الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخوف من البعد عن الأهل شعور يزرعه الآباء في أبنائهم

الخوف من البعد عن الأهل شعور يزرعه الآباء في أبنائهم
3 سبتمبر 2012
في ملحمة «الأوديسة» الشعرية التي ألفها هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد، ورد أن البطل الإغريقي لهذه الملحمة كان ينتابه حنين شديد لبلده، ووصل به الشوق مداه، فكان يتمنى لو يُلقي نظرة واحدة عابرة على جزء منها، أو يشم حفنة من ترابها ليروي توقه ويشفي حنينه إليها. وبعد آلاف السنين، وفي فترات الحروب خصوصاً، بدأ يُنظر إلى رُهاب البعد عن الأهل، أو الحنين، بأنه لعنة قد تؤدي إلى قتل الجنود وتُضعف همتهم في قتال العدو. ويعج التاريخ بقصص وحكايات عن أشخاص اضطرتهم ظروف ما إلى الابتعاد عن أهليهم وأوطانهم، وعانوا حالات شتى من هذا النوع من الرهاب، أو كابدوا مرارات من هذا الحنين وهم أشخاص راشدون، لا أطفال قاصرون. أما اليوم، فيتحدث علماء النفس عن رُهاب البعد عن الأهل باعتباره حالة شعورية مرضية تنتاب الصغار أكثر من الكبار، ويمكن الوقاية منها بدعم الآباء المتواصل في الطفولة وثقتهم، كما يمكن علاجها بجلسات واستراتيجيات منهجية ابتكرها علم النفس الحديث. لم يخلُ أي تجمع بشري من حالات رُهاب البعد عن الأهل، أو الحنين للوطن عبر التاريخ. لكننا أصبحنا ننظر اليوم إلى هذا الشعور أكثر باعتباره خوفاً مرضياً (رُهاباً) يُصيب الأطفال المُبعدين عن أهليهم لغرض ترفيهي كالمخيمات الصيفية، أو تعليمي كالدراسة والتدريب. ومن المفارقات الغريبة أن هذا الشعور الإنساني أضحى أكثر تعقيداً بسبب التكنولوجيا الحديثة وما أتاحته للآباء من وسائل للتواصل مع أبنائهم البعيدين عنهم عبر المحادثات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والنصية والتغريدات وغيرها. ويرجع ذلك حسب خبراء نفسانيين إلى كون وسائل التواصل هذه جعلت الكثير من الأطفال يُحرمون من فرصة تعلم الاستقلال بالعيش دون ذويهم والاعتماد على النفس، والتكيف مع كل وضع معيشي جديد والتأقلم معه لما فيه مصلحة الشخص، طفلاً كان أم راشداً. وحول الوقاية من رُهاب البُعد عن الأهل، يقول أحد الكتاب الذين أشرفوا على صياغة «لائحة الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال» إن التحاق بعض الطلبة بالمؤسسات التعليمية البعيدة عن مقار سكناهم يكون أول تجربة ابتعاد لهم عن أهاليهم. ويقول الدكتور إدوارد وولتون، مدير قسم طب طوارئ الأطفال في مستشفى بومونت في ميتشيجان، «كثير من الآباء يضطلعون بدور جيد للغاية في حماية أبنائهم، لكنهم يبالغون في إبقائهم تحت ناظريهم، فيعوقون بذلك تكوينهم شخصيات مستقلة بذاتها، ما يجعلهم يجدون صعوبةً شديدة في فك الارتباط بآبائهم عند الاضطرار للبعد عنهم». وحسب خبراء من الأكاديمية، فإن أبرز أعراض رُهاب البُعد عن الأهل المؤثرة على الصحة النفسية ثم البدنية للشخص هو كثرة التفكير في الأهل. فإطلاق الشخص عنان ذهنه للتفكير في منزل أبويه وأحبائه وبلدته وأصدقاء حيه وطبخ أمه وموعد رجوعه يُفاقم شعور الحنين لديه ويحيله إلى حنين مرضي». ثلاثة عوامل أجرى كريستوفر ثوربر، عالم نفساني من أكاديمية فيليبس إكسيتر من نيوهامبشاير، بحثاً مستفيضاً عن رُهاب البعد عن الأهل في صفوف الأطفال، ودرس حالات مختلفة من أشكال هذا الرُهاب، من قبيل مساكن الطلبة الداخليين، والمخيمات الصيفية، والكليات والمستشفيات، فوجد أن هناك ثلاثة عوامل رئيسة تُفاقم حالات الرُهاب لدى الأطفال. أول هذه العوامل مزاجي محض. فبعض الأطفال يجدون صعوبةً في التأقلم مع أي وضع جديد كيفما كان نوعه. وثاني هذه العوامل ينشأ عن تجربة سابقة. فالأطفال الأصغر سناً ممن يكونون قد تدربوا على البُعد ما بين الفينة والأخرى عن ذويهم يكونون عادةً أقدر على التكيف مع الأوضاع التي يبتعدون فيها عن أهلهم مقارنةً بأولئك الذين يجدون أنفسهم بعيدين عن أهلهم وهم يافعين كباراً لأول مرة. أما ثالث العوامل، فهو ذلك الرُهاب الذي تنتقل عدواه بشكل مفاجئ من الآباء إلى الابن أو البنت عقب تعبير أحد الأبوين أو كلاهما عن مدى الحزن والقلق الذي يشعران به لحظة الفراق، ويعطي الدكتور ثوربر مثالاً على ذلك في الآباء المحبين لأبنائهم الذين يقولون لأبنائهم بصدق وحسن نية لحظة معانقتهم والدموع في مآقيهم «تمتع بوقت جميل في المخيم.. لا أدري ماذا سأفعل من دونك!!». ويُضيف الدكتور ثوربر بأنه بتعبير الآباء عما يُساورهم من مشاعر الافتقاد، فإنهم ينقلون وساوسهم للأبناء ويشغلون بالهم ويشوشون أفكارهم. هذا في حين أن التصرف المثالي هو الإقرار بحب الابن أو البنت والبوح مقدماً بافتقاده فترة غيابه، لكن مع إبداء قدر عال من الثقة بأن بإمكانه التكيف مع الوضع الجديد، والاستمتاع بتجربته بعيداً عن البيت. ويؤكد ثوربر بأن المخيم الصيفي أو السكن الطلابي عادةً ما يكون زاخراً بالتجارب الغنية والممتعة التي تُسهم بشكل كبير في بناء شخصية الطفل وتقويتها وتطوير مهاراته الاجتماعية والتواصلية. ويقول ثوربر إنه لم يسبق له أن عمل طبيباً في مخيم صيفي أو سكن طلابي، لكن الأصدقاء والزملاء الذين سبق لهم ذلك دائماً يتحدثون عن تجارب المخيمات ومساكن الطلبة بحب وإثارة. ففي كل مخيم يُصاب الأطفال بمشاكل جلدية نتيجة عض البق أو البعوض، أو لمس أحد النباتات المسببة للحكة واهتياج البشرة وحساسيتها، بالإضافة إلى أمراض أخرى كالتهاب الحلق والإصابة بأحد أنواع العدوى الفيروسية. وفي أكثر من شهادة لهم، يقول الأطباء الذين سبق لهم مرافقة مجموعات تخييم للأطفال إن بعض الأطفال الصغار يُصابون بالرهاب فقط عندما يمرضون، مُعْزين ذلك إلى أنهم تعودوا رعاية الأبوين لهم عند مرضهم، ويتمنون أن يكونوا إلى جانبهم كلما مرضوا. وتختلف درجة الجَلَد والصلابة من طفل لآخر، غير أن بعضهم قد يدعي الإصابة بآلام غامضة، أو يبالغ في الهلع من أمر بسيط كعضة بعوضة، ومثل هذه الردود تكون علامة واضحة على هشاشة الطفل العاطفية، وسهولة إصابته بُرهاب البعد عن الأهل. وبالإضافة إلى مجموعة من الشكاوى البدنية الشائعة في المخيمات ومساكن الطلبة، يمكن لرُهاب البعد عن الأهل أن يظهر على شكل غضب أو شعور بالفراغ. ولذلك يقول الدكتور ثوربر إن مؤطري مخيمات الأطفال ومسؤولي سكن الطلبة يجب أن يكونوا مدربين على كيفية التعامل مع الأطفال الذين يصابون بالرهاب، وأن يشرحوا لهم أن هذا الشعور طبيعي ويمر به كل شخص، وأنه لا داعي للقلق بشأنه باعتباره يتلاشى بسرعة. ومن ثم فإن إجراء المشرفين والمؤطرين محادثات قصيرة لدعم الطفل عاطفياً هو أفضل من الجلسات العلاجية التقليدية الطويلة. كما أن اجتهادهم في تزويد الطفل باستراتيجيات بسيطة للتغلب على الرهاب هي من الأشياء التي ينبغي تشجيعها. حلول أبوية يقول الدكتور ثوربر إنه يتعين على الآباء أن يحدثوا أبناءهم عن رُهاب البعد عن الأهل وطرق التعامل معه قبل موعد المخيم أو الانتقال إلى سكن الطلاب التابع للمدرسة. كما ينصح ثوربر الآباء بتدريب أطفالهم على الابتعاد عنهم من فترة لأخرى بأخذهم لقضاء أيام نهاية الأسبوع مثلاً مع جدتهم، وعدم التواصل معهم بالمكالمات الهاتفية أو الرسائل الإلكترونية أو النصية إلا نادراً جداً. فتجارب افتراق كهذه تُحضرهم وتجعلهم قادرين على العيش بعيدين عن أهلهم عند الضرورة لفترات أطول، كما تُسهل على الآباء معرفة مدى جاهزية واستعداد الابن أو البنت للمشاركة في مخيم صيفي، كما قد تجعلهم يدركون أن الأوان لنشاط كهذا لم يحن بعد. وينصح خبراء نفسانيون الآباء بعدم وعد أبنائهم مطلقاً بالمجيء لأخذهم من المخيم في حال مر شيء ما على ما لا يُرام. وهم يعتبرون وعداً كهذا من الأخطاء الكبرى. ويقول الدكتور وولتون «يقترف الناس هذا الخطأ دائماً. فكل طفل قد يسأل أبويه «وماذا أفعل لو أُصبت برُهاب البُعد؟» ويجب حينها أن يلقى الإجابة الآتية «إن لدي ثقة تامة في أنك قادر على التكيف مع شعور طبيعي كهذا». أما عرض قَطْع المخيم على الطفل وجلبه للبيت بدعوى عجزه عن مواصلة المخيم، فتترك للطفل خيارين أحلاهما مر. فإما أن تزور ابنك في المخيم فيفقد الطفل فرصة مواصلة الاستمتاع بمخيمه، ويُحرَم من الاستفادة من تجربة التكيف مع العيش بعيداً عن الأهل. وإما أن ترجع في كلامك، وهذا أيضاً يكون له وقع سيئ على نفسية الطفل. ويضيف وولتون أنه في حال ضغط الطفل على الأبوين، يجدر بهما أن يناقشا معه طرق التكيف مع العيش بعيداً عنهما. كما يكون مُفيداً في هذه الحال اقتراح استراتيجيات قد يرى الأبوان أنها ستساعد ابنهما على التغلب السريع على هذا الشعور بمفرده. وفي السياق ذاته، يقول وولتون «لا يمر مجلس نتحدث فيه عن رُهاب البعد إلا تحدثنا فيه عن الأطفال. وغالباً ما نتفق على أن طريقة تعامل الآباء مع أطفالهم هي التي تحدد ما إذا كانوا سيصابون بهذا النوع من الرهاب من عدمه». ومن جانبه، يقول الدكتور ثوربر «نحن لا نتوقف لحظة واحدة عن الشعور بافتقاد من نحب. وهذا رد فعل شعوري يحس به الآباء كما الأبناء، ويجب أن نقتنع أن رُهاب البعد هو ترجمة للحب، والحب طاقة إيجابية ينبغي أن نُسخرها في خدمتنا ولتحقيق سعادتنا، وليس العكس». هشام أحناش عن «نيويورك تايمز»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©