الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

ليبيا من فوضى الثورة إلى سيادة الدولة

ليبيا من فوضى الثورة إلى سيادة الدولة
30 ديسمبر 2018 02:45

حسن المختار:

في يوم 24 ديسمبر، ذكرى استقلال ليبيا، كتبتُ في العام الماضي قراءة سياسية موسّعة في المشهد الليبي رصدت فيها جوانب من تاريخ البلاد، وخلفيات الثورة التي عرفتها في عام 2011، وصولاً إلى التعقيدات والتحديات الطاحنة التي جرت خلال قرابة الثماني سنوات الماضية، اللاحقة على ذلك. وفي نفس اليوم، 24 من شهر ديسمبر الجاري، بدأت أيضاً كتابة هذه القراءة ضمن زيارة أخرى جديدة لاستطلاع ما جدّ في المشهد الليبي طيلة عام، وكانت المفارقة هي ذاتها، أن كل التحديات التي كانت متراكمة العام الماضي، ما زالت على حالها اليوم، دون تغيير أو تبديل، نفس التحديات، ونفس الرهانات، ونفس الفاعلين والوجوه والأسماء، ولا جديد تحت السماء. فلا العنف الطليق بين المليشيات والمجموعات المسلحة تراجع، ولا الاستقطاب السياسي بين القوى المتنافسة تم احتواؤه، ولا جهود المبعوث الدولي غسان سلامة تمكنت من زحزحة استعصاءات هذه الأزمة المزمنة، ولا الاستياءات الشعبية الداخلية الواسعة، والضغوط الخارجية المتكاثفة، تمكنت من إحداث اختراق في جدران هذه الأزمة، المتطاولة، ولا بصيص أمل جديد يظهر حتى الآن في نهاية النفق.
وتتحه أنظار الليبيين الآن إلى جهود المبعوث الدولي غسان سلامة المتواصلة الرامية لحشد حد مناسب من التوافق على تنظيم مؤتمر وطني، واستحقاق انتخابي رئاسي وتشريعي من هنا وحتى فصل الربيع المقبل، وبحد زمني أقصى إلى شهر مايو 2019، بعدما حالت الظروف الأمنية غير المواتية، وشدة الاستقطاب السياسي، دون تنظيم أي من هذه الاستحقاقات الانتخابية المصيرية في منتصف العام الجاري، وأيضاً في شهر ديسمبر الجاري الموشك على الانقضاء. ولم تنفع في ذلك المؤتمرات المتلاحقة في باريس وباليرمو، واللقاءات المهمة بين بعض قيادات أطراف الصراع في عواصم عربية عديدة، خاصة أن الجهود الإقليمية والأممية والدولية تستهدف من تسريع الاستحقاقات الانتخابية ظهور قيادة قوية منتخبة، قادرة على العبور بالبلاد من فوضى صراع المليشيات والشرعيات، وأوضاع «الدولة الفاشلة»، إلى حال الاستقرار والإعمار، وسيادة سلطة الدولة الطبيعية، القادرة على أداء مهماتها الوطنية والدولية بكفاءة وفعالية. وقد أظهرت قواعد بيانات وإحصاءات صادرة عن الأمم المتحدة أن 80% من الليبيين يؤيدون بقوة تسريع إجراء الانتخابات لكي تظهر قيادة منتخبة محل إجماع وتوافق وطني، وذات شرعية وطنية و«دولية» غير متنازع عليها.
وهذا هو البديل الوحيد، لأن استمرار الأزمة الليبية حوّل اجترار وتكرار ذات السرديات والاتهامات والاتهامات المضادة والتطلعات والتظلمات، بين أطراف الصراع الليبي، إلى ما يشبه الدائرة المفرغة التي يستعصي معها فهم خلفيات كثير مما يجري، ولا يبدو أن المسافة بين هذه الأطراف تزداد إلا تباعداً وتباغضاً واستعصاءً على التفاهم والتقارب، على رغم كثرة ما عُقد من مؤتمرات ولقاءات، وما بذل من وساطات إقليمية ودولية، من اتفاقات الصخيرات قبل سنوات، إلى مؤتمر باليرمو الأخير، وما بينهما من جهود ومساعٍ دولية وإقليمية، لا أول لها ولا آخر. وهو ما يحيل، مرة أخرى، ومرات، إلى ضرورة إعادة مساءلة الأزمة الليبية من حيث المنطلق، وافتراض وجود فاقد إدراكي، وسوء في الفهم، أديا إلى سوء تفاهم واستعصاء التقاء في منتصف المسافة بين الأطراف المتصارعة نفسها، وبالتبعية انعكس كل هذا على ما تبعه من دواعي خلاف عميقة، وجهود وساطة عقيمة، والتباس في الصورة العامة وفي سردية الأزمة الكبرى التي تتصارع تحت تفاصيلها سرديات فرعية كثيرة أخرى ترفعها وتدفع بها الأطراف المتداخلة، وتغذيها الأطراف المتدخلة في هذه الأزمة، وهي كثيرة. وهذا ما يقتضي، أخذ مسافة أمان من كثير من تفاصيل وسرديات ونثريات هذه الأزمة، والنظر إليها في كليتها، وجذورها، التي هي الواقع مؤججات كامنة، وعوامل توتير وتفجير مستدامة.

حرب الكل.. ضد الكل
وتعيش العاصمة طرابلس الآن، من حيث هي المركز والرمز لسيادة الدولة الوطنية، حالة تكثيف شديد الدلالة لتفاقم الأزمة الليبية، حيث تعيش على وقع أعمال عنف طليق، لحظة كتابة هذه السطور، حيث يجري هجوم دموي استهدف مقر وزارة الخارجية، وقد سقط فيه قتلى وجرحى كثيرون. كما ترتسم في المدينة خطوط تماس صعبة بين مجموعات مسلحة بعضها بالاسم تحت مظلة حكومة الوفاق الوطني، وبعض آخر ضدها، كما أن لبعضها الآخر أيضاً خلفيات قبلية وإيديولوجية، وجهوية، يمكن أن توصف بأي شيء سوى الالتزام والانضباط والانخراط في أهداف المشروع الوطني المشترك، أو الانضواء تحت سقف إجماع أهداف إعادة بناء الدولة الوطنية. وفي إقليم شرق ليبيا، تمكن الجيش الوطني الليبي من السيطرة على معظم منطقة برقة، بعد صراع مرير مع الجماعات المتطرفة، كما ظلت منطقة الهلال النفطي محل صراع متجدد بين الجيش الوطني والمجموعات المنفلتة والمتطرفة مدعومة أحياناً بمرتزقة من جماعات أجنبية إفريقية معارضة تغلغلت في الجنوب الليبي شبه المهمل، واستغلت حالة الفراغ الأمني، لتزيد الفوضى تفاقماً، ولترفع السلاح مع من يدفع من الأطراف الليبية المتصارعة نفسها، أو من يدفع من وكلائها الخارجيين الداعمين لاستدامة أحوال الفوضى وحرب الكل ضد الكل.
ولا يقل المتدخلون الخارجيون عن المليشيات والجماعات المسلحة تحدياً ولا خطراً على مشروع إعادة بناء الدولة الوطنية الليبية، أو احتواء كل عوامل التفكك والتفتت والصراع المستدام المدمّر. ولاشك أن مما لا يخلو من الدلالة هنا في مقام الحديث عن مخاطر التدخلات الخارجية ما تم الإعلان عنه الأسبوع الماضي من ضبط شحنة سلاح كبيرة في ميناء مدينة الخُمس (120 كلم شرق طرابلس)، قادمة من تركيا(1)، ومرسلة إلى أطراف غير شرعية، على أقل توصيف. وما يصدق على تركيا يصدق أيضاً على تابعها النظام القطري، الذي ظل طيلة السنوات الثماني الماضية يمول الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، في الأراضي الليبية، كما عمل بكل جهد ممكن على إفشال مشروع إعادة بناء الدولة الوطنية الليبية وتفعيل مؤسساتها السيادية، سعياً لتحويل البلاد إلى معسكر إرهاب مفتوح وقاعدة إمداد خلفي لكافة التنظيمات الإرهابية التي ترعاها قطر، في سوريا، ودول شمال إفريقيا، وفي الصحراء الإفريقية الكبرى أيضاً(2).
وزاد انفلات الحالة الليبية وانفتاحها على فائض العنف والفوضى خلال السنوات الثماني الماضية، وتدفق سيل الهجرة غير الشرعية من الأراضي الليبية عبر البحر المتوسط على جنوب أوروبا، من انخراط الأطراف المعنية على الضفة الشمالية للمتوسط أيضاً في التفاعل المحموم مع الحالة الليبية، وهو ما تولد عنه صراع صامت آخر، ولكن محسوس بين روما وباريس، على انتزاع أوراق التأثير والتدبير ضمن معادلات هذه الأزمة، وهو صراع مخصوم في النهاية من فرص التعجيل بالتوصل إلى تسوية تضع حداً للأزمة نفسها من الأساس. هذا فضلاً عن تعامل معظم دول الجوار الليبي مع تداعيات الأزمة بنوع من استراتيجية كف الضرر، وإدارة الأزمة لا غير، بدلاً من العمل على حلها بشكل جذري. وبهذه الطريقة يمكن أن يقع نوع من التكيف الإقليمي والدولي غير البناء مع استدامة الأزمة لتتحول إلى أزمة مهملة، منسية، موضوعة على الموقد الخلفي، بحيث يتم تأجيل وترحيل التسويات الحازمة والحلول الحاسمة لها، إلى سقف زمني آخر مفتوح. وهذا الأخطر. وهو ما يثير مرة أخرى السؤال: أين الحل.. وما العمل؟
وهو سؤال يستلزم أولاً وقبل كل شيء وضع الأزمة الليبية في سياق مفهوم، بتفكيك أبعادها، والوقوف على خلفياتها، وصولاً لتقديم تفسير متماسك وقابل للفهم، لأن الفهم في مثل هذا النوع من الأزمات المعقدة يكاد يكون هو نصف الحل.. وحال الأزمة الليبية في هذا ليس وحيداً ولا فريداً من نوعه، فما يصدق عليها يصدق أيضاً على كثير من أزمات دول ما سمي «الربيع العربي» الأخرى، كالأزمة السورية، واليمنية.. إلخ. فتفكيك أبعاد وخلفيات أي من هذه الأزمات، وفهمها في سياقها الموضوعي، والسياسي، وفق تراكماتها التاريخية والاجتماعية، قد يحمل في طياته بذور ومفاتيح تفكيك وفهم بقية الأزمات العربية الأخرى. وسيدرك هذا الملف التحليلي، أهدافه إن أسهم، في تقريب عملية الفهم المنشودة للحالة الليبية، في مختلف أبعادها السياسية والقبلية والتاريخية، وهي أبعاد مختلطة- متجلطة، شديدة الترابط، بل تدور أحياناً كثيرة حول نفسها، ضمن دوامات نوع من التاريخ الدائري على النمط الخلدوني، كما سنرى في القراءة التالية.

من ليبيا يأتي الجديد
«من ليبيا يأتي الجديد»، كلمة قالها المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت (حوالي 484 ق.م- 425 ق.م)، وكان يقصد بها، على الأرجح، ليبيا بمفهومها الواسع في ذلك الزمن، حيث كانت «ليبيا» اسماً على عموم منطقة شمال إفريقيا باستثناء مصر(3). ولعل ما سكت عنه «أبو التاريخ» هو طبيعة هذا «الجديد»، وأنه ليس بالضرورة أن يكون دائماً بشائر وأخباراً سارة، أي جديداً إيجابياً «براديغمياً» بالمعنى السياسي أو القيمي، أو مندرجاً ضمن ما يمكن وصفه بـ«التاريخ الرتيب» و«الهادئ»، كما سماه الأنتروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس في كتابه «المدارات الحزينة»، بل إن هذا «الجديد» قد يكون، أو هو بالفعل على الأقل في حالة تاريخ ليبيا السياسي الحديث والمعاصر، تاريخ محتدم مضطرم، صادم متلاطم، إلى أبعد الحدود، منذ ظهور هذا البلد إلى الوجود، مثلما كان أيضاً، في الغالب، على امتداد معظم تاريخه القديم والجديد.
وهو ما ظل يطرح على الدوام سؤال الأسئلة على الليبيين حول اتجاه بوصلة المسير والمصير بالنسبة لهذه البلاد، في صور ثنائيات إشكالية عنيدة وحزمة استعصاءات قديمة- جديدة، لعل أبسطها تحديد ملامح الذات والهوية الجامعة المانعة، وتجاوز علاقة السواحل والدواخل، وردم الفجوة -وأحياناً الجفوة- بين البدو والحضر، وتسيير وتدبير إكراهات جدل الاجتماع والسياسة، ورسم حدود الفصل والوصل بين الأنا بالآخر! وفي الأزمنة المعاصرة دخلت على الخط، تالياً، ثنائيات أخرى، أيضاً، أشد وأعْقد على الحسم كجدل القبيلة والاجتماع السياسي، والتنافس على الموارد في الفضاء العام، و«شرعية الثورة» وسيادة الدولة، وكيفية تفكيك المتخيَّل الذهني للقبيلة والغنيمة، والتجاوز الممكن للمتن الإيديولوجي للعصبية والدعوة ضد سيادة -وسعادة- الدولة.. الخ، مما سنتبسَّط في الحديث عنه، في سياقات لاحقة، من هذا الملف الصحفي السياسي التحليلي في المشهد الليبي، بين الماضي والحاضر وصولاً للوقوف أخيراً على عتبة المستقبل لاستشراف عنوان المرحلة المقبلة.
ولاشك أن شدة اضطراب واضطرام المشهد الآن، وقد تعقّد طيلة السنوات الماضية، إلى حد أدى، في لحظة ما، لظهور ثلاث حكومات تتصارع تحت سقف شرعية واحدة، وعدد لا حصر له من المليشيات المسلحة المتحاربة، هي على الأقل مما لا يسهل مهمة أية قراءة سياسية تقليدية وفق معهود أساليب التحليل السياسي لمثل هذا المشهد، ويجعل الحاجة أيضاً إلى مقاربة جديدة، وقراء غير تقليدية، لمفارقات الواقع المرتبك القائم، والخلفيات التي أدت إليه، ضرورة تحليلية إجرائية، قبل أن تكون خياراً شخصياً، أو نوعاً من الترف النظري أو التبسُّط في القول وقد انفتح المجال على مصراعيه لكل مقال.

التحليل السياسي و«لاهوت» الثورة
ولتجاوز العجز الإدراكي في الوقوف على العتبة الإشكالية للمشهد الليبي الراهن لابد للتحليل السياسي من استشارة الإطار النظري الكلاسيكي لنظريات التغير والتغيير السياسي، باعتبار ذلك مدخلاً ضرورياً من المداخل المفسرة لظاهرة الثورة، إن اعتبرنا أن ما جرى في ليبيا في عام 2011 كان ثورة بالمعنى الفني للكلمة، بالمفهومين السياسي والسوسيولوجي. ونحن نستخدم هنا عبارة «ثورة» استخداماً إجرائياً فقط، وليس اعتباطاً أو إسقاطاً لمعنى سياسي وثوقي دوغمائي على دلالة الكلمة نفسها. ولكي نفهمه ربما يتعين أن نتحول، فيما يلي، لاستشارة بعض ما يقوله علماء السياسة وعلم الاجتماع السياسي، والدراسات الإنسانية ذات الصِّلة عموماً، كمداخل مفسرة لظاهرة «الثورة» ضمن ما يمكن تسميته هنا -بقليل من التجاوز- بـ«لاهوت الثورة» ونعني به مدارس ووُثوقيات تفسير هذه الظاهرة، ولا نقصد طبعاً مفهوم «لاهوت التحرير والثورة» كما عُرف لدى اليسار اللاتيني حين خلط بين الدوغمائية الدينية الخلاصية، والبارديغيمية الإيديولوجية التقدمية الرسولية المفرِطة في الراديكالية والأصولية. ونستدعي هنا، باختصار، شذرات من هذه النظريات، على وجه التمثيل لا التمثـُّـل، والاستطراد لا التبني، لعل ذلك يكون مفيداً، كإطار نظري وعملي في الوقت نفسه، نستصحبه في الذهن -عرَضاً- لفهم ظاهرة الثورة، كحالة سياسية عامة، والثورة الليبية في بعض ما تنفرد به من محددات مميزة بصفة خاصة.
والمداخل المفسرة لظاهرة الثورة كثيرة في نظريات السياسة وعلم الاجتماع السياسي، وسنسوق هنا، بشكل خاطف، توخياً للإيجاز وتوقياً للإطناب والاستطراد، بعض القصاصات والخلاصات الكلاسيكية في هذا المقام. ولعل من أشهر النظريات المفسرة لظاهرة الثورة، في السياق التاريخي والسياسي العربي، نظرية العلامة عبدالرحمن بن خلدون، صاحب كتاب «المقدمة»، الذي قدم نظرية متماسكة تقول إن الثورة من حيث هي تغيير سياسي مستهدف ظاهرة حتمية تاريخياً، متى ما توافرت شروطها -والشرط بوجوده الوجود وبعدمه العدم كما يقول أهل المنطق- حيث إن عمر كل دولة، كما يرى الولي ابن خلدون، يمتد لأربعة أجيال على الأكثر، أي ما بين 100 و120 عاماً تقريباً. فتمر الدول بمراحل النشأة والانتصار، والنضج والاستقرار والازدهار، ثم الشيخوخة والاضمحلال والانهيار، لتظهر عصبية أخرى جديدة ودولة بديلة، وهكذا دواليك، ضمن دوامات تاريخ دائري يعود من حيث بدأ في كل مرة، وفق أطوار تشبه عمر الكائن الحي(4).
أما في الفكر السياسي الغربي فقد ظهر أيضاً عدد لا حصر له من النظريات والمداخل المفسرة لظاهرة الثورة، وخاصة منذ عهد الأنوار والثورات الفرنسية والأميركية والروسية. وقد ركز بعض هذا المداخل النظرية على تحليل ما يمكن تسميته بالتاريخ الطبيعي الجينيالوجي للثورات الحديثة كما هي حال نظرية جورج بيتي وكرين برينتون. أو على تحليل الجوانب السياسية في جوانبها النفسية الاجتماعية، ومن أشهر من اشتغل على هذا الجانب فرانسوا لوبون في دراساته عن علم نفس الشعوب. وهنالك أيضاً التفسير الوثوقي التقدمي الذي يرى أن الثورة حتمية سياسية وتاريخية ومن أشهر أصحاب هذه الرؤية الماركسيون، بشتى فروعهم ومدارسهم. وكذلك ترى النظرية البنائية عند عالم الاجتماع الأميركي الشهير تالكوت بارسونز، أن الثورة حالة انحراف مرَضي تؤدي إلى خلخلة التوازن في بناء السلطة. في حين يرى روبرت ميرتون أن «الاختلالات الوظيفية يمكن أن تفضي إلى حالة من عدم الاستقرار، وأن التمرد هو استجابة لهذه الحالة». ويعرّف كرين برينتون الثورة في كتابه «تشريح الثورة» بقوله: «إنها عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى بنيان اجتماعي آخر». وهنالك أيضاً النظرية الفوضوية في تفسير الثورة، وأشهر منظريها برودون وباخونين، ومؤداها أن كل ثورة تحاول «تحقيق العدالة بواسطة القوة، وتنتهي في معظم الحالات إلى أن يحل استبداد محل آخر، لا أكثر».
والمداخل النظرية والمدارس السياسية والاجتماعية كثيرة جداً في هذا المقام، ومنها من ينظر إلى الثورات في عموميتها ومن ينظر إليها في تفاصيلها، من يستخدم منظار الماكرو الكبير فينظر للغابة ككل، ومن يستصحب منظار الميكرو الصغير فيركز النظر على الشجرة الواحدة داخل الغابة. وباختصار، يمكن القول إن هذه النظريات تقدم تفسيرات، محتملة، لظواهر التغير السياسي والاجتماعي، ودوافع حدوثها، وتصف أعراض «الفوضى الاجتماعية» -وهذه ظاهرة اجتماعية وسياسية لها هي أيضاً مدونتها النظرية- وما تتكشف عنه هذه الفوضى من انعكاسات على بنيات وعلاقات ومؤسسات الاجتماع السياسي. وفي المجمل، تكاد هذه النظريات تجمع على الطابع الفوضوي، والمدمر أحياناً، لظاهرة الثورة.
ومع أن كارل مانهايم يرى أن «الثورة عمل قصدي وإن كانت بعض عوامل هذا العمل الاجتماعي لاشعورية»، إلا أن ثمة أيضاً من الثورات ما يمكن أن ينشأ أصلاً عن تزييف قصدي للوعي وتوظيف كيدي للاعتراضات والاستياءات السياسية، لأنه يمكن خلقها والتلاعب بها -هل أقول من خلال تحريض الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر- دون وجود دواعٍ سياسية أو موضوعية لقيام الثورة أصلاً، أو مع وجودها ولكن لتحقيق أجندة خاصة بجماعة أو شريحة أو حزب، على حساب بقية مكونات الاجتماع والمشهد السياسي العام. وبعبارة أخرى، فإن بعض الثورات يمكن أن تكون مدخولة بأحصنة «طروادة سياسية» أو حزبية، تركب الموجة، وتزيف الوعي، وتوظف وتجيّر أهداف الثورة، القائمة والعادلة فعلاً، لتحقيق غايات غير ثورية، فيستبدل استبداد بآخر ونظام سيئ بآخر أسوأ منه بكثير.
وإن أردنا إسقاط بعض قصاصات وخلاصات هذه المراحل والمداخل النظرية على الثورة الليبية، واعتبرنا أن الأمور بخواتيمها، وحكمنا على المشهد اليوم في نهاية ديسمبر من عام 2019، فسنجد أن ما تأدّت إليه الثورة الليبية من فوضى سياسية وعنف طليق خلال السنوات الماضية جعل هذه الثورة تهدد في العمق الأساس الوجودي الناظم للدولة نفسها، وهو ما أثار، مرة أخرى إشكالات أصول وفصول، وخلفيات ومآلات، مسألة الوحدة والتعددية في الدولة الليبية نفسها، وكيفية الخروج الآمن من فوضى الثورة إلى سيادة الدولة الوطنية المخولة وحدها احتكار القوة والثروة والسلطة والسلاح في النظام السياسي الدولي الحديث والمعاصر، كما هو معروف منذ اتفاقية ويستفاليا سنة 1648.

ليبيا بين التعددية والوحدة
تتكون ليبيا سياسياً، وتاريخياً، من ثلاثة أقاليم هي طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق وفزان في الجنوب، ومع الوحدة الثقافية والاجتماعية للنسيج الديموغرافي لهذا الفضاء الجغرافي، فقد ظلت لكل واحد من هذه الأقاليم الثلاثة خصوصيات ومسارات تاريخية وسياسية واجتماعية خاصة، قد يزيد الشعور بها أو يقل، بحسب ما يكون عليه الحال في الداخل والخارج، طيلة القرون الماضية. كما ظل جدل المركز والأطراف، المعتاد في تاريخ كثير من الدول الوطنية المركزية، يأخذ أيضاً، على مر التاريخ، أشكالاً ذات خصوصية ليبية مختلفة. ومرونة أو ليونة مركزية المركز في الحالة الليبية كانت دائماً عامل تنافس وتجاذب مع الأطراف، وأحياناً أيضاً بين هذه الأطراف نفسها مع بعضها بعضاً. ولذلك عند قيام الدولة الوطنية الليبية الحديثة مع الإعلان عن استقلال البلاد تحت قيادة الملك محمد إدريس السنوسي، في 24 ديسمبر 1951م، استدعت إشكالية المركز نفسها بسرعة في لحظة التأسيس، فتقرر أن تكون عاصمة للدولة مدينتا طرابلس وبنغازي معاً حتى عام 1963، ثم مدينة البيضاء ببرقة من 1963 حتى 1969، وحين بدأ عهد معمر القذافي جعل طرابلس عاصمة، ثم اتخذ مدينته سرت عاصمة إدارية، بحكم الأمر الواقع، في آخر عهده.
وفي لحظة التأسيس، تحت ضغوط أسئلة التعددية والوحدة، سميت ليبيا في البداية باسم «المملكة الليبية المتحدة» حتى 26 أبريل 1963 حين عُدل الاسم إلى «المملكة الليبية» فقط، وذلك بعد إلغاء النظام الاتحادي التعددي الفيدرالي، بين الولايات الليبية الثلاث: طرابلس وبرقة وفزان، لتصبح للدولة سلطة مركزية جامعة. وقد سهل مهمة الملك إدريس في تحقيق وحدة اندماجية بين الأقاليم التي كان لكل منها كيانه، وأحياناً عَلمه، وحالته السياسية الخاصة، كون العاهل السنوسي يكتسي شرعية تاريخية، دينية ونضالية، وأيضاً عدم انتمائه شخصياً بالنسب إلى أي من القبائل الليبية الكبرى المتصارعة على الزعامة، فهو من أسرة شريفة تعود أصولها إلى منطقة مستغانم في غرب الجزائر، وقد استقر جده في شرق ليبيا كشيخ للطريقة الصوفية السنوسية في مطلع الأربعينيات من القرن التاسع عشر، ثم تقلد الإمارة فيما بعد (5). وقبل ذلك تمكن عمه المجاهد أحمد الشريف السنوسي من توحيد قبائل ليبيا المتصارعة لمقاومة الاستعمار(6). ومثله تمكن أيضاً المجاهد عمر بن المختار المنفـِّي (عمر المختار) من توحيد القبائل في حركة الجهاد الليبي الكبرى من خلال تفعيل نظام «الصفوف»، وهي تحالفات قبلية تاريخية متوارثة بين بعض القبائل الليبية، وربما لم يكن عمر المختار (7) ليتمكن من ذلك لولا انتمائه إلى الزاوية السنوسية هو أيضاً وانتسابه لقبيلة «المنفَّه» المرابطية محدودة العدد -نسبياً- في شرق ليبيا، وهو ما لا يثير عادة حساسيات القبائل الكبيرة على الزعامة، حيث إن قبيلته قد لا تشكل خصماً تقليدياً لدوداً بالنسبة لأي منها.
من الدولة إلى «الثورة»
وما إن بدأت دعائم الدولة الليبية المركزية تترسخ، في عهد الملك إدريس، برمزيته الدينية وشرعيته السياسية التاريخية المستمدة من سابقة الدعوة والمقاومة السنوسية في عهد الاستعمار الإيطالي، حتى جاء عهد 1 سبتمبر 1969 بقيادة معمر القذافي، ضمن موجة الانقلابات العسكرية العربية في فترات الغليان والمد القومي الثوري، وأعلن عن إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية الليبية بزعامة عسكرية كانت تسمى «مجلس قيادة الثورة» وحكومة منبثقة عنها. وبعد صراعات خطيرة وتصفيات مريرة بين أعضاء المجلس العسكري «الضباط الأحرار» تمكن القذافي من الاستفراد بالموقف، فقرر إلغاء النظام الجمهوري وإلغاء الحكم والدولة التقليدية من الأساس، وأعلن عن قيام «سلطة الشعب» في 2 مارس 1977 وتحويل ليبيا إلى «جماهيرية»، يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه، من خلال المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية (8). ومنذ ذلك التاريخ صار الكتاب الأخضر -الذي قيل إنه من تأليف معمر القذافي- هو السرد السياسي والمتن الرسمي ومرجعية الكلمة في كل صور التسيير والتدبير للشأن العام بما فيه طبيعة اشتغال آليات ومفردات المشهد السياسي. وبحسب السردية السياسية الرسمية في عهد القذافي، فإن «الكتاب الأخضر يقدم الحل النهائي لمشكلة أداة الحكم، ويرسم الطريق أمام الشعوب لتعبُر عصور الديكتاتورية إلى عصور الديمقراطية الحقيقية» (9).
ومنذ ذلك التاريخ، دخلت ليبيا منعرجاً سياسياً دام لمدة الـ34 سنة الأخيرة من حكم القذافي، سارت فيه بوصفة مضمونة لانحلال دور وحضور مؤسسات الدولة المركزية في الفضاء العام. فعلى رغم أن القذافي نفسه أعلن في ذلك اليوم تخليه عن السلطة وتسليمها للشعب، فقد صارت صفته الرسمية هي «قائد الثورة» ومهمته المعلنة هي «التوجيه والتحريض الثوري للشعب على ممارسة السلطة». ومع ذلك اعتبرت سلطة «قائد الثورة» سلطة أعلى من الحكومة و«المؤتمرات الشعبية»، وذلك تأسيساً على مبدأ «الشرعية الثورية» التي يتمتع بها. وأما تدبير الشأن العام فكان المعلن أنه منوط بالمؤتمرات الشعبية، حيث تم تقسيم البلاد إلى مربعات سكانية، في كل مربع «مؤتمر شعبي أساسي» يضم جميع سكانه البالغين، وتجتمع كل هذه المؤتمرات في دورات انعقاد محددة خلال السنة، وتطرح عليها قضايا الشأن العام في جميع القطاعات، وتصدر بشأنها قرارات (وكان القذافي يشبّه هذه النظام السياسي بنظام الكانتونات والديمقراطية المباشرة المتبع في سويسرا). وتدير كل دائرة حكومية لجنة شعبية. فيما تتولى مهمة الوزارة «أمانة شعبية عامة نوعية» يرأسها أمين لجنة شعبية عامة (وزير). ويرأس الحكومة كلها أمين اللجنة الشعبية العامة «رئيس وزراء» (10). وكان هنالك أيضاً جسم تشريعي يدعى «مؤتمر الشعب العام»، لا يحمل رسمياً صفة برلمان وإن كان يؤدي مهامه بصفة حرْفية (11).
وطيلة هذه العقود الثلاثة سارت الدولة المركزية الليبية من مستوى التهميش إلى مستوى التهشيم والإلغاء، في الواقع. بل إن القذافي حاول عدة مرات إلغاءها فعلاً كدولة وطنية (قُطرية) بسعيه الحثيث للبحث عن وحدة عربية مع تونس، أو مصر، أو السودان، أو سوريا، أو المغرب، وفي الأخير يمّم وجهه باتجاه الاندماج في الفضاء الإفريقي، وإعلان نفسه «ملك ملوك إفريقيا»، استعداداً للوحدة الاندماجية الإفريقية، وصولاً لإلغاء الدولة الوطنية. كما عرفت هذه العقود أيضاً تهميشاً أمرّ وأدهى لاختصاصات الدولة، وتجريفاً وتجفيفاً لمقومات الحياة السياسية(12).
على أن سلطة الشعب و«اللجان» بكل أنواعها في عهد القذافي كانت مجرد واجهات فضفاضة تتصارع تحتها، أحياناً، الحساسيات والتنافسات بين كبريات القبائل الليبية، حيث أعيد تدوير المنظومة القديمة ما قبل الدولة، ومع مرور الوقت أخذت القبيلة مكانها، وخاصة بعدما تمت تصفية بنيات ومؤسسات الدولة التقليدية. وفي سياق عملية الإحلال هذه، استدعى الواقع الجديد كثيراً من متلازمات ثقافة القبيلة، وكانت «الغنيمة»، ممثلة في عائد موارد النفط ومصادر السلطة والثروة العامة، مصدراً للتنافس والتنابذ -وأحياناً التنابز- في الفضاء العام بين العصبيات الغالبة، في حدود المتاح من متنفّسات التعبير ضمن قوالب النظام الجماهيري. وفي هذا المعنى جرت تصفيات واسعة لكل معارضي النظام في سياقات سياسية- قبلية، طيلة العقود الأربعة من حكم القذافي. ولعل من أشهر تلك التصفيات التي ولّدت شروخاً غائرة وضغائن مستحكمة في النسيج السكاني الليبي تصفيات 7 أبريل 1976 التي مثلت، في رأي المعارضة، بداية انطلاق عهد تغول الديكتاتورية في ليبيا.
وكان خطاب «النقاط الخمس» بمدينة زوارة، الذي أعلن فيه القذافي عن نيته تصفية أية معارضة وتجريف المشهد السياسي، قد مهد لذلك نظرياً في سنة 1973. ومن هذه التصفيات والإبادات، التي ولدت مع مرور الوقت ذاكرة سياسية جريحة، ظلت تلقي بظلالها على المشهد وتقرب لحظة انطلاق العد العكسي للثورة على نظام القذافي، تصفيات ما عرف بأحداث 7 إبريل في أواخر السبعينيات. ثم تصفيات ما بعد «هجوم باب العزيزية» 1984، الذي نفذه عناصر من «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا» المعارضة في الخارج، حيث جرت تصفيات لمعارضين، وأذيع إعدام بعضهم في التلفزيون الرسمي بعد الإفطار في شهر رمضان المبارك. ثم تلت ذلك التصفيات ضد قبيلة وَرْفَلّة التي عُرفت بأحداث بني وليد 1993. ثم كانت مجزرة سجن أبوسليم في طرابلس، في 29 يونيو 1996، التي قتل فيها 1269 شخصاً من المعارضين السياسيين، بعضهم من حركات الإسلام السياسي المتطرفة، والجماعات المسلحة المصنفة دولياً كتنظيمات إرهابية مثل تنظيم «الإخوان المسلمين» و«الجماعة الليبية المقاتلة» وعناصر من الحركات «السلفية الجهادية» الأخرى المختلفة. وشملت التصفيات أيضاً ضحايا استهداف آخرين من المعارضين الليبراليين والقوميين واليساريين، وإن في سياق ونطاق أضيق.
وكانت من ضمن خلفيات بعض هذه التصفيات أيضاً حسابات وحساسيات قبلية حيث إن نسبة كبيرة من ضحاياها هم من قبائل إقليم برقة في الشرق الليبي، التي ظلت على الدوام على خصومة مع نظام القذافي، وبعضها معروفة بروابط ولائها التاريخية التقليدية للأسرة السنوسية. كما أن مناطق الشرق الليبي ظلت أيضاً ضمن الجهات الأقل حظاً وحظوة في عائدات النفط، طيلة عهد القذافي، وهي ترى أن منطقة الهلال النفطي تتبع إقليم برقة، وأنها بالتالي هي الأولى أصلاً بعائدات هذا النفط. وبعبارة أخرى فقد أخفى الصراع بين القذافي وجماعات الإسلام السياسي، طيلة عقود، صراعاً آخر قد يكون أكثر حدة وشدة بين قبائل شرق ليبيا ونظام القذافي، وقد مثل هذا بإحدى أكثر الصور وضوحاً لحظة مواجهة معلنة بين القبيلة والدولة، أو بكلمة أدق بين القبيلة في صورتها التقليدية وبين القبيلة- الدولة الحاكمة في عهد القذافي. وعلى خلفية الفشل التنموي والاستقطاب السياسي وشدة الاحتقان القبلي والاجتماعي، لم يشكل اندلاع حرائق ما سمي «الربيع العربي» بالنسبة للحالة الليبية سوى شرارة إشعال لفتيل انفجار جاهز سلفاً، في بلد متعب ومثقل بأعباء الذاكرة الجريحة، ولهذا فقد كان الانفجار سريعاً جداً ومدوياً ومدمراً إلى أبعد الحدود.

إخفاق النظام الاشتراكي
وقد كان أيضاً للنظام الاشتراكي في تسيير وتدبير أمور الاقتصاد دور كبير في إخفاق نظام القذافي في الاستجابة لتطلعات الشرائح الشابة من الليبيين، التي انخرطت في النهاية في الثورة ضده. وقد تأخر نظام القذافي كثيراً عن فهم حجم التحولات الاقتصادية المتسارعة في العالم فظل مراوحاً في نظام اقتصادي اشتراكي مركزي موجّه، يستند على الفلاحة واقتصادات المصانع ذات المداخن، وهو ما تعبر عنه مقولة اقتصادية، قد لا تخلو من تسلية، اتخذت شعاراً إنتاجياً في زمن القذافي، تقول إن «الدجاجة تبيض والدينار لا يبيض»(13)! بمعنى أن الإنتاج الفلاحي والاقتصاد الحقيقي التقليدي هو كل شيء، وأنّ الاقتصاد الرمزي والرقمي واقتصاد الخدمات لا قيمة لهما! وبهذه الطريقة لم يستشعر نظام القذافي خطورة التأخر عن طفرة التقدم في مجالات اقتصادات المصانع ما بعد المداخن، واقتصادات أنماط الإنتاج فائقة التقنية والرقمية. كما فرض الحصار الدولي والخصومة مع الغرب أيضاً نوعاً من اقتصاد الكفاف الريْعي، بالحد الأدنى، وحرم الليبيين من مباهج اقتصادات الوفرة والرفاه والترفيه والانفتاح، ما جعل الأجيال الشابة أكثر تعلقاً بالنماذج الخارجية الغربية ذات القوة الناعمة الجذابة، تماماً كما وقع لقطاعات واسعة من شعوب دول المعسكر الاشتراكي السابق، مما أدى في النهاية إلى الانحسار والانهيار، في كلتا الحالتين.
ولذا، وبالنظر إلى كل هذه العوامل والتراكمات، فربما كان اندلاع الثورة الليبية يوم 17 فبراير 2011 هو أقل حالات ما سمي «الربيع العربي» مفاجأة، حيث إنّ كل ما كان متوقعاً جرى بحذافيره دفعة واحدة، وذلك لطول تفاعل كل مؤجّجات ومهيّجات كيمياء الصراع والنزاع الداخلي، وأيضاً لخصوصية مفارقات تفاعل التاريخ والسياسة، في الذاكرة والمخيال ومفردات الواقع الليبي، وأحياناً أيضاً وفق منطق الحظوظ السود والبوارح وسوء الطوالع وحتى الأساطير. وفي السياسة تكون للحقيقة والأسطورة أحياناً نفس القيمة، طالما كان الناس يصدقون أيّاً منهما، كما نبه إلى ذلك المفكر البلغاري تزيفتان تدوروف، في كتابه الشهير «فتح أميركا.. مسألة الآخر». وكما انطلقت ثورة القذافي ضد العهد الملكي من مدينة بنغازي، عاصمة إقليم برقة، ولذلك كانت تسمى في أدبيات عهده «مدينة البيان الأول» للثورة، فقد انطلقت منها هي أيضاً، لاتفاقات الصدف والبوارح ومفارقات الحظوظ الكوالح، الشرارة الأولى للثورة ضده في 17 فبراير 2011.


اقرأ أيضاً..

مفارقة أم مصادفة؟! ... الذاكرة الليبية.. ومتلازمة سنة 11
بين الوحدة والتعـددية.. وشرعية الدولة الوطنية

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©