الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فؤاد التكرلي·· سيرة قاضٍ

فؤاد التكرلي·· سيرة قاضٍ
21 فبراير 2008 01:26
رحل الأسبوع الماضي الروائي العراقي فؤاد التكرلي عن عمر ناهز الـ81 عاما وقد ترك خلفه اثرا ابداعيا قل نظيره·· ترك مأساة ملحمته الشهيرة ''الرجع البعيد''·· تلك الملحمة التي روت تاريخ العراق المعاصر وتحولاته المأساوية في أدق فترة من فترات سجله الدموي الذي امتلأ بالانقلابات العسكرية والحروب والتقاتل الداخلي· رحل فؤاد التكرلي القاضي الذي عرك الحياة الاجتماعية وتشكلات بنية المجتمع العراقي من خلال عيني قاض وقاص وروائي كلها اجتمعت في بؤبؤ واحد لم يستطع التحديق إلا وهو ينزف دما لا دمعاً، كان جيله قد ارتكز على ثلاثة أقانيم (عبدالملك نوري ومهدي عيسى الصقر وفؤاد التكرلي) أعمدة القصة الخمسينية الثلاثة، كلهم ارتحلوا وقد تركوا ارثا ابداعيا سجل خمسين عاما من التحولات في البنية الفكرية والاجتماعية والانسانية للفرد العراقي· رابعهم القاص والروائي محمود عبدالوهاب، لايزال فتى شابا وقد ناهز التسعين عاما يروي حكاياتهم بكل بهجة وكأنهم لايزالون قربه، ربما يقبع أحدهم في كتاب يحمله عبدالوهاب بكل حنو الآن· ولد فؤاد التكرلي في بغداد 1927 في منطقة باب الشيخ وهو حي معروف أرخه في رواياته وكتب عنه بكل تفاصيله مثلما كتب بدر شاكر السياب عن نهر جيكور الذي لم يتعد المترين عرضا فصار في شعره اسطورة· منذ البدء ارتحل فؤاد التكرلي مع المعرفة فحذا حذو اخيه القاضي الذي صار وزيرا للعدل وتخرج فؤاد من كلية القانون ليصبح بعد جهد طويل قاضيا، ولأنه القاضي فكان مستحيلا حقا ان يستوعب الانسان العراقي البسيط ان يكون هذا القاضي قاصا ''والله عيب قاضي ويكتب قصص''· في بعقوبة استلم دار القضاء فكتب من هناك قصته الأولى ''العيون الخضر'' ثم بدأ في انتاج نصوصه القصصية القصيرة ''التنور'' و''الطريق الى المدينة'' و''موعد النار'' و''الصمت واللصوص'' و''الغراب'' و''القنديل المنطفئ'' و''الدملة'' وغيرها الكثير·· إلا أن عمله القصصي الطويل ''الوجه الآخر'' كان انعطافة كبيرة في تناول الشخصية المثقفة التي تتأرجح بين الفكر والمبادئ والسلوك·· فقد كشف الكثير عن بناء هذه الشخصية ''محمد جعفر'' في تكوينات المجتمع العراقي· في الثمانينات من القرن الماضي كتب ''الرجع البعيد'' وهي الرواية الطويلة التي أرخت لفترة أواخر حكم عبدالكريم قاسم، حيث تناولها بحس واقعي عالٍ وبمكون بنائي صارم ينم عن ذكاء مفرط في التلاعب بالشكل بما يطابق المحتوى· ثم جاءت روايته ''خاتم الرمل'' لتؤسس مفاهيمه ازاء الحياة والذات المتشظية وبعدها كتب ''الأوجاع والمسرات'' وهي بحق تكملة لهذا الرصد البانورامي لواقع التحولات السياسية الكبرى وتشكلاتها التي عاشها الانسان العراقي إبان الستينات حتى الثمانينات من القرن الماضي· وجاءت أخيرا روايته ''اللاسؤال واللاجواب'' ليعيش فؤاد التكرلي مع الناس في همومهم اليومية والمعاشية ليكتب عنهم، عن مآسيهم وأحلامهم بلا سؤال أو جواب وكأنه أراد أن يقول: هذا هو الواقع فلا تسألوا كيف حدث هذا، فلا جواب سيأتي·· بل تبقى الواقعة كما هي وكما حصلت بدون امكانية الاضافة اليها· لقد كان القاضي فؤاد التكرلي أمينا للواقع، للتربة العراقية بمفهوم القص المحلي حتى ان روايته ''الرجع البعيد'' عندما حوّل حوارها الى الفصحى بعد ان نشر بالعامية العراقية في طبعتها الاولى، بدا ذاك البريق المحلي يخفت ويضيع في سدى الكلمات المنمقة، انه شاعر العامية في حواره، أستاذ الفصحى في سرده، معلم التصوير في وصفه، بناء الجمل في تراصها ووحدتها، منسق الزهور الجميلة في عباراته المتلاحقة وهي تدفع بعضها بعضا وكأنه لم يوجهها الى طريق أراده بل هي التي توجه قلمه· فؤاد التكرلي كان قد عالج القرى فكتب في شخوصها ودخل أزقة المدينة فتحسس جدرانها ووشم روائحها في الكلمات·· جاس ظلام الشوارع الخلفية في بغداد، وصف مقاهيها ''حسن عجمي''، ''البرلمان''، ''الزهاوي''، رسم أعمدة شارع الرشيد وفضاءات شارع المتنبي، كتب عن شخوص بغداد الأزليين، لم يترك جسراً إلا وقد داسته أصابع الكلمات· كان القاضي الصامت يبصر كل شيء، يرى أوجاع النساء العراقيات وهن يفارقن بيوتهن مطلقات، مأزومات، مقهورات، باكيات عند طاولة القاضي الذي لم يكتف بالورق أمامه ليحكم فيهن، كان يكره أن يقرأ ملفات القضايا، كان يشعر بالوجع فيأتي داره مأزوماً هو أيضاً ليعشق الورق الذي كرهه قبل ساعات فيسطر فوقه مآسي أولئك النساء· كل القصاصين العراقيين عشقوا فنه، كلهم يتذكر جبار وأم جبار وهيله في ''القنديل المنطفئ''، كلهم يتذكر حليمة في ''التنور'' ومدحت ومديحة في ''الرجع البعيد'' وتوفيق في ''الأوجاع والمسرات''· شخوص لم تكن إلا في خيال فؤاد التكرلي·· لا تدري أهي موجودة في ملفات القضايا التي عاشها، حكم فيها، أم انها استبدلت؟ لا أظن أن فؤاد التكرلي وهو الأمين للواقع كان قد استبدل أسماء شخوصه، كان التكرلي أكثر الواقعيين واقعية، وأشد الاشتراكيين اشتراكية، كان يكره النظريات الفكرية على الورق ويؤمن بها على الورق عندما يكتب قصته بوجع الرجال المدفوعين برغباتهم المكبوتة وهم يكسرون حتى نواميس الكون، قوانين الطبيعة انهم عتاة، جبابرة، تقودهم شهواتهم الى افتراس النساء الضعيفات الى تمزيق حجب الطبيعة الصارمة، كان التكرلي الفاضح، الحاكي الذي لم يبق لهؤلاء شيئاً· غادر التكرلي مثلما غادر الكثير من مبدعي العراق·· هاجر، الى تونس ومنها الى سوريا ثم الى عمّان·· وبين قلة من العراقيين الذين شيعوه الى وطنه الجديد، قبره، كان هناك شخوص وهميون يرفعون نعشه، لم يشعر بهم المشيعون·· انهم جاءوا من ملفات قضايا المحاكم التي أنصف فيها التكرلي المظلومين·· بينما تقف هناك عشرات النساء العراقيات على أرصفة عمان يبكين بحرقة وينثرن شعرهن المتهدل، فقد خرجن تواً من ملفات المحاكم الصفراء ليودعنه الوداع الأخير·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©