الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسان وقسوة المكان

الإنسان وقسوة المكان
8 ديسمبر 2010 21:46
لايمكن قراءة الرواية الجديدة للروائي علي أبو الريش التي تخمل عنوان “فرت من قسورة” خارج إطار الدلالة التي ينبي عليها المكان في السرد الروائي، وكذلك بناء شخصياته والعلاقات التي تربط بعضها بالبعض الآخر في إطار العالم المتخيل الذي يحاول الكاتب، من خلال استخدام اسماء الأماكن الواقعية وتحديدها أن يوحي بواقعيتها. تدور أحداث القسم الأول من الرواية في مكان مغلق، هو فضاء الغرف الذي يتألف منه المسكن الحديث لبطل الرواية التاجرخلفان، بينما تدور أحداث القسم الأخير في مكان مغلق قديم هو القلعة، وفي فضاء مفتوح يتوزع بين الشوارع والجبل والصحراء، حيث يرتبط التحول الذي يطرأ على أحداث السرد، والمنحى الدرامي الذي تتخذه تلك الأحداث بتلك الحركة في الانتقال من مكان إلى آخر. وفي حين ينتمي العالم المغلق للبيت إلى العالم الحديث للمدينة الحديثة، فإن العالم الخارجي يحمل صفات القدم أو يمثل عالم الصحراء، حيث تتجلى ثنائية المكان أو العلاقة الضدّية بين المكانين، وارتباطها بالتحول الذي يطرأ على شخصيات الرواية وعلاقاتها ببعضها البعض، أو علاقاتها بالمكان، ودور هذا التحول والتبدل في تعميق المنحى الدرامي لأحداث الرواية، وتطور بنيتها السردية الحكائية. يحيل المكان المغلق ـ كما هو معروف ـ على ما هو خاص وذاتي أو على الحياة الداخلية لشخوص الرواية الثلاث خلفان الزوج وغزالة الزوجة وهيلين الفتاة المتبناة القادمة من ويلات بلاد البوسنة، لكي تعوض غزالة عن مشاعر الأمومة التي لم تستطع تحقيقها بسبب عقمها. داخل جدران تلك الغرف تتكشف الحياة الداخلية لتلك الشخصيات الثلاث من مشاعر وأحلام ورغبات وقلق وصراع يتجلى من خلاله اختلال العلاقة المتفاقم بين خلفان وغزالة، والناجم عن الاختلاف في وعي الشخصيتين واهتماماتهما، حتى يصبح من غير الممكن استمرار تلك العلاقة والبقاء معا، في حين تعيش هيلين صراعها الداخلي المحتدم داخل عالمها بين مشاعر متناقضة حيال تلك الشخصيتين، تؤدي إلى كسر رتابة إيقاع السرد، وخلق تحول درامي في بنيته الحكائية، وإلى تبدل في علاقة الشخصيات بالمكان، وفي المنحى الدرامي لأحداث الرواية. علاقة تقابل تؤدي حالة التباين في الوعي والسلوك بين شخصيتي خلفان وغزالة إلى تعميق الصراع على امتلاك هيلين بينهما، حتى تتحول عند غزالة إلى خوف يتهددها باستمرار ما ينجم عنه فقدان الشعور بالألفة والطمأنينة على صعيد العلاقة مع المكان/ البيت، وظهور مشاعر القلق والخوف والعجز والإحباط، التي تتفاقم بشكل درامي قاس ينعكس على علاقتها بالحياة والعالم المحيط بها، وقبل ذلك بذاتها الغريبة المهزومة (غزالة... لا أريد أن أعيش. الحياة ما عادت تعنيني. هذه الجدران صارت قبرا يعصر جسدي، ويهلك روحي، والفراغ من حولي سياط شائكة تنغرس في روحي. تنظر إلى هيلين... تغرق عيناها بالدموع، تريد أن تقول شيئا، فيطبق الصمت على شفتيها الذابلتين... تنكفئ تتلاشى في داخلها، تبحث عن شيء ما يضيع في داخلها). وعلى خلاف هذه العلاقة المأساوية مع المكان المغلق الذي يمثله البيت، ويحيل على ما هو داخلي وحميم بالنسبة لعالم الشخصية، يشكل هذا المكان ملجأ تحتمي به هيلين، وهي تعيش صراعها الداخلي بين مشاعر متناقضة من الفرح والخوف، تتنازعها على صعيد علاقتها مع والديها بالتبني، لاسيما بالنسبة إلى تطور علاقتها الوجدانية مع خلفان، والتي تتخذ منحى دراميا بعد اكتمال نضوج أنوثتها، وتنامي مشاعر الحب والرغبة في الزواج منها، واستشعار غزالة بهذا الخطر الذي بات يتهدد وجودها (في غرفتها اختبأت هيلين كالفارة المذعورة، تحركها نوازع الخوف والفرح معا، نزعت الخاتم من إصبعها وصارت تقلبه وتقبله، وتقربه أمام عينيها، كان لبريقه صهيل يغري الروح، وعويل أيضا يقلب مواجع التاريخ المختبئ تحت الجفون.. لا تستطيه هيلين أن تستنكف هذه الهدية الغالية ولا تستطيع أن تذود عن نفسها هذا الالتحام الوجداني الذي شق طريقه إلى القلب المرتجف.. كما أن لا عليها أن تهدأ وتلوذ إلى الطمأنينة، طالما هناك في الجانب الآخر امرأة تتألم). ترتبط وظائف الشخصية في هذه الرواية من حيث دورها في تطور البنية السردية، ومن خاصية التحول التي تتميز بها، ومن خلال أهمية الدور الذي تلعبه في السرد الحكائي، باعتبارها شخصيات رئيسية جرى بناؤها من قبل الكاتب لتمثل شخصيات تعيش قلقها مع ذاتها على مستوى الوعي الخاص بها وجوديا أو عاطفيا، الأمر الذي يجعل الحدث مرتبطا بتلك الشخصيات وتحولاتها على مستوى الذات والصفات والعلاقات التي تقوم فيما بينها. ترتبط تلك الشخصيات الثلاث مع بعضها البعض بعلاقات توافق في بداية الرواية، لكنها فيما بعد تبدأ بالتفكك شيئا فشيئا بسبب الاختلاف في الوعي بين الزوج خلفان والزوجة غزالة، إذ ينشغل الأول بالبحث والقراءات النفسية، بينما تنشغل غزالة بموضوع الإنجاب ولا ترى في الزوج سوى وسيلة لتحقيق ذلك، ما يفقد تلك العلاقة بينهما معناها العاطفي، ويخلق حالة من السخط والنفور حيالها عند خلفان، يعززه الصراع على امتلاك هيلين بينهما، ومحاولة اجتذابها من قبل كل منهما. لكن هيلين التي تبدأ بإدراك اختلافها عن محيطها الاجتماعي الذي تعيش فيه، تعيش هي الأخرى صراعها العاطفي بينهما، وإن ظلت تنحاز إلى والدها بالتبني أكثر. دلالة الشخصية إن الشخصية التي لا يمكن تناولها بالدراسة بعيدا عن مسألة الدلالة، وفق ما تقول به السيمائية السردية عند كريماس، تظهر مدى التفاوت بالوعي عن كل من شخصية الرجل التي يمثلها خلفان والمرأة التي تمثلها غزالة، ففي حين ينشغل الأول بالبحث والدراسة في عالم النفس من أجل فهم الشخصية الإنسانية، ومحاولة إعطاء العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة معنى عاطفيا، نجد الأخرى تنشغل بالجانب الغريزي عندها والمتمثل في مسألة الإنجاب والأمومة، فيكون إلحاحها على هذه العلاقة من أجل هذه الغية وحدها، الأمر الذي يغضب خلفان ويولد شعورا بالنقمة، يفقد علاقة التواصل والاتصال بينهما معناها الإيجابي، ويبدأ بخلق شرخ ما يني يتسع ويكبر حتى تنهار تلك العلاقة في النهاية معززة بدوافع خلفان تجاه هيلين، وبحثه عن علاقة الحب التي تملأ فراغه العاطفي، واكتشاف غزالة لتلك الدوافع في لحظة لقاء حميم بينهما. إن تطور تلك الأحداث في الرواية يرتبط بتطور الشخصيات، بحيث يقود ذلك إلى تحول درامي في حياتها ومواقفها وسلوكها، ينمو معه الصراع بين تلك الشخصيات من جهة، وبينها وبين ذاتها من جهة أخرى. إن دافع الإنجاب عند غزالة هو الذي يشكل محور علاقتها بالزوج خلفان، بينما تشكل هيلين حالة تعويض عن حالة عقمها، وبذلك يظهر الاختلاف والتباين بين الشخصيتين. ولا تختلف شخصية البدوي الذي تلتقيه هيلين بعد فرارها من منزل خلفان عن باقي الشخصيات، من حيث تحولاتها في علاقتها بها، فبعد أن تعبر عن ولائها لسيد القلعة من خلال اقتياد هيلين إليه لينعم بمفاتنها، نجده بعد فرارها الثاني من محبسها يمثل حالة من الحب السامين بل يربط الحياة كلها بهذا المعنى الذي يمنحها قيمتها الإنسانية. وبغض النظر أن حضور الكاتب من خلال هذه الشخصية التي تتحدث عن الحب بلغة لا تتناسب مع وعيها ووضعها الاجتماعي، فإنه يتحول عن هيلين إلى رمز للحكمة البدوية التي تسعى إلى تحقيق خلاصها بها من خلال توحدها معه، عندما تخاطبه بصوت مخنوق (حررني مني.. طهرنا، واغسل هذا القلب الملوث بحكمتك الصحراية. البدوي.. يقترب من هيلين أكثر، يلتصق بها يهمس في أذنيها. هل تتزوجيني.. تهز رأسها قائلة ضارعة.. أجل.. يذوبان يتعاطان الحب في لحظة إشعاع عاصف لم يشهدل له مثيلا..). يحمل المشهد الذي يشكل نهاية الرواية دلالة خاصة تنبع من معاني الخلاص التي يمثلها توحد هيلين الغريبة التي تمثل الآخر المختلف في هذه الرواية مع شخصية البدوي التي ترمز للنقاء والحكمة، خاصة وأن تلك الشخصية تقدم بلقبها الذي يحيل على بيئة اجتماعية محددة، وليس باسمها الشخصي، ما يعزز من تلك الدلالة التي تحملها تلك الشخصية، ويكشف عن وظيفتها التي يريد أن يحققها الكاتب من خلالها، وهي القول بالخلاص الذي يمكن أن يتحقق عبر التوحد مع تلك الحكمة وحالة النقاء التي تحملها قيم ذلك العالم، في مواجهة قيم المدينة الحديثة التي تهرب منها هيلين باحثة عن خلاص ذاتها. صدرت الرواية عن منشورات المؤسسة العربية للنشر في بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©