الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مُحطّم».. تمزّقات الجسد والذاكرة!

«مُحطّم».. تمزّقات الجسد والذاكرة!
14 سبتمبر 2011 22:05
شاعت في الفترة الأخيرة الأفلام التي يغلب عليها طابع (المايكرو/ حدث) أو (المايكرو/ حبكة) والتي تتناول قصة أفراد محصورين في أماكن ضيقة ويصارعون من أجل الصمود والبقاء، في ظروف أقل ما يقال عنها بأنها مأساوية ومدمرة للجسد والروح معا، وعندها تكون الذاكرة والاسترجاعات الحميمية هي السلوى أو الوقود الداخلي الذي يعين هؤلاء المعذبين على البقاء أحياء لفترة أطول، ومنحهم طاقة الأمل التي يحتاجونها كي يبحثوا عن خلاص وسط الأذى الجسدي والجحيم السيكولوجي المحيط بهم من كل اتجاه. إبراهيم الملا نذكر من هذه الأفلام الشريط السينمائي المروّع الذي قدمه المخرج الإنجليزي داني بويل قبل سنة من الآن وحمل عنوان “127 ساعة” ونقل من خلاله وبحرفية عالية الأحداث الواقعية الرهيبة التي عصفت بمتسلق الجبال الأميركي آرون رالستون، الذي انحشرت ذراعه تحت صخرة هائلة في صدع جبلي عميق ومقفر في العام 2003، حيث ظل يصارع طيف الموت وحيدا، ولخمسة أيام متواصلة، قبل أن يفلت من هلاك محقق وينفذ بجلده، ورغم ان الفيلم رشح لجائزة الأوسكار ذلك العام إلا أنه خرج خالي الوفاض مقارنة بالحصيلة الوافرة من الجوائز التي حصدها ـ وفي ذات المناسبة ـ فيلم داني بويل الأسبق: “المليونير المتشرد”. وهناك فيلم آخر قدمه قبل سنة أيضا المخرج رودريغو كورتيز بعنوان “مدفون” B ried والذي نرى فيه الشخصية الرئيسية في الفيلم وبدور تصدى له وبنجاح كبير الممثل ريان رينولدز، وهو يستيقظ فجأة في حفرة مغلقة وبملابس رثة وخاوية سوى من قداحة وهاتف خليوي، حيث نراه وهو يصارع وبشراسة للخروج من هذا القبر الخانق، الذي وضعته فيه مجموعة من المقاتلين العراقيين، معتقدين أن سائق الشاحنة المعتقل والذي يعمل لصالح القوات الأميركية قد مات، وبدلا من أن يشرع الفيلم في تفسير ظروف الاعتقال يذهب باتجاه مغاير تماما عندما يصور التبعات المفزعة لحالة الرهاب من الأماكن الضيقة، أو (الكلوستروفوبيا) والتي تظل تطارد بطل الفيلم في دائرة قاتلة من الرؤى المعتمة والكوابيس الصاخبة. الفيلم الثالث الذي يمكن استدعاؤه هنا كمثال على الإثارة التي تنشأ لوحدها في أماكن محصورة، هو فيلم المخرج جويل شوماخر الذي قدمه في العام 2002 بعنوان “حجرة الهاتف” Phone Booth مع الممثل كولين فاريل صاحب التنويعات الأدائية المتمايزة والمميزة أيضا، ورغم تعدد الشخوص المحيطين ببطل الفيلم، ورغم الاتساع المشهدي نوعا ما في فيلم شوماخر، إلا أن اختياره لحجرة الهاتف كفضاء مسيطر على مسارات الفيلم بأكمله، جاء أقرب إلى التحدي الفني لمخرج اعتاد التصدي لأفلام الحركة ذات الميزانيات الهائلة والمجاميع الكبيرة والخطوط الدرامية الممتدة والمترامية. حياة معطّلة أما فيلم “مُحطّم” wrecked الذي نحن بصدد تناول هنا، فإنه لا يخرج عن إطار التصنيف الخاص بـ (الأفلام المغلقة) هذه والتي تتناول الأزمات الفردية لشخوص جرفتهم أقدارهم ومصائرهم السوداء نحو شراك ومصائد مهلكة لا تتوفر على أقل قدر من الرحمة أو من هامش المقاومة الذاتية المطلوبة هنا بإلحاح واستماتة، والفيلم هو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج الشاب مايكل جرينسبان والذي اختار الممثل أدريان برودي كي يتحمل لوحده العبء الأدائي للفيلم بأكمله، رغم أن برودي قد خفت بريقه التمثيلي بشدة خلال السنوات الماضية وخصوصا بعد حصوله على جائزة الأوسكار في العام 2002 عن أدائه الملفت في فيلم “عازف البيانو” تحت إدارة المخرج الإشكالي والمحير رومان بولانسكي. يبدأ فيلم “محطم” باستهلال غامض وبلقطة مقربة جدا نرى فيها التفاصيل الدامية والملامح المتورّمة على وجه رجل مجهول الهوية ـ أدريان برودي ـ يستيقظ للتو من غيبوبته الطويلة على ما يبدو، والذي يكتشف تدريجيا أن جسده محشور في سيارة محطمة مع وجود جثة مقذوفة خارج السيارة وجثة أخرى مرمية في المقعد الخلفي، وتتفاقم صعوبة الموقف المتأزم هذا عندما نكتشف أن الحادثة العنيفة قد تسببت في فقدان الرجل لذاكرته، وعدم قدرته على تحديد أسباب ومبررات وضعه المأساوي والبشع، خصوصا وأن السيارة المحطمة قابعة وسط واد عميق في أحشاء غابة كثيفة ونائية. يبدأ الرجل تدريجيا في استجماع قواه والبحث عن ما يعينه على الخروج من السيارة المهشمة، أو على الأقل البقاء حيا لفترة أطول كي يعيد تجميع الصور الممزقة لوجوه وأماكن مغيبة وغائمة، باتت تومض الآن مثل فلاشات سريعة أمام ذاكرته المعتمة تماما، تتوافد وتتوارد هذه الوجوه والأماكن مثل لوحات تجريدية أمام ذهن معطل هو الآخر وغير قادر على استدعاء الماضي الشخصي وخيوط الزمن ومكونات المشهد الفاجع المحيط به، ومع اكتشافه لمسدس محشو قرب رجله المكسورة، وسماعه في راديو السيارة لخبر البحث عن عصابة خطرة قامت بسرقة إحدى البنوك في البلدة، تتوضح الصورة أمامه بعض الشيء، ويبدأ الرجل في ربط الأحداث، ولكنه يتيه مجددا عندما يبحث عن مبرر لوجوده وسط هذه العصابة، ولا يعرف إن كان هو مذنبا أو هو مجرد ضحية، وللإمعان في حالة التيه هذه يستدعي المخرج صورة شبحية لفتاة تربطها علاقة ما بالرجل، ومن خلال ردات الفعل المتوترة التي يبديها الرجل تجاه الفتاة، يقحمنا المخرج في متاهة أخرى حول طبيعة هذه العلاقة، فنحن لن نعرف أبدا إن كانت هذه الفتاة إحدى الضحايا التي خلفتها عملية السرقة، أو أنها عشيقة الرجل التي يسترجعها في اللاوعي أو في الخيال المضطرب لشخص يائس ومتألم لأقصى درجة. يبدأ الجزء الثاني من زمن الفيلم عندما ينجح الرجل في الخروج من السيارة والزحف بقدم معطوبة وسط الأعشاب والمسالك الشائكة في الغابة، ونراه وهو يتصادم ومن خلال خبرة قاسية مع الطرق البدائية للعيش والمقاومة الجسدية والنفسية، فتارة يهاجمه نمر هائج ونهم، وتارة أخرى يجرفه النهر إلى نقطة البداية ومن دون أمل في العثور على مخرج من الغابة، وفي مشهد آخر نراه وهو يصادق كلبا مشردا في الأدغال المحيطة به، ثم نراه وهو يواجه شبحا لرجل يحاول سرقة حقيبة النقود القابعة في الصندوق الخلفي للسيارة، وأخيرا نراه وهو يلجأ لأحد الكهوف في الغابة كي يحتمي من البرد والأمطار قبل أن يعثر على ممر ممهد وسط الأحراش يقوده في النهاية إلى الطريق العام، ومن ثم إلى درب الخلاص واكتشاف حقيقته المتمثلة في كونه رهينة اقتادتها العصابة قبل أن تميل بهم السيارة نحو الوادي العميق في الغابة. عموما فإن فيلم “محطم” ورغم بدايته الواعدة إلا أن إصراره وتماديه في نقل المتاهة الداخلية لبطل الفيلم أشاعت نوعا من الضبابية المشهدية المبالغ بها والتي رافقتها لقطات مكررة ورتيبة ما أثر على الخط التصاعدي لصراع البطل مع الطبيعة المتوحشة من حوله ومع الخيالات الموحشة في ذاكرته، وهذا الهبوط والانحدار والقطع الحاد للمسار الدرامي للعمل، جعل الإيقاع العام للفيلم بطيئا ومتثاقلا رغم الأداء المميز والقدرات الخاصة التي يتمتع بها الممثل أدريان برودي، ولعل المأزق السردي الذي تسبب به كاتب السيناريو هو الذي نقل الفيلم من منطقة التجسيد البصري الثري، إلى منطقة أخرى من التجريد الباهت والهذيان القاحل، كما أنه حوّل نسيج وبنية قصة مثيرة في تناولها لفكرة العزلة البشرية، إلى مجرد نسيج مفتت وبنية متهالكة في معالجة سينمائية هزيلة وفقيرة وفاقدة للتركيز، وغير قادرة أيضا على خلق الجاذبية المشهدية والإثارة البصرية البديلة والمتلائمة مع هكذا قصص وحالات ومواضيع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©