السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القرن الهندي

القرن الهندي
2 سبتمبر 2015 21:50
لا تقتصر «عالمية» الهند على الفكر والميثولوجيا والفن، بل تتعداها إلى بعض العادات والتقاليد، وهل الغجر الذين ينتشرون اليوم في العالم سوى رسل يحملون تراث الهند الميثولوجي والاجتماعي؟ وما مؤتمرهم الثالث في القرن الماضي سوى صياغة للنزعة الإنسانية الهندية، حيث طالبوا بحرية التجوال من دون قيد الجنسية والخضوع لقوانين مصطنعة جائرة. إن مؤتمرهم تعبير عن الديمقراطية الهندية التي يعتبرها الكثيرون أرقى تنظيم سياسي في الزمن الحالي، كأنها الشجرة التي تأوي إليها كل الطيور المذعورة. وبإيمان الغجر أن الأرض تملك الإنسان وليس العكس سبقوا برودون والفوضويين إلى شعار «الملكية هي السرقة». منذ أقدم الأزمنة يفخر اليونان برحلة ديونيسوس (باخوس) الشرقية، من مصر حتى بلاد الشام، فعبور الفرات ودجلة على ظهر نمر، ووصوله إلى الهند، حيث استقى منها كل تعاليمه تقريباً، وبشكل خاص الرقص والغناء وكل ما يتعلق بصناعة الفرح، وما زراعة الكرمة التي أشاعها في العالم سوى التجسيد المادي لهذه الصناعة، حيث يحطّم المرء الهياكل المصطنعة التي ترهقه بها الحياة ويواجه روحه، فينقيها ويرتقي بها، فالمغيظ والحاقد والحاسد والغيور والأناني... لا يصنع الفرح لمكوثه في هياكل الحياة المصطنعة. قد يقال إن باخوس شخصية ميثولوجية، أو تغلب الميثولوجيا عليها، ولكن ماذا نقول عن هيراكليت وطاليس وبقية الفلاسفة الأوائل؟ ماذا نقول عن فيثاغورس الذي نقل التقمص والنرفانا والزهد في الحياة الدنيا من الهند؟ بل ماذا نقول عن فلسفة الأعداد التي أخذها من هناك، والتي تجلت بصورة صارخة في فلسفة الفيلسوف العربي جابر بن حيان، الذي ادعى أن لوح الزمرد في حوزته؟ وماذا نقول عن التنجيم الهندي الذي غزا العالم، وظهر في المعابد اليونانية، تنطق به بيثيا أو نظيراتها ونظراؤها؟ قبل الحديث عن الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر لا بد من عرض أهم نقاط الفلسفة الهندية المؤثرة، التي ساعدت في بناء نظرية كونية لدى الفلاسفة الأوروبيين. الميثولوجيا الهندية نجد هذه الميثولوجيا في أسفار «الفيدا» التي كتبت شعراً. وورد فيها التصوّر الهندي للكون والخلق. ويلعب براهما الدور الأكبر، ولكن من هو براهما: إنه أقنوم من ثلاثة أقانيم، فإلى جانبه هناك كرشنا وسيفا. براهما خالق، وكرشنا حافظ، وسيفا مدمر، وفي نهاية كل دورة يعود براهما إلى الخلق وكرشنا إلى الحفاظ وسيفا إلى التدمير. والدورة مقدرة باثني عشر مليون سنة، ويكون الرقي الإنساني قد بلغ ذروته، بعد عمليات كثيرة من التقمص والتناسخ والتحوّل والتغيّر، من الانحطاط والرقي، تحل النرفانا محل الهياكل المصطنعة التي راكمتها الحياة على الإنسان. أما فشنو فهو الوحيد الذي يتجلى في تحولات عشرة، ومعاناته تشبه كثيراً معاناة المسيح، مما دفع بعض المسيحيين إلى الزعم أن النص دخيل كتب بعد الميلاد، في حين يؤكد الهندوس أن النص موجود قبل المسيح بألف سنة. وبوذا ابن ملك تأمل الحياة البشرية وخرج بفلسفته المعروفة، وقد ورد ذكره في نصوص الفيدا كتجلٍّ وهمي للإله براهما، في حين يؤكد البوذيون أنه تجلٍّ حقيقي، وأنه تجسيد إلهي كامل، فهو الإله المتجسد الحقيقي، الذي عاش الحياتين، حياة الإلوهية وحياة الإنسانية، وهذا ما انطلق منه هيجل في دراسته عن المسيح. والخلاص يكون في الرقص والموسيقى وبقية الفنون... اليوجا لتربية الإرادة، والفن لتحقيقها في طريق النرفانا، وهذه نقطة جوهرية في الفكر الأروربي في القرن التاسع عشر. ولا بد من الإشارة إلى أن البوذية لم تكن متطابقة مع الهندوسية، بسبب عدم اعترافها بالطبقات وإباحتها لحم الحيوان. كان هذا شيئاً لا تقبل به الهندوسية، ففي رأيها أن مجتمعاً بلا طبقات كأنما يعني أن النرفانا تحققت في هذا المجتمع. إن جدلية الحياة تفرض قيام الطبقات، ولو كان المجتمع طبقة واحدة لما كابد الإنسان نضالاً من أجل التحرر. ولهذا لم تنمُ البوذية في الهند بمقدار ما نمت في الجوار، إلا أن الأوروبيين لم يقفوا عند هذا التناقض في الموقف بين الهندوسية والبوذية. ثلاثة أركان أثرت في الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر: النرفانا، بكل أبعادها، والفن، بكل ألوانه، والتقمص (العود الأبدي) بعد أن أخضعه الأوروبيون لأسلوب تفكيرهم. والهنود لا يفصلون بين الثلاثة، فلا وصول إلى النرفانا من دون تقمص، ولا ارتقاء من دون فن... الخ. ولع فلسفي في القرن التاسع عشر ظهرت الثقافة الهندية في الفلسفة على نحو غير مسبوق، حتى أن شوبنهور يعتنق البوذية، ويستخدم مصطلحات هذه الديانة أو الفلسفة، واتخذ هذا المنحى بعد زيارته جوته، ولقائه فريدريك ماير، فحدثه عن الميثولوجيا الهندية، فأولع فيه حب الهند، فاهتم بها كأنه أحد أبنائها، وصار كتاب الأوبانيشاد (أناشيد شعرية تتحدث عن روح الفرد «أتمان» وروح الكون «براهمان»...) ضجيع فراشه، يمضي الليالي في التبحر فيه، حتى أنه أطلق على كلبه اسم «أتمان» وعلق في صدر غرفته صورة بوذا إلى جانب صورة جوته، مع تمثال نصفي لكانط على منضدة صغيرة، وهما من أشد المتأثرين بالميثولوجيا الهندية. من هذا الجو يظهر التأثير الهندي في أوروبا، فلم يكن ماير ولا جوته الوحيدين المتقدين حماسة للميثولوجيا الهندية، بل كان ذلك شائعاً في كل الدوائر الثقافية والفلسفية. فلو عدنا إلى كانط لوجدنا أنه يقيم نوعاً من الفلسفة الهندية، عندما يريد الوصول إلى نواة المعرفة، فيسقط الزمان والمكان وكل ما يرهق النواة الأصلية للحقيقة، على اعتبار أن الزمان (كغيره) هيكل مضاف يحجب الحقيقة، أو يحرفها أو يراكم فوقها ما يربك الناظر إليها، وكذلك المكان وبقية الهياكل المتراكمة. وعندما يسمع القارئ باسم كانط، دائماً يخطر على باله المصطلح الذي ابتكره «الترانسندنتالية» أي التعالي أو السير في الطريق الصاعد، على غرار الجدل الصاعد عند أفلاطون، للوصول إلى المثل الأعلى، أو الصورة المثالية للوجود، أو «ما يجب» أن يكون حسب تعبير كانط. وهذا ما جعل شوبنهور يلتصق بفكر كانط، فما الترانسندنتالية، أو التسامي، أو الصعود، سوى طريق الإلوهية، أو طريق النرفانا الهندي، كما أن «الإرادة» التي قدمها ليست أكثر من نوع من أنواع نقل الفُلكلور البسيط إلى عملية فلسفية، فاليوجا تقوم بتربية الإرادة وجعلها مسيطرة على الجسد، حتى يتهيأ لهذا الجسد أن ينطلق في عملية روحانية، للانتقال من الأتمان إلى البراهمان. ويقرّ شوبنهور بمأساة الوجود وتناقضه كما هو الأمر عند بوذا والبوذيين، كما يقرّ، كبوذا، بأنه لا يعرف شيئاً عن عالم الغيب، ولكنه يعرف الكثير من بؤس الإنسان، ولكن الفارق بين البوذي وشوبنهور أن الأول لا يعرف، ولا يجوز أن يعرف التشاؤم، في حين غرق الثاني في مستنقعه، وما أشبهه في هذا بالإغريقي المتشائم هراكليت. وإذا كان أفلاطون طوّر عملية التطهير وجعل لها بركاً نارية لا بد أن يمرّ بها المتطهر، فإن شوبنهور أعاد للبوذية أسلوبها فجعل الكفاح من أجل التطهر عبارة عن إرادة وكفى، ولا شيء غير الإرادة. وما سلام النرفانا سوى سحق للحياة من أجل الخلاص من عبء العالم، وبذلك يكون شوبنهور مؤسساً للنظرة العبثية التي تنامت في منتصف القرن العشرين إلى درجة بعيدة. ولا شك أن دعوة شوبنهور إلى الخلاص عن طريق الفن ليست سوى صياغة جديدة للبوذية الهندية، مع أن الفيلسوف لم يكن من صناع الفرح كبوذا، الذي لا نجد له تمثالاً واحداً خالياً من ضحكته العريضة، في حين لا نجد صورة واحدة لشوبنهور فيها ابتسامة ولو أقل من ابتسامة الجيوكندا. ترى هي كان يتقمص فلسفة تخالف طبعه ومزاجه؟ أبعد من الفلسفة نعتقد أن القرن التاسع عشر كان بوذياً في أوروبا بامتياز، فنراه ماثلاً في الحركة الرومانتيكية الألمانية التي تمثلت في جوته وبقية الشلة كشيللر وشيلنج وهردر والأخوين شليجل وكثير من الألمان. ولم يكن تأثير الثقافة الهندية في الفلسفة وحدها، بل في كل شيء تقريباً، ولو نظرنا في رواية جوته «آلام فرتر» لما رأينا فيها سوى بوذي وقد جرفه الحب وهو يناضل بطريقته الخاصة للوصول إلى السلام والسعادة بتحقيق نرفانا حبه، معتقداً أنه بذلك يحقق الحلم الكبير. وفي عمله الكبير «فاوست» يلجأ إلى التسامي في نهاية المسرحية، ويرى في التوبة طريقاً إلى النرفانا، فيغيّر بذلك مسار بطله من الجحيم إلى النعيم فتحمله الملائكة وهي تنشد منتصرة على الشر الذي تخلص منه فاوست بالتوبة. ولا نظن أن مسرحية كاليداسا «شاكونتالا وخاتم الذكرى» اقتصرت في تأثيرها الكبير على جوته وحده، بل أثرت تأثيراً عميقاً جداً في كل المؤلفين الأوروبيين وليس الألمان وحدهم. ولو لاحظنا الإنتاج الألماني في أدب هذه الفترة لوجدناه يميل إلى الرومانتيكية، وينتشر في كل أوروبا. ونشير بصورة خاصة إلى مسرحيات شيللر التي تعتبر انعطافاً كبيراً في الأدب الألماني. أما ولهيم ميستر لجوته فإنها تقديس للفن، الذي جعله شوبنهور طريقاً للخلاص، فالبطل يدرك العالم، ويتطهر روحياً بالفن، فكلما تعمق الفن ازدادت متعته وازدادت غبطته، واقترب من الفرح الأسمى، فرح الروح. إن الغوص للوصول إلى أعماق النفس لا يكون إلا عن طريق الفن، كما في الثقافة الهندية. ولا ندري لماذا أصرّ كانط أن «الشيء في ذاته» لا يمكن إدراكه، مع أنه كان من أوائل الذين حطموا الهياكل المصطنعة التي تكبل الذات، وتجعلها مكشوفة معروفة؟ صوت خاص تابع نيتشه، نصير شوبنهور، موقفه الفلسفي، بينما تابع نصيره الآخر فاجنر موقفه من الفن، خلاص البشرية. فما نظرية نيتشه «العود الأبدي» سوى إعادة صياغة للتقمص الهندي المشهور، ولكن بعد أن يضفي عليه طابعه الشخصي ومزاجه الناري. ولا يترك الأمر للناحية الفردية، وللجهاد الذاتي في سبيل الوصول إلى النرفانا، بل يجعل هناك قيادة، يبدو أنه يؤمن بها إيماناً عميقاً، وهي قيادة السوبرمان الذي اشتهر به، والذي يعرفه القراء جيداً. ومن جهة أخرى نراه لا يقرّ البوذية في عدم اعترافها بالطبقات أو الطوائف، فهو أميل إلى الهندوسية، في تقسيمه الأخلاق والقيم. امتدادات ما يجدر ذكره هنا، أن التأثير الهندي لم يكن مقتصراً على ألمانيا وحدها، بل شمل أوروبا بأسرها تقريباً في القرن التاسع عشر، فكان له دوره في الفن والموسيقى والرقص والغناء... وعندما اعتلى هتلر السلطة اعتبر الغجر، حاملي الفُلكلور الهندي، من الرعاع وارتكب بحقهم أعظم مجزرة رهيبة، فقضى على أعداد كبيرة منهم، متجاهلاً التأثير الكبير الذي كان لهم في آداب أوروبا كلها، وليس في قسمها الشرقي وحده. وهذا ما فعله حليفه الإسباني فرانكو، فقضى حتى على صديق الغجر جارسيا لوركا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©