الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

باحث أفريقي يخوض في فضاءات أولاد حارتنا لنجيب محفوظ

باحث أفريقي يخوض في فضاءات أولاد حارتنا لنجيب محفوظ
4 مارس 2009 23:18
وسط أكثر من مائتي باحث أفريقي في العلوم الاجتماعية، وعناوين شتى لأوراقهم المقدمة إلى مؤتمر عام في ''ياوندي'' بالكاميرون حول: ''إدارة الفضاء العام في أفريقيا'' ألٍقى الدكتور عبد الحفيظ آيندي الأستاذ بجامعة إيبادان بنيجيريا بحثا عن ''الفضاء العام والخاص وما بينهما عند نجيب محفوظ··· قراءة في أولاد حارتنا''· وقد شدني البحث والباحث بالطبع، منذ أعلن الأستاذ ''أفيس'' ـ هكذا يسجل اسمه العلمي ـ أنه سيتناول موقع ''القوة والمنزلة والسلطة'' فى مجتمع شمال أفريقيا، كما تعبر عنه وقائع ''أولاد حارتنا'' وتراث المجتمع العربي الأفريقي في هذه المنطقة· كانت هذه المساحة التي اختارها الباحث النيجيري لبحثه لافتة بحق منذ البداية، خاصة، والمؤتمر يدور حول جوانب مختلفة لمقولة الفضاء العام والخاص في المجتمع الأفريقي، منطلقاً من مقولات يوجين هابرماس أحد مفكري علم الاجتماع النقدي ومدرسة فرانكفورت عن ''الفضاء أو المجال العام''، وتفاعل عناصر المجتمع الحديث، أو التحديثي داخله، منتقلاً بالفضاء الفردي إلى الجماعة الاجتماعية عبر قوى المجتمع المدني، لتأسس الدولة الديمقراطية، أو في مواجهة التسلط من الدولة والمجتمع على السواء· وفى هذا الإطار برزت مقولات ''هابرماس'' عن ''التواصل التفاعلي'' الذي تلقفته جماعة علوم الإعلام والسياسة والاجتماع على نطاق واسع؛ ليصبح ''هابرماس'' ''موضة العصر'' في مواجهة العقلانية التقنية والفلسفة الوضعية واستبداد العولمة الرأسمالية على الإنسان الحديث· وحيث تتلقف مؤسسات العالم الثالث بدورها ''موضات العصر'' باهتمام متزايد، فقد صار موضوع ''الفضاءات الهابرماسية'' مرجعاً لبحوث المؤتمر، عن القبيلة واللغات والتراث والسلطة والدولة والديمقراطية في أفريقيا··· واحتل الأدب واللغة بالفعل مكاناً بارزاً فى ''فضاء المؤتمر''، لأنه أحد أدوات ''التواصل'' والصراع بشكل كبير في مجتمعاتنا الأفريقية، والأفريقية العربية· لم يخطر ببال الحاضرين العرب الشماليين، وهم قلة، أن يكون الأدب العربى موضع مناقشة في ''ياوندي'' حتى فاجأنا عبد الحفيظ آيندي بهذا العنوان· بل إنه منذ البداية فاجأ المؤتمر كله بإعلان شبه ''بياني'' يقول ''إننا بدلاً من البحث عن أصول الخطابات عن الفضاء العام في أفريقيا عند باحثين أوروبيين، يفضل أن نلجأ إلى مصادرنا وتراثنا الثقافي''· بين محفوظ وهابرماس ومن هنا نجد، من وجهة نظر الباحث، أن البحث عن ''الفضاء العام وتفاعلاته'' في عمل مثل الذي قدمه نجيب محفوظ، ''أولاد حارتنا''، منذ عام 1959 يتفوق على طرح ''هابرماس''، لأنه يبدو أكثر صلة بالفلسفة والواقع الأفريقي·· وفى تقدير عبدالحفيظ آيندي أن وضع الكاتب في الشمال الأفريقي، في ثقافة تمتد لعشرات القرون، يعتبر متميزاً عنه في ثقافات أخرى كثيرة؛ نتيجة ما لاحظه من استمرار حقائق الصراع بين ''الوطني'' و''الديني'' و''الأدبي'' في العالم الأفريقى، واتخاذ الكاتب العربي الحديث مثل غالب الأقدمين وضع ''الما بين بين''، مُرجعاً ذلك من وجهة نظره إلى سيادة التجربة التاريخية عن العرب وتراث القول بمفهوم ''المنزلة بين المنزلتين''، كما عبر عن ذلك واصل بن عطاء ليطبقه أيضًا على الجماهير ''الوسط''؛ أي على الفضاء الذي يضم في رأيه أبناء المجتمع ''غير اللاعبين'' في الساحة، لكن تحكمهم ثقافة المجتمع التاريخية كما يرى ابن خلدون··· والباحث النيجيري الذي يرى أن الفضاء العام الاجتماعي، لم ينشأ في المجتمع العربي، كما فى الغرب، في القرن الثامن عشر فقط على نحو ما يقدمه ''هابرماس''؛ وإنما نشأ الفضاء العام الخاص كما يعرضه مجتمع نجيب محفوظ، منذ القرن السادس؛ في المسجد والسوق والبيوت الكبيرة، مقابل المقدس في الفضاء الخاص والعام على السواء· فإزاء حملات العسف من قبل الحكام، أو استخدام الفتاوى صالحة أو طالحة، للعدوان على الفضاء الخاص؛ نجد العلماء والعارفين، وقد انغمسوا في الدفاع عن المقدس، وإذ به هو نفسه الفضاء الديني والسياسي، وهذا هو الفضاء الذي شغل نجيب محفوظ أيضاً في ''أولاد حارتنا'' فوجده فضاء/ مجتمعا مراوغا لكنه مقنع وغائي في نفس الوقت، مليء بالانقسامات والتناقضات، ومتيح لفرصة الإبداع أيضًا· ففى الواقع السياسي الاجتماعي يعيش المبدع في الفجوات التي يعيشها العامة بين الديني وغيره من الفضاءات الأخرى (السلطة)، ونتيجة إبداع فضاء ''البين بين'' يعيش المبدع العربي مثل نجيب محفوظ في منزلة بين المنزلتين، بين الخاص (الديني) والعام، أي في أجواء إدارة الفضاء العام (البيت الكبير)· وينقل عن نجيب محفوظ قوله ''إنك عندما تكتب تصبح ''قوة''، وعندما تؤلف تكون قد أصبحت ''سلطة''··· ويعتقد عبدالحفيظ أن المجتمع المصري الذي يعبر عنه محفوظ في ''أولاد حارتنا'' مجتمع لا يفصل بين القضية العامة والتصورات الخاصة للحياة الصالحة· فهذا الفصل هو ما يفعله المجتمع الغربي الذي أوحى لـ ''هابرماس'' بنظرياته عن الفضاءات الاجتماعية، ذلك أن المجتمع عند معظم الكتاب العرب ومنهم نجيب محفوظ يقوم على عدة ثوابت متداخلة: قدسية الإله، تميز الأنبياء، تبجيل العلماء· وحيث يتداخل الديني والسياسي، فثمة ضرورة لطاعة أولي الأمر (في المكانة الأعلى) ما لم يطلبون معصية الرب· لكن أصحاب المقدس عندما يحنون للخاص، الديني، باعتباره حنيناً للتغيير، يصبحون في حالة الارتباك ولا يجدون أمامهم إلا الفضاء الثالث؛ ''البين بين''· وهنا تبقى ثنائية الخاص والعام ذات فضاءات متواصلة لتشكل الوسط الثقافي، ويبرز دور ''العارفين'' في مساحة ''البين بين''، وفيها يبرز ''الديني'' مع ''الأدبي'' أيضاً، ويقرب ''العلماء'' والكتاب في لحظة ما بين الفضاءين مع الاقتراب من الدولة أو الخروج عليها· ويلاحظ آيندي أن محفوظ ينتبه إلى إمكانيات التصدع في المجتمع، وإسكات عدد من الفضاءات الشعبية (جماعات تضم الفقراء والمرأة والأطفال) في مواجهة المتميزين، لكنه مع انتباهه هذا يقف بالفقهاء والفنانين في منطقة وسط بين الفضاء العام والخاص، بين الديني والسلطوي والأدبي· خارج السلطة وداخلها ومثل هؤلاء العلماء والعارفين يكونون غالباً خارج نطاق السلطة بينما هم في الواقع يدافعون عن السلطة، مع دفاعهم عن المقدس والديني، وقد يرتبك الديني في المساحة بين السلطة والمقدس فيؤدي ذلك إلى الثورة أو ''الوضع الثالث'' كما تسميه ''حنا أرندت''· وعندما يصبح المثقف متوقفاً عند عالم ''المابين بين'' يصبح موضع اتهام من قبل الفضاءين السلطوي، والديني· وينقل آيندي إحساس محفوظ بذلك من مقابلات مباشرة بين نجيب محفوظ وكتاب مثل جمال الغيطانى وغيره· وتترى أحكام الباحث على نجيب محفوظ من حيث وضعه في منطقة ''البين بين'' هذه ويعتبره في ''أولاد حارتنا'' قد نجح في استعمال الديني والتحرر منه في نفس الوقت، لأنه يبدو صديقاً للمقدس وليس عدواً للقيصر، إذ إن فضاء ''البين بين'' معلق بكثير من الميثولوجيا، ولذا يمكن أن يبدو محايداً دون أن يكون هو كذلك صراحة (نقلاً عن أقوال لنجيب محفوظ) وهذه الحيادية هي التي تجعل ''أولاد حارتنا'' مثالاً لتناول الفضاء العام والخاص و''البين بين'' في المجتمع· تحرص رواية ''أولاد حارتنا''، كما يقول الباحث، على ثنائيات رمزية، في المقاربة الدينية والأدبية أو الاجتماعية، ومع تطور وعي شخوصها يبرز مطلب النظر العقلي، وتحليل الرمزية الدينية· فهي رواية من مائة وأربع عشرة فقرة أو فصلاً، ويقابل ذلك نفس عدد سور القرآن، لكن محفوظ يقدم الحفيد عرفة (رمز المعرفة والعلم) ليتخلص من الجبلاوي الأب على نحو صياغة ''فوكو'' لموت المقدس· ونجيب محفوظ نفسه يجعل ''البيت الكبير'' بعد موت ''إدريس'' و''أدهم'' يتحول إلى فضاء للقهر والرعب من أصحاب السلطة والقوة ضد جمهور ''البين بين'' لصالح الأوصياء أصحاب ''المنزلة''، حيث يتميز عرفة هنا بمعرفة سر الكتاب الذي استولى عليه أدهم من قبل وجعل منه أداة لممارسة البطش في الحارة· بل إن محفوظ في الخلاصة يرى أن العلم والمعرفة لا يستطيعان وحدهما تغيير المجتمع والناس، لكنها ''القوة'' و''الحكمة'' و''العمل الجماعي'' هي التي يمكنها ضمان المساواة والسلم والتعايش، وهي نفس نظرة ''هابرماس'' عن دور التواصل في خلق الديمقراطية والحداثة التنويرية، وهذا مطلب الفضاء العام الاجتماعي في النهاية· معنى البيت الكبير وفي اعتقادي أن هذا سبب نظر عبدالحفيظ إلى تميز محفوظ عن هابرماس في رؤية تفاعلات ''الفضاء العام''، ومن أجل هذ التصوير، يعرض عبد الحفيظ آيندي معنى البيت الكبير في رواية ''أولاد حارتنا''، كفضاء يضم الحكم وبيت المال، والأغنياء والفقراء، كما يضم محبي الجبلاوي وكارهيه· وفي حفل الزفاف يصبح البيت امتداداً للشارع والسوق، بل يتزوج فيه أدهم، مدير البيت الكبير، بالزنجية أميمة، التي تقدم صورة المرأة في المجتمع في وقوفها إلى جانب زوجها وتيسير معرفته بسر الكتاب، بل أن المرأة تمثل أحياناً رمزية الألوهية والدين معاً، ويسجل الباحث النيجيري بالتقدير كيف خالف نجيب محفوظ هنا تقاليد عرب شمال أفريقيا الذين يميزون ضد السود حيث أدهم من أم زنجية، ومفروض ألا يكون عارفاً بالحساب مصدر القوة لكنه يصير حاكماً رغم اعتراض إدريس، رمز الطبقة العليا أيضاً والتي تعتبر اللون (الأسود) مؤثراً على قدرة أدهم على حكم البيت الكبير· عندما يعود الباحث إلى إشكالية القوة والسلطة، يبدأ بأن ينقل عن الابشيهي في: ''المستطرف في كل فن مستظرف'' قوله ''إن السلطة كراكب الأسد، يخشى منه الناس وهو الأكثر خوفاً من ركوبته''· وذلك ليعالج الباحث الفرق بين ''القوة والسلطة'' في الفضاء العام، الباحث يرى أن ''السلطة'' كانت في يد أدهم ''تدير وتسوس'' الناس، ولكن ''القوة'' في يد الجبلاوي كانت ''تستعمل'' لتحكم الناس· وعندما يقدم الجبلاوي ''أدهم'' على ''إدريس'' رغم الصيغة التقليدية للأقدمية والسن واللون كما جاءت في احتجاجات إدريس؛ فلأن هذه عند محفوظ هي حقائق المجتمع المصري؛ حيث الدين رمز الهوية والقدرة على تجاوز الحاكم للقواعد، وأما العلم فهو أسئلة المستقبل، وكان محفوظ في منطقة ''البين بين''! فهو يقبل ـ في رأي آيندي ـ الله والسحر والعلم! لكنه يهتم بتصوير محفوظ للجمهور حين يفقد التوازن بين الفضاءات، إنه يقفز من النسق العادي إلى انساق غير عادية (العقاقير، الإرهاب، الشحاتة) وذلك في تقدير آيندي لأن محفوظ مثل الطيب صالح يرى أن البرجوازية هي التي تدفع الناس لذلك فتختل الفضاءات وتحدث الثورات· ولأن محفوظ من فضاء ''البين بين'' فإنه يرى التصدع فيما بين الفضاءات، تصدعاً بين فضاء الفرد والدولة، بسبب تصدع آخر نتيجة اقتران السلطة بالدين، أي العام بالخاص، ليبقى دور الفقهاء (المثقفين) باعتباره فضاء ''البين بين'' كما يراه الباحث في ''أولاد حارتنا''· وفي رأي الباحث أيضاً أن نجيب محفوظ هنا أقرب إلى ''ابن القيم'' في نظرته إلى التوازن بين الحاكم والدين والقضاة أو الفقهاء وجمهور المؤمنين، فالسلطة والعلماء يتوافقان لإدارة الفضاء العام باسم الرب، وحين يحدث الصدام يلجأ أحد الطرفين إلى ثقافة المجتمع التاريخية (القهر أو العنف) التي تحدث عنها ابن خلدون، أو هو ''الطريق الثالث'' الذي أشرنا إليه·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©