السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذاكرة خربة ترمي بالصور ..

2 يناير 2013 20:38
من دون إنذارِ مُسبق. توقفت السيارة الفارهة أمامه.. و بيدين مرتعشتين ملأتهما التجاعيد والخوف .. اتكأ، بيمناه إلى عكازه الأبنوسي المعقوف في يده.. ويده الثانية تضغط بالحقيبة السوداء وكتابان جديدان إلى صدره .. لم يمُر على احتفاله بعيد ميلاده الثمانين غير يومين.. وبالرغم من ذلك مازال يحتفظ بقوام شبابي ووسامة تبقى منها ما تبقى وذهب منها ما ذهب.. والسبب في ذلك مُمارسته الرياضة لأكثر من ستةٌ عقودٍ مضت .. وقف ببنطاله الأسود وقميصه الشيفون الأبيض المحشوّ بداخله.. وضع راحة يده المرتجفة إلى يد عصاهُ التي كانت معلقة على يده أثناء مسيره . وأسدل رأسه لينظر من فوق نظارته الذي كره لبسها مراراً وتكراراً .. وقبل أن ينتهي به المطاف إلى الضفة الأخرى للإسفلت .. أذهلهُ صوت صرير عجلات السيارة الفارهة وهي تعُض بنواجذها الأربعة بقوة لتتوقف دفعة واحدة دون حراك .. وبخطوات رياضية أبهرت من هم بداخل السيارة .. ارتقى الحاجز الأسمنتي الفاصل بين ضفتي الاسمنت ووقف تحت ظل شجرة ظليلة شامخة في شارع النيل لا يقل عمرها عن ثلاثمائة سنة ... وطالما جلس تحتها وعلى الكنبة الأسمنتية نفسها أيام شبابه الذي لا رجعة إليه أبداً إلا في ذاكرته الخربة. تأبط حقيبته السوداء جيداً ومن ثمْ أخرج منديلاً وراح يجفف بعض قطرات العرق.. تراءى له من بعيد فتىً اسمر وسيم الطلعة يترجل من السيارة الفارهة ويتجه نحوه بخطوات ثابتة.. كاد قلبه أن يقفز من مكانه.. كلما زادت خطوات الفتى نحوه.. زادت ضربات قلبه وعندما صار الفتى بمقربة منه همّ هو بالجلوس على الكنبة الأسمنتية. بعينيّ نسر هرم ضاقت بهما الأجفان حملق في وجه الفتى.. واخذ يقلب شريط ذاكرته الخربة باحثاً عن هذا الوجه المألوف الذي يعرفه ولا يعرفه.. قال لنفسه وهو يناظر ناحية النيل: «متأكد بأنني قد رأيت وجه هذا الفتى من قبل؟ لكن أين ومتى؟ .. أين … آه لقد صرت عجوزاً بحق.. وإلا فقل لي من هو ذا صاحب الوجه الذي تألفه ولا تقدر على تذكره ...». خلع نظارته ومسح جفنيه بالسبابة والإبهام وعاد يحادث نفسه بنفس حار من جديد: «لم تعد تتذكر يا الشامي؟ أنت خلاص كبرت ولا تذكر غير برج القذافي هذا!! الذي كان مكانه حديقة الحيوانات قبل أكثر من خمسين سنةٍ مضت.. نعم الحديقة التي كانت تتدفق عليها الأسر أمسية الخميس ويوم الجمعة بأكمله.. تتذكر ذلك لأنك كنت هُناك تعاكس البنات.. آه من الزمن ..». سرعان ما عادت ذاكرته الخربة تعمل بصورة جيدة جعلت الصور تنداح أمامه.. توقفت صورة الفتى الذي يقف أمامه وهو طفل صغير أيام كان يسكن هو بجوارهم.. تبسم العجوز وهو يعيد النظارة مكانها.. وقال للفتى: أنت محمد حفيد العم أحمد عُشاري الذي كنت اسكن بجواره بحي أبوسعد قبل عقودِ مضت. انتفض من مخيلته على صوت (البوري) وأزيز زجاج السيارة المنسدل.. وهسيس الباب الرتيب الذي طل منه وجه لفتاة غاضبة تشد رضيعاً من كتف إلى كتف.. لم تكن سوى هِبة، الطفلة الأولى التي وهبها الله لتلك الأسرة. رمى بصرهُ فوق صفحة النهر الجارية وعاد يحدث نفسه بنفسه: ترى ماذا يدور في مخيلتك يا محمد الفاتح؟ اذكر جيداً إنك كنت فتىً ذكياً.. ولطالما، كنتُ أتوقع لك مستقبلاً يليق بك، أعلم بأنك تريد أن تسألني ذات السؤال الذي كنت تسألني إياه: أين أحفادي؟.. حينما كنت أجلس أمام بيتي على كرسي واضعاً رجلي اليمين فوق اليسار .. وعن يميني (تربيزة) عليها (كباية ) شاي الحليب الذي أحب شربه قبل دخول المغرب وأنا أتصفح الجريدة بقدسية.. كنت وقتها أنت وحسام وأحمد تلعبون بالكرة في الشارع أمام البيت.. وجدك أحمد عُشاري يراقبكم بوجل، وترمي علي أنت بالأسئلة مراراً وتكراراً يا محمد.. ما شاء الله كبرت الآن وصرت رجلاً .. توقف الرجل عن الحديث وكأن شيئاً يخنقه، بلع ريقه وعاد يكلم الفتى واضعاً يد فوق يد على يد عكازه: “أما أنا فلم اترك الكتب حتى الآن. انظر لهذين الكتابين الجديدين لم أترك القراءة ولا الكتابة منذ ذاك الوقت الذي كنت فيه أنت ابن الخامسة وإلى يومنا هذا...». صلحَّ الفتى سُترتهُ وصعد إلى سيارته الفارهة ودخل في (high way ) الملتوي الذي يخرج من شارع النيل ويطير بين البنايات التي قفزت فوق غابة السنط إلى أن غاب عن عيني العجوز الذي جلس على الكنبة التي طالما جلس عليها أيام شبابه.. ووضع الكتابين في حجره ورفع رأسه ناظراً لقمة الأبراج التي ارتقت في جزيرة توتي. وتدحرجت من عينه دمعة سالت على خده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©