطانية في تلك الفترة مجرد إرهابيين وخارجين عن القانون، وأسقطت عنهم الصفة السياسية المرتبطة بالنضال والثورة. يصور لنا الفيلم سجن مايز MAZE الذي تشير ترجمته الحرفية إلى (المتاهة) كحالة مغلقة ومعتمة يمكن إسقاطها رمزيا وواقعيا على كل السجون العنيفة في الألفية الجديدة (غوانتنامو وأبو غريب) كمثال هنا على عقلية التعذيب المتجذرة في وعي الجلاد، والقادمة من غريزة بهيمية تحول القوة المهيمنة للمتسيّد إلى قوة عمياء ومنزوعة من الرحمة وانتباهات الضمير. تُفتتح اللقطات التمهيدية للفيلم على معلومات أرشيفية تذكرنا بوفاة ما يزيد على 2000 شخص منذ الأحداث الدامية التي شهدتها أيرلندا الشمالية في العام 1969 وصولا إلى العام 1981 الذي تدور فيه قصة الفيلم مع سجناء معتقل (مايز)، والذين باشروا احتجاجهم ورفضهم لقرارات الحكومة البريطانية من خلال التعري وعدم الاستحمام. السلاح السري يبدأ المشهد الأول في الفيلم مع الصخب والضجيج المنبعث من الطرق العالي للمناصرين وأهالي المعتقلين المتجمعين خارج السجن، احتجاجا على إسقاط الصفة السياسية من المناضلين المحتجزين والمصرين على استقلال أيرلندا عن التاج البريطاني وصولا إلى الحلم المؤجل بولادة (أيرلندا الكبرى). تقطع هذه الاحتجاجات على مشهد يصيغه المخرج بذكاء بصري وقصد موضوعي عندما يركز على الروتين اليومي للمشرف على عمليات التعذيب في سجن (مايز) المحقق رايموند لوهان ـ يقوم بدوره الممثل ستيوارت غراهام ـ هذا الروتين الصباحي المليء بالشكوك والهواجس يبدأ مع لقطة للمحقق في الحمام وهو يغسل وبألم أصابعه المتقرحة، والتي تدل على مدى العنف الذي يمارسه مع المعتقلين، ثم نراه وهو يراقب الطريق قرب منزله، وينحني تحت سيارته بحثا عن أي متفجرات وضعت بقصد الانتقام للسجناء، في هذا الجو الصامت والمرعب يستهل المحقق عمله اليومي وكأنه محاط بمتاهة نفسية تتناوب فيها أدوار الفريسة والمفترس أو الضحية والجلاد، وكأن القناعات الداخلية وحدها لا تكفي لتمييز الخير عن الشر، ولأن منطق القوة هو الذي يحكم دائما، فإن الضعفاء أيضا يستطيعون من خلال حيل بسيطة أن يصبحوا هم الأقوياء وإن كان ذلك في لحظات خاطفة وسريعة ولكنها في أغلب الأحيان تكون لحظات موجعة ومؤثرة وقد تصيب الخصم في مقتل، إنها لعبة الانتقام أيضا والتي يمكن أن تمارسها الضحية بالصمت المطلق، والصبر الذي يصل إلى حدوده القصوى على الرغم من هول التعذيب، فهذا الصبر الجامح والضاري قد يتحول إلى سلاح سري وفتاك لا يمكن للجلاد سوى أن يستسلم له ويتقبل انعكاسه المهلك في داخله. يمر الربع الأول من زمن الفيلم من دون حوارات كثيرة، على الرغم من تعرفنا إلى سجين جديد يودع في المعتقل وينضم للمحتجين رافضا الاستحمام أو ارتداء الملابس المخصصة له، يبدو الصمت الذي يلون المشاهد واللقطات في باحات المعتقل وممراته القاحلة، وكأنه صمت مكثف وثقيل لأنه يترجم حالة الجفاء القصوى والعداء العميق والمتبادل بين السجين والسجان، أما الحوارات القليلة والمجتزئة التي تتناثر وسط مشاهد الفيلم ونستمع لها بخفوت فهي الحوارات المتبادلة بين المعتقلين أنفسهم، أو مع عائلاتهم التي تقوم أثناء الزيارة بتسريب بعض الرسائل والأخبار الخارجية في هذا السجن المنقطع تماما عن العالم ـ في أحد المشاهد نرى زوجة سجين وهي تدس مغلفا سريا لزوجها، ونكتشف بعد ذلك أنه يحوي جهاز راديو صغير وبدائي يتعرف السجين من خلال صوته المتقطع إلى جانب من التطورات السياسية في أيرلندا. ابتكارات بصرية ترتحل الكاميرا بعد تعرفنا إلى الأجواء المتوترة في المكان، إلى الغرف الداخلية للسجن كي تتكشف لنا الصور المفزعة الملأى بالقاذورات والمخلفات البشرية وبقايا الدماء والرواسب النتنة التي تملأ الحوائط برسومات ودوائر صنعتها أيدي المسجونين لتزجية الوقت وقتل الملل، أما الردهة الطويلة خارج الغرف فنراها وقد تحولت بواسطة الابتكارات البصرية للمخرج ستيف ماكوين إلى مسرح هلامي يختلط فيه الدم والبول والقيء وبإيحاء يذهب مباشرة نحو الدراما الغرائبية التي تتشكل مثل نبت وحشي في السجون المغلقة على أسرارها وعبثيتها وجنونها أيضا. في النصف الثاني من زمن الفيلم نتعرف إلى السجين بوبي ساندز ـ يقوم بدوره الممثل مايكل فاسبندر ـ الذي يملك كاريزما نضالية متفردة ما يؤهله لقيادة حركة الإضراب داخل السجن، وعلى الرغم من هول التعذيب الممارس ضده، إلا أنه يختار الدخول في تحد جديد ومروع يتمثل في إضرابه عن الطعام حتى الموت، هذا الخيار الأخير سيكون أشبه بالانتحار في المقاييس الأخلاقية للمستسلمين أمام فكرة الهدنة، أما بالنسبة لساندز نفسه فإن الموت هنا سيكون خيارا أقرب للتضحية والاستشهاد، لأن فكرة الحرية كما يراها هي حالة ارتباط مقدس مع فكرة الانتصار، ولا يمكن لمن يسلك طريق الحرية أن يتوقف أو يتراجع، إنها قوة الدفع الداخلية التي تجعل ساندز يقاوم الجوع لمدة 66 يوما قبل أن يضمر جسده تماما ويتوقف قلبه، ويتحول من خلال إيمانه المترع بالخلاص إلى أيقونة ورمز للنضال الشعبي في أيرلندا الجريحة والحالمة في آن. شعرية عالية استطاع المخرج ستيف ماكوين في هذا الفيلم الذي حصد جائزة الكاميرا الذهبية لأول عمل إخراجي في مهرجان “كان” سنة 2008 أن يقدم حالة سينمائية مؤثرة من دون أن ينساق للخطابات المباشرة ومن دون أن يقدم بيانات أيديولوجية صريحة، لأن الأسلوب الذي اتبعه في الفيلم انحاز وبشكل لا يعتريه اللبس إلى فكرة الفداء البشري الذي يضع الآخرين أمام الحيرة القصوى في تفسير المعاني المتضاربة والغامضة مثل التضحية والحرية وموت الفرد من أجل الحلم الجماعي، ولعل اللقطات الأخيرة التي صورت الاحتضار البطيء لساندز كانت أشبه بالرهان الفني الذي يؤكد ولادة اسم سينمائي جديد ومبشر، حيث برزت تجليات ستيف ماكوين في المزج بين الشعرية العالية وبين القسوة التي لا تحتمل، والتي تقدم لنا سينما مختلفة ومتجاوزة يحتك فيها الخيال بالواقع، ويتلامس فيها الفرح مع الألم، ففي اللحظة التي يفارق فيها ساندز الحياة يقدم لنا المخرج ما يؤبّد ويخلّد هذه الحياة، حيث تتوافد ذكريات الطفولة وتتدفق الصور الفاتنة للماضي وكأننا أمام حقل واسع ولا نهائي من الأحلام الخضراء التي تقاوم انغلاق الموت وسوداويته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©