السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لقاء الأثَرَيْن

لقاء الأثَرَيْن
2 سبتمبر 2015 23:19
إلى ما قبل الإسلام بقرون طويلة، تعود العلاقات العربية - الهندية. سببها الأساس، انشغال التجّار العرب في التجارة ما وراء البحار، ثم نزعة حب الاستطلاع والمغامرة لدى أولئك البحّارة المتنورين والمندفعين فعلاً، لاكتساب العلوم والمهارات واكتشاف المجتمعات والثقافات الجديدة. فلقد وصلت سفنهم إلى سواحل الهند والسند في زمن الجاهلية، ناقلين بضائعهم من تمور وعطور ولبان، وحتى خيول وأحجار كريمة، في طليعتها: الياقوت والزفير والعقيق اليماني، وقد سمّاها الهنود والصينيون، من شدة الاهتمام بها، بـ«أحجار العرب». أما في طرق العودة، فكانوا يحمّلون سفنهم بالأفاويه على أنواعها، وكذلك بالفواكه الهندية، وبعض المعادن الثمينة كالذهب والفضة، وكذلك العاج والقرود والطواويس، فضلاً عن نوع من الصلب الهندي المفضّل لصناعة السيوف والتروس، وأنواع أخرى من الأسلحة الدقيقة، التي اشتهرت نماذجها ومعروضاتها، ليس في الأسواق العربية فقط، وإنما في الأسواق الأوروبية التي كانت تصل إليها السفن العربية عن طريق سواحل مصر والشام. مراكز تجارية لكثرة تردّد التجّار والبحّارة العرب إلى بلاد السند والهند، وبخاصة منهم بحّارة جنوب الجزيرة العربية وشرقها، اندفعوا إلى تأسيس مراكز تجارية عالمية ثابتة لهم على الجانب الغربي للهند، وفي جزيرة سيلان، هدفها عقد الصفقات، والعمل كوسطاء بين الشرق والغرب؛ ما اضطر الكثيرين منهم إلى استيطان الهند، ساحلاً وسهلاً وجبلاً، ولاسيما في «تامل نادو»، ومملكة بانديا جنوب الهند. كما أنشأوا مستوطنات في مناطق شال وكليان وسوبارة وساحل مالابار، وأكملوا ذلك اجتماعياً، بأن أقدموا على الزواج والإنجاب من نساء تلك البلاد، وتعلّموا لغاتها ولهجاتها، حتى اختلط اللسان العربي باللسان الهندي، وداخلت اللغة العربية كلمات هندية كثيرة، (والعكس صحيح) منها على سبيل المثال لا الحصر: قرنفل، كافور، مسك، زنجبيل، السمهري (الرمح)، المهنّد (السيف)، وتسللت تلكم الألفاظ إلى جسد القصيدة العربية، فها هو طرفة بن العبد يقول: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّد ويقول: وآليت لا ينفك كشحى بطانة لعضب رقيق الشفرتين مهنّد ويقول حاتم الطائي، سيّد الكرم لدى قدامى أجدادنا: سأدخّر من مالي دلاصاً وسايجاً وأسمر خطيّاً وعضاباً مهنّدا كما وردت مصطلحات المسك والقرنفل والفلفل في معلّقة امرؤ القيس: إذا قامتا تضوّع المسك منهما نسيمُ الصبا جاءت بريّا القرنفل ويقول في المعلّقة عينها: كأن مكاكي الحواء غدية صبحن سلافاً من رحيق مفلفل الهند.. من سمّاها؟ قبل دخول الإسلام الهند، وبحسب الباحث سيّد سليمان الندوي، لم يكن هناك اسم واحد لتلك البلاد كلها يشملها جميعاً؛ فكانت كل ولاية تنفرد باسمها، أو تعرف باسم عاصمتها. ولما استولى أهل فارس على إحدى ولاياتها، أطلقوا على النهر الذي يُدعى اليوم «السند» اسم «هندهو». وكان اسمه باللغة العربية «مهران». ومعروف أن الحرفين «س» و«هـ» باللغة الفارسية القديمة واللغة السنسكريتية (الأخيرة هي اللغة الهندية الكلاسيكية) يمكن استبدال أحدهما بالآخر؛ ولذلك أمثلة عديدة، فبدأ أهل فارس يدعوه باسم «هندهو»؛ وبذلك سمّيت هذه البلاد باسم الهند. أما العرب الذين كانوا مطّلعين على المدن الأخرى في الهند، غير السند، فلم يُغيّروا اسم السند، ولكن سمّوا المدن الأخرى بـ «الهند». وشاع هذا الاسم، واشتُهر في أرجاء العالم بصور مختلفة. ففي فرنسا يُلفظ حرف «هـ» ألفاً، فيصبح الاسم «إند» و«إنديا». وأسمت الأمم القادمة من مضيق خيبر هذه البلاد بـ«هندوستان»، وأصبح ذلك «هندستان» باللغة الفارسية. وما يبعث على الحيرة، هو أن هذا الاسم صار محبوباً لدى العرب، وإلى حدّ أنهم صاروا يُطلقونه على نسائهم، فيسمونهنّ على اسم هذه البلاد: هند، وصارت هند في الشعر العربي بمنزلة ليلى، وفي الشعر الفارسي بمنزلة شيرين. بعد بزوغ فجر الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي، أصبح العرب، بفضله، يُشكّلون أمة قوية ومتحدّية لثقافات دول قوية، وذوات مدنيّات قارّة من حولهم: اليونان، بلاد فارس، سوريا الكبرى الفينيقية، ومصر الفرعونية، لكن تحدّي المسلمين العرب، من خلال دينهم الجديد، لم يكن إلا ثقافياً في المقابل. ومما يسجّل للعرب هنا، هو أنهم، على عكس الشعوب الأخرى، قد صانوا وغرسوا وأثروا القيم والمعارف التي لدى العالم المتحضّر، وبذلك قدّموا خدمات جُلّى للفكر الإنساني والتقدم. وعلى وجه السرعة، كما يقول الأكاديمي والباحث الهندي د. عبد العلي (جامعة عليجر الهندية) تولّدت لدى المسلمين العرب رغبة في تحصيل المعرفة، يحدوهم حب الاستطلاع، فجعلوا يجمعون ويصنّفون ويترجمون المعارف إلى العربية من اليونانية، والسريانية، والفارسية، والسنسكريتية فتحصّلت لديهم مؤلفات كثيرة في الطب والعلوم والكيمياء والفلسفة؛ وعملوا على الإفادة منها. ومما قدّمته لغة الهند الكلاسيكية، وهي السنسكريتية إلى تراث العربية: العلوم الرياضية وعلوم الفلك والطب والأدب واللغة. جدير بالذكر أن العرب كانوا على إلمام بطرف من تطور الهند في العلوم المذكورة آنفاً، حتى في أيام الجاهلية. فقد عدّوا الهند، إحدى الأمم الأربع ذات الصفات الممتازة وهي: الروم والصين والفرس والهند. وقال الجاحظ فيهم: «اشتهر الهند بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب والخراط والنجر والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة». وقال المسعودي (896 – 957م): «ذكر جماعة من أهل العلم والنظر أن الهند كانت قديم الزمان الغرّة التي فيها الصلاح والحكمة، والهند في عقولهم وسياستهم وحكمهم وألوانهم وصفاتهم وصحة أمزجتهم وصفاء أذهانهم ودقة نظرهم بخلاف سائر السودان». وقال الراغب الأصفهاني (000 – 1108م) في محاضرات الأدباء: «إن الهند لهم معرفة الحساب، والخط الهندي، وأسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء، والرقي، وعلم الأوهام، وخرط التماثيل، ونحت الصور، وطبع السيوف، والشطرنج، والحنكلة (وتر واحد يُجعل على قرعة فيقوم مقام العود) ولهم ضروب الرقص، والثقافة، والسحر والتدخين». ومن المعلوم أن الهند كانت في العصور الأولى على رأس العالم في العلم والتكنولوجيا. (وهي اليوم البلد الأول في العالم من حيث إنتاج الكفاءات البشرية المختصّة بالتكنولوجيا) يدلّ على ذلك بوضوح حقيقة تاريخية تقول إن الصادرات الهندية في ذلك الوقت، كانت ذات قيمة عالية لدى كل من الغرب (في أوروبا) والشرق (حتى الصين). وهكذا، بحسب الباحث الهندي د. عبد العلي، فإن الهند بمنجزاتها في شتى فروع المعرفة، كانت بمثابة نبع من المعارف والعلوم التي استفاد منها العرب، وخصوصاً في مجال الرياضيات والعلوم الفلكية، وهي العلوم التي اشتغل عليها الهنود منذ العهد الفيدي. ودرس العرب، أولاً، كتاباً بالسنسكريتية في علم الفلك اسمه «براهمس هانت»، ألّفه الفلكي الرياضي «برهمكبت» سنة 628 م. ونقله العرب إلى لغتهم في زمن الخليفة المنصور العباسي. وقادهم هذا العلم إلى مراقبة النجوم، واستنباط نظريات علمية خاصة بهم، استفادوا منها ومن الكتاب المذكور عينه، تعلّم العرب طريقة استخدام الأرقام الهندية، بما فيها الصفر. وكانوا قبل ذلك يستعملون مكانها حروف الأبجدية. وكان أول من بسط هذا العلم في العربية هو الخوارزمي (توفي 846م.) في كتابه الشهير «الجمع والتفريق بحساب الهند». وهو أيضاً مؤلّف أقدم كتاب في علم الجبر تحت عنوان: «حساب الجبر والمقابلة»؛ وظلّ هذا الكتاب معيناً لعلماء الغرب ردحاً طويلاً من الزمان. وليس من المبالغة القول إن الخوارزمي هو واضع علم الجبر، ومخطوطة هذا الكتاب لا تزال محفوظة في جامعة أكسفورد. وقد شرح فيه المؤلف المعادلات والجذور والرموز الرياضية. ولعل لفظتي «الغوريتم» و«اللوغريتم» مشتقتان من اسم الخوارزمي. وقد قدّم للتعريف بهذه الأرقام، بأنها الأرقام الهندية، مشيراً إلى أصلها الهندي. ولكن عندما أدخلت هذه الأرقام إلى أوروبا بواسطة العرب، أصبحت تهرف هناك بالأرقام العربية، مع أن العرب أنفسهم يشيرون إليها دائماً بوصفها الأرقام الهندية. وهذه الأرقام التي أدخلت إلى أوروبا، كانت علامة لبدء العلوم الرياضية الأوروبية، وأحدثت ثورة هائلة في علم الحساب. وثمة كتاب آخر من تراث اللغة السنسكريتية في العلوم الرياضية، ترجم إلى العربية، يسمى «الأرض والشمس» ومؤلفه هو «آريا بهاتا»، عالم رياضي هندي شهير، كان أول منة أشار إلى أن الأرض تدور حول محورها؛ وشرح بنفسه ظاهرتي كسوف الشمس وخسوف القمر. وتطول لائحة استفادة العرب من تراث الثقافة، بل الثقافات الهندية القديمة، ومن بينها الطب أو العلوم الشفائية، كما يسميها البيروني. ويكاد التراث الطبي العربي يدين بأغلبه للمؤلفات الهندية في الطب، ويرجع تاريخه إلى زمن النبي العربي الكريم، إذ استعمل بنفسه بعض العقاقير الطبية. وقد وصف الخاصيّات الشفائية للعود الهندي قائلاً: «عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه أشفية عديدة». وفي العصر العباسي، استفاد العرب كثيراً من الكتب السنسكريتية في الطب. فالكتاب الشهير «شارك سنهيتا»، والكتاب «سشرت سنهيتا»، قد ترجما إلى العربية، وانتشرا كالنار في الهشيم في بغداد القديمة؛ حتى إن الخليفة هارون الرشيد (786 – 809)، كان قد دعا في زمنه عدداً من الأطباء الهنود إلى بغداد ليؤسسوا المستشفيات المختصة بكل مرض على حدة، ومن هؤلاء: ابن دهن، صالح بن بهلة، سنجهال، شاناق، ومنكة...إلخ. والأخير، أي الطبيب منكة، كان ابن أبي أصيبعة قد ذكره في كتابه الشهير: «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، كواحد من أهم وأشهر أطباء الهند. أما إسهام السنسكريتية في الأدب العربي، فيتمثل، أولاً، في سفر «كليلة ودمنة»، الذي ترجم عن اللغة البهلوية (الفارسية القديمة)؛ وهذه اللغة إن هي إلا ترجمة عن السنسكريتية. ومع أن الأصل السنسكريتي لهذا الأثر النفيس قد فقد منذ زمن طويل، إلا أن المادة في صيغتها المطولة ما زالت ماثلة في الأثر السنسكريتي المسمّى «بانشا تنترا». والعمل المهم، بل الأهم، الآخر الذي نقل إلى العربية عن السنسكريتية، فهو سفر «ألف ليلة وليلة». يقول آرثر مكدونل: «يوجد في الأدب السنسكريتي مجموعة من القصص الخيالي والأسطوري عن طريق راو واحد، وأبطال القصص تدور أسماؤهم في الفصول واحداً بعد الآخر، وتنتهي كل فصة لتتولد منها قصة متتالية إلى ما لا نهاية». وقد دلّ البحث العلمي على أن في كتاب «ألف ليلة وليلة» قصصاً أصلها هندي، فكانت الهند غنية بهذا النوع من الأدب منذ قديم الزمن. وقد عدّد صاحب «الفهرست» كتباً كثيرة للهند في الخرافات والأسمار والأحاديث منها «ألف ليلة وليلة»، و«السندباد الكبير»، و«السندباد الصغير»، وكتاب «هابل في الحكمة»، و«كتاب الهند في قصة هبوط آدم»، وكتاب «ديك الهند في الرجل والمرأة»، وكتاب «حدود منطق الهند» وكتاب الفيلسوف بيدبا في الحكمة... إلخ. وقد تولى الناقلون الشرقيون في الأمم المجاورة للهند، كالفرس والعرب، استخدام «ألف ليلة وليلة» في أعمال مستقلة من تأليفهم في مناخات الموضوع عينه؛ ومن هنا جاء كتاب «الليالي» بأجزاء عديدة وضخمة. ومن هنا وجدنا آرثر ماكدونل يقول في كتابه: «تاريخ الأدب السنسكريتي»، «إن الهنود كانوا خلال القرنين الثامن والتاسع معلمي العرب في علمي الحساب والجبر، وعن طريق هؤلاء كانوا أيضاً معلمي شعوب الغرب». وثمة مظهر مهم آخر لأثر الهند في تراث العرب يتمثل في أن اللغة العربية استعارت عدداً كبيراً من ألفاظ سنسكريتية وأضافتها إلى ألفاظها بعد تعريبها. ومن هذه الألفاظ: صندل، تامبول (نبات هندي يمضغ ورقه)، المسك، الكافور، النيلوفر، الموز، النارجيل، الزنجبيل، الهليلج، الهيل وغيرها.. وغيرها. لكن أول علاقة سياسية وثقافية مباشرة وقوية، بين العرب والهند، كانت في القرن الثامن الميلادي، أيام القائد العربي محمد بن قاسم الثقفي، الذي فتح بلاد السند والهند عسكرياً، وأسس أول حكومة إسلامية مستقلة فيها، انضم إلى كنفها كثير من العلماء والدعاة العرب، ممن وفدوا إلى تلك البلاد لنشر الدعوة المحمدية، واستطراداً اللغة العربية والثقافة العربية – الإسلامية، فأسسوا مدارس دينية لتعليم القرآن وتحفيظه، والحديث وتفسيره.. علاوة على تعليم فن الكتابة (الخط العربي) والأدب والشعر والبلاغة، فانخرط كثير من الهنود في الديانة الجديدة وانضموا بالتالي إلى الصفوف المؤازرة للحكم العربي – الإسلامي الجديد في بلادهم. وهكذا بدأ يقوى شيئاً فشيئاً التأثير العربي من خلال الإسلام وثقافته القوية، التي كان يتلقفها كثير من الهنود، حتى بات العالم العربي والهند بمثابة بلدين متجاورين، حيث لا يفصل بينهما سوى بحر واسع يمتد من الهند إلى الجزيرة العربية، وعلى سواحله شوارع طويلة واسعة توصل بينهما، وهما ضفتان على بر هذا البحر الواسع؛ فإذا كانت إحدى يدي هذا البحر المائج تلامس أرض الحرم للعرب، فإن اليد الأخرى تُمسك بأقدام الأرض المقدسة لدى الهندوس (آرياورت). ومن المعلوم إن معظم الدول المطلة على سواحل البحر تُعرف بطابعها التجاري. وهذا هو السبب التواصل المبدئي بين هاتين الأمتين وسبب معرفة إحداهما بالأخرى. بوجيز العبارة، إن سفن العرب كانت تجول في جميع مدن الهند العامرة على شواطئ البحر والجزر الهندية؛ وكان التجار العرب يترددون إلى هذه المناطق يترددون إلى هذه المناطق، كما أسلفنا، منذ عهد ما قبل التاريخ. الثقافة المسلمة الهندوسية ما إن أطلّ القرن الثالث عشر الميلادي، حتى كاد يكتمل غزو العرب والمسلمين لشمال الهند. وفي غضون ربع قرن، اجتاحت الجيوش المسلمة البلاد، من البنجاب إلى آسام، ومن كشمير إلى وندهيا. وأخذ أمراء راجبوت جميعاً على حين غرة، فلم يتمكنوا من المقاومة، أو الدفاع عن بلادهم إطلاقاً، على الرغم من أنهم واجهوا الجيوش المقتحمة بشجاعة موصوفة، ولكن من دون أي تخطيط، أو استرايجية إتحاد جماعي فيما بينهم. وكان لهذا الغزو الإسلامي تأثيره الهائل في تطور الثقافة الهندية، كما يقول د. تارا تشاند في كتابه «أثر الإسلام في الثقافة الهندية»، والذي ستصدر ترجمته العربية في بيروت بغضون الشهرين المقبلين. (حقق الترجمة د. محمد أيوب الندوي وراجعها د. زبير أحمد الفاروقي). ففي بادئ الأمر، أخلّ الغزو بكل شيء، فتلقت الديانة الهندوسية ضربة قاسية، فتوقفت الرعاية الحكومية للكهنة وعلماء الدين الهندوسي، وخُرّبت المعالم الهندوسية ودُمّرت، ولم يتلقّ الأدب أي تشجيع ملكي، فضعف شأنه. وكان هذا الغزو السياسي مرادفاً للموت الثقافي، لكن تأثيره كان مختلفاً. فقد طرد الملوك المسلمون الحكام الهندوس من إماراتهم المختلفة، واستولوا على على «دلهي» و«قنوج» و«جواليار» و«أنهلوار»، و«ديوكير» و«جور»؛ وبقيت المناطق البعيدة خارج سيطرتهم. ومع الوقت، اضطرت السلطة المسلمة الحاكمة إلى توظيف الهندوس في مرافق حكمهم كأمر لابد منه، فكان في جيش محمد الغزنوي عدد لا بأس به من الجنود الهندوس في أثناء معاركه في آسيا الوسطى؛ ونجح قائده الهندوسي «تيلاك» في قمع تمرد الضابط المسلم نيالتكين وعندما قرر قطب الدين أيبك ( أول حاكم من المماليك على سلطنة دلهي؛ والسلطنة هذه عملياً هي أول دولة مستقلة في تاريخ الهند) البقاء في الهند، لم يكن لديه خيار آخر، سوى الإبقاء على الموظفين الهندوس، الذين كانوا يملكون خبرة تامة في الإدارة المدنية. ولو لم يفعل ذلك، لكان نظام الحكم، بما في ذلك تحصيل الإيرادات، قد تعرّض للفوضى، ولاسيما أن المسلمين لم يجلبوا معهم، من خارج حدود بلاد الهند، الحرفيين والمحاسبين والمساعدين الإداريين، فقام الهندوس بتشييد المباني بتكييف قواعد العمارة القديمة حسب مقتضيات العصر، وقاموا بسك النقود، وإدارة الحسابات. وكان الخبراء القانونيون من البراهمة ينصحون الملك المسلم في إدارة القانون الهندوسي وتنفيذه؛ كما كان علماء الفلك منهم يساعدونه في أداء مهامه العامة. جدير بالذكر أن المسلمين الذين استوطنوا الهند، كانوا قد تعايشوا مع الهندوس، بما جعل من المستحيل أن تكون بينهم حالة عداء دائم. وهذا الاختلاط أسفر عن جو من التفاهم المتبادل. ولم يختلف الذين غيّروا دينهم عن أقاربهم الذين بقوا على دينهم. وهكذا بعدما انتهت الصدمة الأولى للغزو، ظهر استعداد لدى الهندوس والمسلمين لإيجاد حل وسط للتفاهم والتعايش كجيران، ثم كأبناء بلد واحد، فأدت الجهود التي بذلوها لتأمين حياة جديدة لهم، إلى تطوير ثقافة جديدة لم تكن هندوسية حصراً، ولا مسلمة محضة، بل كانت في الواقع هي الثقافة المسلمة الهندوسية. ولم تستوعب الديانة الهندوسية، والفن الهندوسي والأدب الهندوسي والعلوم الهندوسية بعض العناصر الإسلامية فحسب، بل إن وح الثقافة الهندوسية، والعقل الهندوسي تغيّرت إلى حد بعيد. ضرب الوحدة الإسلامية الهندوسية مع الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية في العام 1858، بدأت المشكلات الدينية والطائفية تذرّ بقرنها في الهند، وعلى نحو مدروس ومبرمج، انتهى إلى تقسيم البلاد والعباد إلى كيانين كبيرين هما: «باكستان» و«اتحاد الهند»، الذي عرف بجمهورية الهند لاحقاً. ثم تقسّم الكيان الأول أيضاً، فولدت لاحقا دولة «بنجلاديش». وقد استندت بريطانيا في تمزيقها لشبه القارة الهندية على أساس الديمغرافيا الدينية، وإذكاء الفتن والعنف الدموي، في قلب نسيج هذ المجتمع الهندي الحضاري التاريخي المتشكّل، فالغالبية من المسلمين حُشرت في الباكستان، بشقيها الغربي والشرقي. والغالبية من الهندوس تمركزت في الكيان الحالي لجمهورية الهند، والذي يضم حوالي مليارا و300 مليون نسمة، بينهم 200 مليون مسلم. لكن هذا الواقع التقسيمي للبلاد، واجهه رجال نهضة كبار، مسلمين وهندوس، على السواء، يقف في الطليعة بينهم المهاتما غاندي، ومولانا أبو الكلام آزاد، الزعيم الإسلامي الكبير (1888 – 1958)، والذي أصرّ على وحدة شبه القارة الهندية، مع الزعيم الذي طبّقت شهرته الآفاق كلها: موهاندس كارمشند غاندي، المحسوب معتقدياً على الجانب الهندوسي، لكن المسلمين، كانوا أكثر تصلّباً وحماسة من الهندوس أنفسهم بتأييدهم لغاندي، زعيماً وطنياً جامعاً لعموم الهند. وقد انضم مولانا أبو الكلام آزاد إلى حزب المؤتمر بزعامة المهاتما غاندي. وكانت فرصة لالتقائه برمز الهند الكبير، ليخوض معه نضالات شرسة ضد الاستعمار البريطاني. وبالمناسبة، صار أبوالكلام آزاد فيما بعد، أي بعد خروجه من السجن في العام 1923، رئيساً للحزب. وقد أحبّ الهندوس الزعيم المسلم أبو الكلام آزاد حبّ المسلمين له، ووجدوا فيه قائداً سياسياً قوياً وفائق الصدق، بانتمائه الوطني والإخلاص لمصلحة الشعب بلا تمييز. وسبق لكاتب هذه السطور أن حاضر في بيروت وبومباي أكثر من مرة عن أبي الكلام آزاد، وخصوصاً لجهة انخراطه كشخصية هندية فذة تقاطعت مباشرة مع عالمنا العربي. ولا غرو فأبو الكلام آزاد واسمه الحقيقي محيي الدين أحمد بن خيرالدين، من مواليد مكة المكرمة في العام 1888، من أم عربية وأب هندي صاحب طريقة صوفية. تقرّب الشيخ المسلم الهندي خير الدين، من الشيخ المسلم العربي محمد طاهر الوطري في مكة، وكانت علاقة ثقة ومودة بينهما، نتج عنها أن زوّج الأخير ابنته للأول، فأنجبت له ولده أبو الكلام. ولما حدث طارئ صحي لوالد أبي الكلاك، قرر (أي الوالد) ترك مكة إلى كلكتا للعلاج في مستشفياتها، وبعدها اتخذ قراراً بالقاء في كلكتا، بداعي، أولاً، دوامية العلاج؛ وثانياً، نزولاً عند رغبة بعض أتباعه من المتصوفة الهنود بالقاء إلى جانبهم في الهند بعد طول إقامة استمرت 30 عاماً في الخارج. تجوّل أبو الكلام آزاد في أرجاء الخليج والعالم العربي والإسلامي، فلفتته أطروحات المصلحين الكبار كالشيخ رشيد رضا ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني؛ تأثر بها، وطفق فيما بعد يدعو إلى التجديد الديني ونبذ الخرافات والشوائب العالقة بتعاليم الدين الحنيف. كما دعا إلى تحديث مناهج التدريس الديني في كل مواقعه الرسمية والخاصة. فلدى زيارته للقاهرة في العام 1923 اتصل بالأزهر، ودعا مشائخه إلى تجديد مناهج التعليم في هذا الصرح الديني العريق بكل جرأة ومسؤولية وبعيداً عن المطاعن المسبّقة والتشكيك. أبو الكلام آزاد، هو نتاج كيمياء هندية – عربية، وفخر للأمتين معاً في أن يجمعهما، ثقافياً وإنسانياً، رائد من رواد التنوير الإسلامي، بمثل قامته ودوره النهضوي العظيم. رامبو إماراتي في الهند في فيللته الساحرة والمطلة على بحر خورفكان، وامتدادته في بحر العرب، والمحيط الهندي، جمعتني جلسة استثنائية بالشاعر سلطان بن علي العويس، ومعه نفر من رفاق الدرب والحياة في الإمارات والهند، يتقدمهم أبو عبد الرحمن الجرمن، أحد أبرز رواة الشعر بوجهيه: الفصيح والنبطي في الإمارات والخليج. (كان من محبّذي المتنبي والماجدي بن ضاهر). وجرى في تلك الجلسة، حديث مطوّل عن ثقافة البحر، وظروف الأسفار الأولى إلى الهند، ومغامرات التجارة بالذهب، و بيع«القماش» الأصلي المؤصل لمفاتيح التجار في الهند. قال سلطان العويس إن الشاعر البحريني إبراهيم العريّض، كان دليلاً عظيماً له في معرفة بومباي، وتاريخ الأسر الإماراتية والخليجية فيها؛ خصوصاً من غاب منهم، ولم يعد إلى البلاد، ومنهم «قمّاش» إماراتي شاب يدعى بدر العوضي، كان يتردّد على مكتبهم في بومباي، يقول أشعاراً نبطية غاية في الجمال والروعة. كما كان يقرأ قصائد بالفصحى له أيضاً، مؤثرة وقوية، مبنىً ومعنىً. ويردف العويس، بأن المعلومات التي يملكها الشاعر العريّض عن الشاعر الفتى بدر العوضي تقول إنه جاء بومباي وحيداً على متن سفينة تجارية برتغالية، وفقد كل ما لديه من مال، وأوراق ثبوتية شخصية، وخلاف ذلك. وحين جاء مكتب العريض، لم يطلب الفتى مساعدة مادية، ولا سؤال عمل أو تجارة. فيما بعد، علمنا بسوء أحواله المادية؛ (من تجار يمنيين يعرفونه) فعجبنا لأمره، وبادرنا، من فورنا، إلى تقديم مساعدة مادية له. قبلها شاكراً، وقال إنه سيردّ جميلها ذات يوم. وفيما بعد، (ووفقاً لسرد العويس عن لسان ابراهيم العريض) صار بدر يتحفّظ في قول الشعر، وحتى النقاش بشعر الآخرين من رموز النبط، مثل بن لعبون الكويتي، وبن ضاهر الإماراتي. وعندما يُسأل عن ذلك يجيب: «لا أريد أن أكرّر ما سبق وقلته. وعندما يتهيّأ لي جديد، فلن أتردّد في قوله». ذات يوم تعرّف بدر العوضي بامرأة هندية من مالابار. تزوجها، وشجعته فيما بعد، على الإنخراط في تجارة الذهب. ولما نجحت تجارته، وصار مقتدراً مادياً، غادر بومباي إلى مدينة هندية أخرى تدعى «باتنا»، عاصمة ولاية بيهار، الشهيرة جداً بمكتبتها العامة. هناك أنفق كل ما لديه على الفقراء والغرباء واللقطاء والمحتاجين.. وكذلك أنفقها على الشعراء والكتّاب والفنانين المعوزين. كما يقال إنه تقدّم بمساعدة مالية مجزية لمكتبة «خودا بخش خان» في باتنا. لكنه، ويا للمفارقة، لم يفصح عن هويته الشخصية، مكتفياً بتسجيل كلمات مقتضبة: «فاعل خير ثقافي». وتابع العويس: هنا أخذ الشاعر إبراهيم العريض نفساً وتنهّد قائلاً: لو تتفضّل عبر معارفك بسؤال استفساري عن أقارب له في سوق الذهب في دبي. أريد أن أعرف شيئاً عن مصيره.. أين هو؟ ميت أم حي...إلخ؟. وكنت تهيّأت ووطنّت نفسي (والكلام للعريض)، وهو بعد في بومباي، على جمع أشعاره وطبعها ونشرها. وعدني هو بالإيجاب، لكنه اختفى ولم يعد، ولم أعد بدوري أعرف عنه شيئاً. هذا الرجل الدبوي العُماني ضالتي يا أخ سلطان، وأرجو أن يكون ضالتك أنت أيضاً، لا لشيء إلا لأنك شاعر، وتقدّر الشعراء المميزين. وعندما أنهى سلطان العويس كلامه، تدخل أبو عبد الرحمن الجرمن، الخبير بالشعر والشعراء في منطقة الخليج والعراق قائلاً: نعم، سمعت باسم الشاعر بدر العوضي عن طريق تاجر مُحبّ للشعر من الكويت يدعى محسن العوضي. لكن محسن هذا، لم يعرف بدوره شيئاً شخصياً عن بدر، اللهم إلا أنه شاعر كبير، ومجهول أكبر. أما أنا كاتب هذه السطور، وقد عشت ردحاُ في الإمارات، هذا البلد الرائع والمميز في كل شيء، فقد سمعت أيضاً بالشاعر بدر العوضي، من خلال شاعر دبوي آخر، يدعى أحمد أمين مدني. قال لي إن بدر العوضي هو ابن لامرأة عجوز وحيدة ومتوحدة، غادرها ابنها الغامض بُعيد رحيلها ودفنها، على ظهر سفينة قيل إن وجهتها الهند. نعم، صار لدينا رامبو آخر، لكن رامبو فرنسا عاد من عدن إلى بلده. أما رامبو الإمارات، فلبس ثوب قصيدته الأجمل، ولم يعد من عزلته المدويّة. ماذا قال خبير بومباي الشاعر البحريني إبراهيم العريّض لسلطان العويس بخصوص الشاعر الإماراتي الغامض بدر العوضي؟ حل وسط بعد الصدمة الأولى للغزو ظهر استعداد لدى الهندوس والمسلمين لإيجاد حل وسط للتفاهم والتعايش كجيران.. ثم أدّت الجهود التي بذلوها لتأمين حياة جديدة لهم إلى تطوير ثقافة جديدة، لم تكن هندوسية حصراً، ولا مسلمة محضة، بل كانت في الواقع هي الثقافة المسلمة الهندوسية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©