الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهند الأخرى

الهند الأخرى
2 سبتمبر 2015 21:50
الثقافة بمعناها الواسع هي الحضارة، ولذلك يستخدم الألمان كلمة Kulturللإشارة إلى الثقافة والحضارة معاً. ولا غرابة في أن نتحدث عن صور أو تجليات حضور الثقافة الهندية، لا في الإمارات وحدها، ولا في كل بلدان الخليج، وإنما في أغلب أنحاء العالم؛ لأن الحضارة الهندية- كما أظهَر لنا فيلسوف التاريخ توينبي- هي من الحضارات الخمس التي بقيت عبر التاريخ: وهي الحضارة المسيحية الغربية (في أوروبا وأمريكا)، والحضارة المسيحية الشرقية الأرثوذكسية (في روسيا ودول البلقان)، والحضارة الإسلامية، والحضارة الهندوكية (في الهند)، والحضارة البوذية (في منطقة الشرق الأقصى). فما هو الحاضر من الثقافة الهندية في الخليج، وفي الإمارات خصوصاً؟ وهل هذا الحضور يظل في إطار التفاعل والتأثير المتبادل بين الحضارات، أم أنه يتجاوز هذا الإطار؟ تجربة دالّة لقد عشت في الخليج قرابة أحد عشر عاماً من عمري، قضيتها مناصفةً في عُمان والإمارات، وهي فترة زمنية طويلة تؤهلني للإجابة عن هذا السؤال من واقع التجربة والخبرة المعيشة. وربما يكون من الملائم أن أذكر هنا تجربة دالة قد عايشتها في عام 1989 حينما دُعيت إلى العمل أستاذاً زائراً بجامعة الإمارات، وقد قمت في اليوم الأول بزيارة إلى سوق من الأسواق العامة يشرف على خور من أخوار الخليج بإمارة دبي، وهو سوق يقع حول ميدان كان يُسمى «ميدان عبدالناصر» بمدينة دبي. كلما اقتربت من الميدان كنت تتعالى أصوات متداخلة لا أتبين كنهها، إلى أن اكتشفت في النهاية أنها أصوات لغات كثرة هائلة من البشر يكتظ بهم المكان من الهنود في المقام الأول، ومن الباكستانيين والبنجلادشيين في المقامين الثاني والثالث. أدركت يومها مدى حضور اللغة الهندية في الإمارات، وهو حضور يفصح عن نفسه حتى في كثير من مفردات اللغة العامية التي تُستخدَم في مجال الحياة اليومية من أجل قضاء المصالح والحوائج. عرَفت ذلك أيضاً في عُمان فيما بعد. يعرف كل من عاش في الخليج هذه الظاهرة مثلما يعرفها أهل الإمارات أنفسهم. ولا شك أن هذه الظاهرة تعد من الظواهر التي لها مردود سلبي على الثقافة والهوية في الإمارات وغيرها من دول الخليج؛ لأن اللغة هي مكمن الهوية، على نحو ما أفصحت عن ذلك بالتفصيل في كثير من دراساتي ومقالاتي. فحضور اللغة الهندية وغيرها من اللغات الأوردية يتجاوز بقدر هائل حدود التلاقح البديهي بين الثقافات المتجاورة جغرافياً أو التي تربطها تاريخياً علاقات ضرورية في مجالات العمل والتجارة والاقتصاد. فالحضور هنا يشوه اللغة العربية التي هي لغة الوطن، حتى في المستوي العامي لتداول هذه اللغة. والحقيقة أن هذه الظاهرة هي نتاج طبيعي لواقع يعتمد في تسيير حياته اليومية على عمالة وافدة أكثرها من الهنود الذين نجدهم في الشوارع والأسواق، وفي سيارات الأجرة، وفي البنوك وشركات الصرافة، وفي أعمال الصيانة، وفي خدمة المنازل، وغير ذلك مما لا يُحصى. وكان من نتائج ذلك أيضاً أن امتد طغيان الثقافة الهندية على طبيعة المأكولات الخليجية التي يتم إعدادها في بيوت المواطنين، وهي مسألة تدخل في مفهوم الثقافة بمعناها الواسع. ومن البديهي أن هناك تأثيراً متبادلاً بين الشعوب فيما يتعلق بثقافة الطعام، فنحن نجد هذا التأثير المتبادل- على سبيل المثال- في أساليب إعداد الطعام في منطقة حوض البحر المتوسط، ومع ذلك فإننا نجد داخل هذه الثقافة العامة للطعام خصوصيات تميز مطبخ كل دولة واقعة في هذا النطاق باعتبار أن هذه الخصوصيات تشكل جزءاً من ثقافة خاصة. أثر سلبي ولا سبيل لمواجهة مثل هذا التأثير السلبي للحضور الطاغي للثقافة الوافدة سوى من خلال مشروع قومي للتوطين الثقافي، يبدأ من خلال توطين العمل، وهو ما يتطلب التعويل على إنشاء معاهد فنية قادرة على تخريج مواطنين مؤهلين فنياً في مجالات العمل التي تخدم سائر مجالات تسيير سُبل الحياة اليومية للمواطنين والوافدين، سواء تلك التي تخص قطاعات الدولة أو القطاع الخاص. أعلم أن سُبل تسيير الحياة في دولة الإمارات تسير وفقاً لمنظومة منضبطة بلا تعقيد بيروقراطي، على نحو يجعلها تنافس الدول الأكثر تقدماً في العالم. ولكني لا أتحدث هنا عن المنظومة، وإنما عن ضرورة أن تنهض هذه المنظومة بأيدي المواطنين أنفسهم في المقام الأول، دون تعويل على غيرهم. ذلك أن الحضور الكثيف للعمالة الهندية في شتى مناحي الحياة له تأثير سلبي على الثقافة بمعناها الواسع بوصفها أسلوبَ حياة. غير أن تجليات الحضور الثقافي للهند في الخليج عموماً له صور أخرى عديدة؛ فهو ليس حاضراً فقط من خلال اللغة، وإنما هو حاضر أيضاً في فن العمارة. ولا شك أن طراز العمارة الهندية حاضر بقوة في بعض بلدان الخليج، وخاصةً في عُمان. ومع أن دول الخليج تلجأ إلى التحديث العمراني من خلال إنشاء الكُتل الأسمنتية الضخمة والمباني الشاهقة، فإن هذا التوجه لا يصب في مصلحة الحفاظ على الهوية. لقد لاحظت هذا التحول في عُمان من خلال خبرتي الطويلة بكثير من بقاعها. وقد آلمني ما سمعته عن الإنشاءات الأسمنتية الضخمة في واحدة من أجمل بقاع الخليج، وهي رأس مَسَندَم بولاية خصب التي تتميز بطبيعة ساحرة متفردة من حيث بكارتها وتضاريسها، كما عرفتها من خلال زياراتي المتكررة لها فيما مضى؛ حيث تقع هذه البقعة الساحرة في حضن الجبال الشاهقة المتاخمة للبحر مباشرة، حتى إنها لا تترك سوى حيز ضيق من الطريق الذي يرتفع ويهبط مع الجبال، لينتهي إلى السهول التي تحتضنها الجبال. وقد نبهت بعض المسؤولين هناك إلى خطورة هذا الأمر: فكما أن فن العمارة لا ينبغي أن يعتمد على هيمنة طراز وافد، فإنه لا ينبغي أن يعتمد أيضاً على طراز لا يعكس شخصية المكان. أما في دولة الإمارات، فإننا لا نجد حضوراً لطراز المعمار الهندي إلا قليلاً، وخاصة في بعض البلدات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك. ومع ذلك فإن طراز الأبنية الشاهقة الذي أصبح سائداً في الإمارات، وبوجه خاص في مدينة دبي، هو أسلوب من الإنشاءات الهندسية له خصوصيته، ولكنه لا يراعي خصوصية المكان أو شخصيته، بدليل إمكانية تكراره في كثير من مدن العالم: في مدن الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وسنغافورة، وغيرها. ولا بأس في ذلك إن لم يسود هذا الأسلوب المعماري باعتباره الأسلوب الوحيد للتحديث، وكان بجانبه طرز معمارية حديثة تستلهم «تيمات» رئيسة في تراث البيت البدوي، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال إنشاء قرى جاذبة للعمران والسياحة على هذا الطراز بطول مناطق العمران على امتداد ساحل الخليج في الإمارات، تراعي الطبيعة الجغرافية للمكان وتستدعي روحه وشخصيته، وتستعين- في الوقت ذاته- بكثير من أسباب الرفاهة في العمارة الحديثة. وقد يبدو من هذا أن ابتعدنا عن موضوعنا الأساسي، وهو الحضور الثقافي للهند في الإمارات، ولكن عذرنا في ذلك أن شؤون الثقافة (ومن ثم الحضارة) وهمومها تستدعي بعضها بعضاً. إن الناظر إلى مشهد التطور الحضاري في الإمارات خصوصاً، يمكن أن يلحظ بوضوح تطلع مدن الإمارات الكبرى- وخاصةً مدينة دبي- إلى أن تكون مدناً كوزموبولوتانية (أو عالمية) تستوعب الشعوب والأجناس بثقافاتها ودياناتها المتباينة، وتلك حالة فريدة في عالمنا الراهن تستحق التأمل والتقدير. ولكن السؤال الذي يبقى هو: كيف يمكن استيعاب هذه الثقافات الوافدة دون طغيان إحداها على ثقافة الوطن؟ غياب مطلوب المراد مما تقدم أن حضور الثقافة الهندية في الإمارات- وفي غيرها من بلدان الخليج- هو الحضور الذي ينبغي أن يغيب، أو- على الأقل- لا ينبغي ألا يكون حاضراً بتلك الكثافة غير الضرورية والتي لها تأثير سلبي على الهوية كما تتجلى في أسلوب الحياة. وفي مقابل ذلك، فإننا نجد الجانب الأهم في الثقافة الهندية غائباً، وأعني بذلك الجانب الثقافة الهندية من حيث هي فلسفة وفن وأدب، بل أيضاً من حيث هي فكر علمي وسياسي واقتصادي. ويكفي أن نعلم- فيما يتعلق بهذا الجانب الأخير- أن الهند من أكثر الدول التي يمكن الاستفادة من تجاربها الرائدة في التخطيط العلمي لإدارة الشركات الكوكبية، وهذا ما يمكن أن نتعرف عليه- على سبيل المثال- من خلال كتاب Ravi Venkatesan(الذي أدار باقتدار شركة مايكروسوفت الهند)، والذي يحمل عنوان: اربح في الهند، لكي تربح في أي مكان آخر WinInIndia, WinEverywhere(الصادر في 2013 عن دار HarvardBusinessReviewPress). ولن نجانب الصواب إذا قلنا إننا في عالمنا العربي- وليس في الإمارات وحدها- نكاد نجهل تاريخ الحضارة الهندية، فلا نعلم عنها إلا من خلال الكتابات الغربية، بل إننا نجهل الكتابات الفلسفية والأدبية المعاصرة في الهند وفي غيرها من بلدان الشرق الأقصى. وليس من المعقول أن تقتصر معرفتنا بالفن الهندي على أفلام البوليوود التي تُعرَض على بعض القنوات الفضائية، وأن نجهل الفلسفة الهندية القديمة والمعاصرة. ويكفي أن نعلم- على سبيل المثال- أن الفلسفة الهندية القديمة المستمدة من الفكر الوارد في كتابات الفيدا المقدسة Vedas كانت مصدرَ إلهام لبعض من الفلسفات الكبرى في القرن التاسع عشر، وعلى رأسها فلسفة شوبنهاور الذي تأثر بقوة بهذه الكتابات حينما تُرجِمَت إلى اللغات الأوروبية. إن المعرفة بهذا الجانب من الثقافة- في صورها القديمة والحديثة- هو ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تلاقح حقيقي ومثمر بين الثقافات؛ فالثقافة تزدهر دائماً حينما تتعرف على ثقافة أخرى وتهضمها بأن تستوعبها في باطنها، وهذا يمكن أن ينشأ من خلال حركة ترجمة قوية، وتشجيع للكتابات التي تُعنى بتسليط الضوء على ثقافة الآخر، وخاصةً الثقافة الهندية وبلدان الشرق الأقصى. ومن حسن الحظ أن هناك مؤسسات ثقافية في دولة الإمارات بدأت تُعنى بهذا الجانب، وعلى رأسها جائزة الشيخ زايد للكتاب ومشروع «كلمة»، وهو ما يمكن أن يشكل نواة تؤسس لتلبية حاجة مجتمع توَّاقاً إلى الثقافة ومتعطشاً لها. هامش سعيد توفيق جائزة زايد.. ومشروع كلمة إن المعرفة بهذا الجانب من الثقافة- في صورها القديمة والحديثة- هو ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تلاقح حقيقي ومثمر بين الثقافات؛ فالثقافة تزدهر دائمًا حينما تتعرف على ثقافة أخرى وتهضمها بأن تستوعبها في باطنها، وهذا يمكن أن ينشأ من خلال حركة ترجمة قوية، وتشجيع للكتابات التي تُعنى بتسليط الضوء على ثقافة الآخر، وخاصةً الثقافة الهندية وبلدان الشرق الأقصى. ومن حسن الحظ أن هناك مؤسسات ثقافية في دولة الإمارات بدأت تُعنى بهذا الجانب، وعلى رأسها جائزة الشيخ زايد للكتاب ومشروع «كلمة»، وهو ما يمكن أن يشكل نواة تؤسس لتلبية حاجة مجتمع توَّاق إلى الثقافة ومتعطش لها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©