الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مدرسة الصحراء الإماراتية

14 سبتمبر 2011 22:16
ككل عام، منذ تسعة أعوام، تشهد أبوظبي الدورة التاسعة من المعرض الدولي للصيد والفروسية، وهو الحدث المميز والأكبر من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، الذي ينتظره عشاق رياضة الصيد بالصقور ومحبو الفروسية ورحلات البر، كتجسيد لثقافة الصحراء العريقة والممتدة بكافة تجلياتها. ويشهد المعرض إقبالا كبيرا من قبل محبي مفردات هذا المكان المتسع لمفردات الدهشة والسحر، خصوا من خلال فعاليات تعيد إلى الأذهان تقاليد عريقة تتنافس في مسابقات متنوعة منها مسابقة فن صناعة وإعداد القهوة العربية على الطريقة التقليدية. أحمد علي البحيري مسابقة أجمل القصائد النبطية التي قيلت في وصف وفقدان الطير ووصف المقناص، ومسابقة أفضل بحث في الصيد والفروسية عند العرب، ومسابقة أجمل لوحة فنية في الصيد والفروسية والتراث، وكذلك أجمل صورة فوتوغرافية في الصيد والفروسية، ومسابقة أجمل وأكبر الصقور المهجنة (المكاثرة في الأسر) من نوع جير حر، جير شاهين، وجير ذكر، ومسابقة أجمل كلب صيد سلوقي من فئتي الريش والحص. وتأتي هذه المسابقات جميعها وخاصة تلك المتعلقة بالرسم والتصوير الفوتوغرافي في إطار الحرص على الحفاظ على التراث المحلي والتعريف برياضات الآباء والأجداد والمساهمة في تأريخ الحياة البرية والبيئة الصحراوية، وتسليط الضوء على المكانة الراقية التي تتبوأها الصقور والخيول في دولة الإمارات، وتعريف الأجيال بالتراث الثقافي والحضاري والبيئي لآبائهم وأجدادهم وأهمية صونه. ويشكل المعرض فرصة لزواره للاطلاع على مستقبل رياضة الفروسية، كما يعرض الأغراض المختلفة التي يمكن استخدام الخيول فيها سواء كانت للنقل أو الممارسات الثقافية أو الرياضية. فالفروسية التي تعد إحدى أقدم وأعرق الرياضات التراثية، هي أيضاً الأكثر نمواً، فمن تزايد شعبية لعبة الباتو الأرجنتينية التي تستخدم فيها الخيول وتجمع بين عناصر من البولو وكرة السلة، إلى إعادة اكتشاف الخيول القزوينية وتربيتها في المزارع، وازدهار لعبة الإكروبات على الخيول، تزداد شعبية جميع النشاطات المتعلقة بالفروسية في جميع أنحاء العالم. كل هذه العناصر التي تتضافر لكي تشكل ما يمكن أن يسمى “ثقافة الصحراء” هي المعين الذي نهل منه العديد من أدباء الإمارات قصائدهم، وكذلك فعل الرواة في حكاياتهم المتوارثة، فضل عن الخبرات العريقة التي يتوارثها سكان هذا المكان الأصيل. الخصوصية والمتخيّل منذ عهد شعراء المعلقات، ومنذ أن أطلق طرفة ابن العبد الجاهلي قصيدته المشهورة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد جازت البيد الى أرحلنا آخر الليل بيعقور خدر في باب الفخر، متذكرا فضاءات الصحراء الجميلة التي تضم نسائم محبوبته، كانت الصحراء وما زالت احدى أهم مفردات المكان، بما يملكه من مخزون ثقافي وسحر وأفق رحب يتملكه الخيال والجمال والمشاعر الانسانية الشفيفة في خلق تلك الصلة الحميمية الجميلة مع أصحاب الكلمة الشعرية، بل ألقت الصحراء بظلالها وتجلياتها وروحها على انتاجهم، بموازاة ذلك لم يكن الشاعر الاماراتي بعيدا عن هذا المناخ الصحراوي البديع بما يضمه من رمال ومياه ونخيل ورياح وصيد، وبراري واسعة وجبال وعرة، وصخور وطيور جارحة ونجوم وسماء صافية وقوافل ونيران تشتعل في ليالي السمر ونيران أخرى تشتعل في قلوب المحبين، تشكل بمجملها مخزونا ثقافيا يشكل حضوره اللافت في كل وقت، بل كان هذا الشاعر الذي يكتب قصيدته النبطية أو الفصيحة وثيق الصلة بصحرائه التي لم تكن كما تصورها البعض مجرد خيمة وناقة وقبيلة وبداوة وبندقية وغزوات ودماء لا تتوقف بفعل السيوف وجحافل الخيول، لقد كانت ثيمة الصحراء المتجددة في قصائد شعراء الامارات ثقافة صحراوية ومجالس أدبية تتسم بروح البداوة وصفاء الروح، وحكايات شعبية، وأصالة الانسان وتقاليده وموروثه الشعبي الذي لا ينفصل عن بيئته بكل حمولاتها. وبذلك نجحوا في الرسم على رمال الصحراء الذهبية معان نسجوا منها خيوطا وجدائل ومعان تفصح عن علاقة الانسان البدوي بارضه ووطنه، لتصبح الصحراء بذلك معادلا موضوعيا للوطنية الصافية، والارتباط الوثيق بالبيئة والمكان والحياة في شكلها الرحب الفسيح. ان خصوصية متخيل الصحراء كمكان يشكل بمجمله، صيغة وصفية لنصوص وثيقة الصلة بروح المكان وعمق فهم الشعراء لهذه الخاصية التي هي أصل المدنية وانطلاقتها. ان لثقافة وثيمة الصحراء في الشعر أدب وجمال خاص، واذا اردنا التحدث عن هذا المجال الواسع لا يمكننا الا الوقوف عند استخدام المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه”، الذي فتّش عن ذاته في مجتمع الصحراء، فتعلم الفروسية والقنص، مستمدا من قسوة الصحراء شجاعة وقوة انعكست على العديد من قصائده التي اتسمت مفرداتها ومعانيها بابراز القيم الرفيعة، وأصالة المجتمع البدوي وتقاليده وثقافته المتشكلة أساسا من مدرسة الصحراء، ومن جملة القصائد الشهيرة التي نظمها الشيخ زايد مستفيدا فيها من أجواء “القنص” في الصحراء، قصيدة بعنوان “يا طير وضبتك بتدريب”، يقول فيها: يا طير وضبتك بتدريب أبغى أصاوع بك هدادي لي طارن الربد المهاريب لي ذايرات من العوادي خل الهبوب تروح وتييب ريش شعيع عقب المصادي كما وردت أجواء الصحراء في قصيدة ثانية له بعنوان “يا بو جسيم الوقت ما فات” نقتطف منها: يابو جسيم الوقت ما فات بنسير بك سيرة هنية غية وفيها من الشراغات اطيور سرعات وحية متعلمات الصيد في أوقات ومدربات بالسوية ما شي شرد عنهن ولا فات صقارهن نفسه رهية بمقابل ذلك نجد أن كثرة من الشعراء قد استفادوا من قيمة وأهمية الصحراء في وصف الأشخاص ومدحهم ومن بينهم الشاعرة “بسيمة سليم عرب” التي مدحت الشيخ زايد “رحمه الله” بقصيدة بعنوان “قائد الفرسان” ومما جاء في الوصف: يا قاهر الصحراء حسبك رفعة جوّلتها تزهو على البستان أمست امارات يباهي شأنها مجدا تتيه به على البلدان ومن نماذج ذلك أيضا ما جاء على لسان الشاعر محمد بن هاشم الشريف بقصيدة بعنوان “من بالغ الوجد”: يا زايد الخير فاض الخير منبعه من كف جودك كالمدرار منهمرا زرعت صحراء فيها الجدب قاحلة غبراء لا يملك الانسان فيها عرا رياضة ورثاء وربما يكون الشاعر الدكتور مانع سعيد العتيبة من أكثر شعراء الامارات غزارة في نظم القصائد التي نهلت من فضاءات الصحراء الكثير، وبخاصة تلك الفنون التي اتسمت بها رياضة القنص بالصقور، ورياضة الفروسية، والابل وما تحفل به من تقاليد شعبية وروح انسانية تكشف عن ثقافة خاصة يتمتع بها محبي هذا اللون من الرياضات، ومن ذلك قوله: وسيسمع الليل الطويل قصائدي وتعيد لي الصحراء رجع حذائي فاذا قبّلت شهيد حبك فلتكن هذي القصائد في الغداة رثائي وفي رثائه لابنته “بشائر” ذات العامين، يستلهم العتيبة العديد من المفردات الصحراوية وبيئة المكان، بما تحتويه من حيوانات وطيور ورمال ورياح وغيرها، ليقدم لنا في النهاية صورة فنية مركبة يمتزج فيها الموت بروح المكان: بشائر ناداك قلبي أجيبي ولا تتركيني لصمت رهيب بشائر كانت غزالي الصغير وهذا الغزال كثير الوثوب وهاتي دموع العزاء فاني أرى الحزن ينشب أنياب ديب نجوم وبراري أما الشاعر صالح بن علي بن عزيز بن عبد المعين المطاوعة البومنذر المنصوري صاحب ديوان “فارس الشعر” فقد استلهم ثيمة الصحراء في العديد من قصائد الديوان وبخاصة قصائد “المساجلات” أو “المشاكاة” ومن ذلك قصيدته “ولا ضاع من يسري على نجمه ألياه”، ويسندها على صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وفيها نسمات من ريح البداوة، وفنونها وبخاصة شعر “الونة” بقوله: ويشوقني رزم العنا دوم وأرقاه وأجاذب الونّات في فنتلّه وأعوي كما ذيب ليا جر بعواه روس الجبال النايفة وأجبلّه كما يقول في قصيدته “يا عذابي نايم يا عذابي لي صحيت”، وفيها نلمح النجوم، وسير البراري، واشتعال النيران ورائحة القهوة العربية الاصيلة، وكرم أهل الصحراء ونخوتهم في الحفاوة بضيفهم بمفردات تؤكد تعبيره الصادق عن بيئته: يا عذابي نايم يا عذابي لي صحيت شفت نجم الليل دلّبح ونجم اسهيل بان وما حلى سير البراري ولقف الصيد هيت بالديار اللي عذيه وطاب الكيف زان وزين شرّاف المبادي اعصير وانتحيت وقايدك نشر الطوارف ورا ذاك الطمان وما حلى وقت المساء شبّ ضو عند بيت والدّلال اللي تخالف بهيل وزعفران عند ناس يكرمونك الى منّك لفيت لك تراحيب تقلّط مع حيل اسمان أما الشاعر عبد الله بن سلطان بن سليّم فقد حفل ديوانه “القريض” ـ من تحقيق وشرح الكندي مصبح الكندي والدكتور غسان الحسن وعلي مصبح الكندي ـ بنحو 38 قصيدة فيها ألوان من المفردات والمضامين التي تتغنى بالصحراء وتقاليد حياة البداوة وطريقة معيشتهم، يقول: على هذا ولي عين أتّوق اتخيل البرق وامطور الردود مضى وجت به البدوان فرّت على يوب الموارد للورود به الصملان مطوية وعنها تسدّ الدلو عن ورد القعود ندوي الطيبات بكل فيّه ولازم صوب موردها تعود ثقافة الصحراء اذا تقاطعنا قليلا مع “ثقافة ومتخيل الصحراء” في وجهها الابداعي الآخر، سنجد أن المنجز الاماراتي في هذا السياق متنوع ويحمل الكثير من الدلالات والمعاني، التي تجعل من الصحراء ركنا ملهما للمبدعين في كافة أشكال التعبير، ومن ذلك ما حققته امارة الشارقة من نجاح من خلال “مهرجان ثقافة الصحراء” الذي أطلقت دورته الأولى عام 2007 تحت شعار “كسر الحاجز بين الثقافة والجمهور”، وقد عبّر المهرجان في خلاصته على أن الصحراء مدرسة للحرية والكرامة، وأن الثقافة في الخليج ليست ثقافة بترول، ولا ثقافة طائفية، بل هي ثقافة مستمدة من شريعة سمحة تخاطب الآخر بخطاب ابداعي عقلاني. في جانب ثان فقد خصصت العاصمة أبوظبي لهذا المفهوم معرضا أطلق عليه “وردة الصحراء”، وانطلق العام 1998 وشهدت الدورة العاشرة منه استفادة نحو 17 طالبة من كليات التقنية العليا، من معطيات الصحراء كثقافة واطار انساني، في تشكيل جملة من الاعمال الفنية في مجالات: الجرافيكس والتصوير والفيديو والانتاج التلفزيوني والافلام الوثائقية والصحافة. ومن اهتمامات الامارات بالتواصل مع مفهوم هذه الثقافة، حرصت رسميا على المشاركة في أكثر من مهرجان دولي وعربي مخصص لدراسة علاقة التطور الانساني والحضاري ببيئة الصحراء، ومن ذلك مشاركة الشاعر والاعلامي المعروف خالد الظنحاني مدير بيت الشعر في الفجيرة في “مهرجان الصحراء الدولي” بمنطقة “دوز” بتونس عام 2008، ويهتم المهرجان بالشعر عموما، وبالشعر النبطي على وجه الخصوص، بالاضافة الى سباقات الهجن والخيول والعروض المتنوعة التي تربط الأصالة بالمعاصرة. وثمة أمر لافت في تنوع الابداع الاماراتي المرتبط بثيمة وصورة الصحراء، ومن ذلك الفنون التشكيلية من خلال اهتمام “مجلس دبي الثقافي” بالمشاركة في فعاليات “معرض لغات الصحراء لفناني الخليج”، في باريس، والذي انطلق مطلع شهر مايو من العام الحالي، واختتم أعماله في 9 يوليو من نفس العام، وذلك بمشاركة وفد الفنانين التشكيليين الاماراتيين برئاسة الدكتور صلاح القاسم الأمين العام لمجلس دبي الثقافي، بما يوحي بأن مفردة الصحراء مرتبطة ارتباطا وثيقا باللون والفرشاة وخيال الرسام، بل هي مفردة مستمرة وحاضرة من خلال رمزيتها في ظلال اللوحة بكل تفاصيلها. بموازاة ذلك لا نغفل الدور الكبير الذي تلعبه مسابقة الامارات للتصوير الفوتوغرافي من تنظيم هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، حيث تركز في جانب منها على “روح الصحراء”، حينما تفتح المجال لعدسات وكاميرات المصورين لالتقاط أهم المناظر التي تمثل وتعكس روح الثقافة البدوية في صحراء الخليج العربي، كما تترجم صورة الطبيعة في الصحراء وتنقل تفاصيل المكان بقسوة تضاريسه وجمال سكونه، للتعبير عن حياة مستوطن الصحراء وكائناته البرية وما تمثله من تناقضات مع الحياة المدنية في ظل التسارع الكبير الذي تشهده المنطقة. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أهمية مسابقة التصوير الضوئي التي تنظمها وحدة البحوث البيئية في نادي تراث الامارات، وقد اتخذت في دورتها الأخيرة من هذا العام شعارا لافتا هو “الصحراء تنبض بالحياة” لتعزيز فكرة ثقافة البيئة الصحراوية لدى الهواة من المصورين، بما يسهم فعليا في نقل تأثير الصحراء بمخزنها الطبيعي على رؤية المبدعين في هذا المجال. في السياق ذاته أنتجت لنا بادية الصحراء العديد من اشكال الفنون الشعبية ومنها: الونّة، وهي نشيد يأتي ضمن أدوار وأناشيد عروض “العيالة”، كما يعد “الرزيف” من أهم فنون البادية ويتميز بطابع الاهازيج والصياح كلما ذكرت في النّص كلمات تثير حماسة الرجال. ومن الوان الفنون الصحراوية المتصلة بالشعر، ما يعرف بـ “الطارج”، وهو غناء يتضمن أشعارا في وصف الطبيعة والحياة والاحداث العامة، أما “العازي” فهو غناء احتفالي يؤدى عادة في نهاية العرس البدوي، ويلحق بهذا اللون من الفنون الشعبية فن “التغرودة”، ويتضمن أناشيد واشعار يرددها الرجال وهم على ظهور الهجن مرتحلين عبر الصحراء، وتسمى في هذه الحالة بـ “تغرودة البوش”، التي تمتاز بلون جميل من الغناء الجماعي. وقد صدّرت لنا ثقافة الصحراء جملة من اشكال الفن الشعبي منها “السامري”، وعرف أيضا باسم الغناء الركباني الذي يؤدى بمصاحبة “الربابة”، كذلك فن “الردحة”، وهو نوع من الغناء الشعبي يصاحبه الرقص، وهو نوع من الغناء المرح يقتصر على النساء دون الرجال، بعد حفلات الزفاف ليلا، وهناك ما يعرف بـ “الحربية”، وهي رقصة من نوع “العرضة” و”العيالة” و”الرزيف” وتؤدى جماعيا، واشعارها تتسم بالقوة والحماسة. ومن الأشكال الأخرى “السحبة”، وهي رقصة تزخر بالاغاني والالحان الشعبية وتشتهر بمشاركة الرجال والنساء معا في صفين متقابلين بينهما ضاربي الطبول وأخيرا تشتهر بادية الصحراء برقصة “المناهيل” وتتضمن نوعين من الحركات الاول ويطلقون عليه اسم “الزامل” والثاني يسمونه “الشرح”. تنوع وتكامل ان صحراء الامارات غنية بثقافتها، وعميقة بانسانها، ومصادرها ومخزونها من العادات والتقاليد، وحتى النباتات الطبية التي شكلت ثقافة خاصة للعلاج والطب الشعبي، وفي هذا الجانب يذكر الدكتور عبد الله الطابور عن الطب الشعبي أو (الطب التقليدي) في الامارات “تجارب شعبية متوارثة في طرق العلاج والشفاء، وهو في مكوناته يرتبط ببيئة الامارات، والفكر الانساني الذي تشكلت ملامحه الحضارية وأصوله من الحضارة العربية والاسلامية العريقة، وهو جزء من الطب الشعبي العربي الذي مر بمراحل تاريخية عديدة حتى تبلورت فنونه وخصائصه”. ويضيف الطابور في هذا السياق: “فمثلا لهجة (البدو في الصحراء تختلف عن لهجة (البداة) في الجبل. وتلك اللهجتان تختلفان عن لهجة أهل المدن ـ الحضر”. ومن هذا التنوع في البيئة ونمط السكان نجد تنوعا كبيرا في التراث الشعبي والعادات والتقاليد، وكذلك في الطقوس العلاجية القديمة وفي مفردات اللهجة المحلية الدارجة سواء الشعبية بمفهومها العام وما تحتويه من ألفاظ ومصطلحات طبية، والتي هي أصلا لهجات عربية تشكلت نتيجة لعامل التفاعل والاحتكاك الانساني في المجتمعات القروية الصغيرة، وكذلك في مجتمع المدينة الكبير. أو الشعبية بمفرداتها الدخيلة على العربية والمحلية كالانجليزية والتركية والبرتغالية والهندية والفارسية والافريقية (السواحلية) حيث توجد في لهجة الامارات العامية الكثير من المفردات الاجنبية والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من اللهجة المحلية المتداولة في السنوات السابقة، حتى أننا نجد هنالك مفردات طبية غير عربية الا أن استخدامها المحلي أعطاها طابعا خاصا وميزة ولونا معينا له دلالاته ومفهومه. في الختام ان مفهوم “ثقافة الصحراء” ما زال يعيش اشكالياته، وما زال على مفترق طرق الافكار والرؤى المتضاربة حول ايديولوجية هذا المصطلح الذي ما زال بحاجة الى مزيد من الدراسة والبحث، لأن هناك كثيرون ما زالوا ينظرون الى هذا العمق الانساني بكل دلالاته وحمولاته كنظرة الرحالة المستشرقين اليه، وكأنه عالم غامض من الغيب والأرواح، أكثر منه عالما يسجل فيه الانسان حقيقته ووجوده. ان ثقافة الصحراء هي ثقافة انسانية بالدرجة الأولى، ثقافة انتجت فكرا تمتزج من خلاله اشكال عديدة من التعبير مثل الشعر وفن القول والحكاية، والأهزوجة والأمثال والالغاز وغيرها من التقاليد التي شكلت موروثا شعبيا تلقائيا صافيا، لم تعبث به ايدي الحداثة ولا اي تداخلات من تلك التي يشهدها الأدب في زحمة المدينة. شجرة صحراوية ديموقراطية من الدروس المستفادة من ثقافة الصحراء، ذلك الارتباط الوثيق بين أهل البداوة وشجرة الغاف التي تسجل اليوم رمزا للصمود الصحراوي، بما جعلها موضعا للتقدير والتكريم والاحترام باعتبارها رمزا وطنيا، له مكانة عظيمة في التراث المحلي، والحياة العامة، وقد حظيت هذه الشجرة العظيمة بوصف نادر من قبل الدكتور خليفة عبيد بن دلموك الكتبي الباحث من المنطقة الوسطى بالشارقة، اذ وصفها بالشجرة الديموقراطية في الامارات إذ درجت العادة في المساء أن يتوسط كل شيخ من شيوخ القبائل مجلسا تحت أشجار الغاف، ويعتبر بمثابة منتدى حرا لأبناء القبيلة، كما يحق لأبناء القبائل المجاورة الانضمام إليه دون قيد او شرط وحتى عابر السبيل يلقى كامل الترحيب به في هذا المجلس ويجتمع الجميع وتدور حول موقد النار فناجين القهوة وحبات التمر يتناقلون الأخبار ويناقشون أمورهم المهمة، وتروى في جلسة الحضور الحكايات والطرائف ويتحدث الأوفر حظا بالعلم عن قضايا دينية وأمور تاريخية ويحكي قصص الأنبياء والمسلمين الأوائل ويروي تاريخ العرب وتردد الاشعار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©