الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسافرون في الولع الثقافي

مسافرون في الولع الثقافي
2 سبتمبر 2015 23:20
رؤية زايد 1970 في تصريح صحفي مهم للقائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أدلى به عام 1970 للصحفي الهندي المخضرم - آر. كي. كرانجيا - صحيفة (Blitz) الشهيرة قال: «إنّ العلاقة التجارية بين البلدين تعود إلى أربعة آلاف عام، والآن وقد أصبحنا على أبواب الاستقلال نود إحياء تلك العلاقة وتقويتها بكل طريقة ممكنة، وثمة فرص لا حدود لها للتجارة وحتى المشروعات المشتركة». أما الشق الثاني من هذا التصريح الخالد، فلقد وثق التاريخ جهود القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ونائبه الشيخ راشد بن سعيد المكتوم وإخوانهما الحكام مؤسسي دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971 - طيب الله ثراهم أجمعين - في إقامة صرح الإمارات عالياً، وتحقيق منجزات الشراكة الفريدة والخاصة بين الهند والإمارات، التي لا يماثلها سوى القليل في هذه المنطقة، أو في أي مكان من العالم، فهي شراكة ثرية ومتنوّعة وذات جوانب متعددة. والرؤية في 2015 بالأمس القريب، أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، «متانة العلاقات التاريخية بين دولة الإمارات وجمهورية الهند، التي أسس لها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، على قاعدة الثقة المتبادلة والصداقة المتينة والمصالح المشتركة، والتي سمحت بدورها بإرساء قواعد شراكة قوية بين البلدين الصديقين»، مضيفاً: «إن دولة الإمارات بقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، تحافظ على هذا النهج وتعززه بعلاقات متميزة ومتنوعة تخدم القطاعات الاقتصادية والتنموية والتجارية والثقافية والسياسية كافة». ورواية هندية من عهد زايد الكبير قبل أن نتوقف مع الشق الأول التاريخي من تصريحات زايد عن طبيعة العلاقة القديمة بين الهند والمنطقة، أستقطع هنا فقرات من مذكرات الهندي نارين آساربوتا صاحب كتاب (أبوظبي وجهتنا 1927- 2010)، الذي قدم له معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة وتنمية المجتمع، حيث قال: «لقد بذل نارين معظم حياته لعمله من أجل أبوظبي ودولة الإمارات العربية المتحدة، منذ أن حلّ في بلدنا قبل ما يقارب الستين عاماً.. وبدءاً من عام 1972 وطوال خمسة وعشرين عاماً تلت، غدا نارين شخصية مهمة في الدائرة الخاصة المحيطة بالقائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه)، وصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة (حفظه الله) في العين. فكان هناك في ذلك الموقع الذي يتوق المؤرخون أن يكونوا فيه»، يقول: «كان والدي قادراً على التحدث والقراءة باللغة العربية، واتخذ لنفسه عادات تشبه تلك التي لدى أهالي الخليج العربي، مثل ارتداء العباءة، البيشت، وحمل السبحة، وهذه كانت شائعة في مجتمعنا، إلا أن القوم في الهند اعتادوا أن تكون من الرودراكشا (نوع من البذور) تفوح منها رائحة التولسي (نبات الريحان المقدس) أو الخشب. بيد أن والدي ظل هندوسياً مخلصاً، واعتاد قراءة كتاب البهغفات غيتا المقدس لأطفاله، والحق أننا تعرفنا إلى تعاليم ديننا على هذا النحو، وعبر شروحه لنصوص كتاب الغيتا المقدس وليس عن طريق التربية الدينية الرسمية أو التوسع في قراءته. كان الهندوس والمسلمون في تاتة يتمتعون بعلاقات ودية، وكان فالابه (الاسم الذي اشتهر به والد المؤلف) حريصاً على وجه الخصوص على علاقات الود مع المعماري الحاج سومارو الذي تولى بناء داره، واصطحبه إلى أغرا لحضور مراسم زواجه الثاني. بل ولقد اصطحب الحاج سومارو والدي معه للحج في مدينة ماثورا المقدسة، في الهند، تلك المدينة التي ولد فيها الإله كريشنا». حرية العقيدة منذ القدم اقتبست هذه الفقرة من قصة طويلة أراد من خلالها المؤلف لأن إشارة نارمين في مذكراته إلى والده الهندوسي وتعاليم دينه وممارسته لطقوسه استوقفتني، لكونها إشارة على وجود حرية العقيدة والعبادات المرتبطة بها في المنطقة منذ القدم، وهذا ما تؤكده المصادر التي توثق للوجود الهندي في الخليج العربي، من أن السلطات الحكومية سمحت للهنود ببناء معابدهم، وممارسة طقوسهم. وطبقاً لدراسة قدمها حاجي عبداللطيف السركال الوكيل السياسي في الشارقة عام 1901 إلى المقيم السياسي في بوشهر، فإن عدد البانيان في أبوظبي كان 39 وفي دبي بلغ 52 وفي الشارقة 76 وفي رأس الخيمة 9 وفي عجمان 4 وفي أم القيوين 3، ولقد كان عدد الهندوس أكثر من الهنود الخوجة في الساحل ربما بسسب ازدهار تجارة اللؤلؤ الذي كان يصدر إلى الهند، وكان للبانيان دور كبير في تجارته وتمويله وتسويقه، حيث كانت أغنى مغاصات اللؤلؤ في الخليج تقع بين شبه جزيرة قطر وسواحل أبوظبي وبالذات في جزيرة دلما. لقد كان صيد اللؤلؤ يلعب دوراً مهماً في اقتصاديات الخليج العربي، خاصة خلال الفترة من 1809 وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، وقد لعب الهنود سواء المقيمون منهم أو الزائرون دوراً مهماً في اقتصاديات اللؤلؤ، فقد كانوا يخصصون في مواسم الغوص نسباً لا بأس بها من الطواويش، بالإضافة إلى أن الأموال المكتسبة من تجارة اللؤلؤ كانت تعود مرة أخرى للتجار الهنود. كما كان التجار الهنود يستفيدون من الانتعاش الاقتصادي الناتج عن الغوص لترويج بضائعهم. إفصاحات التاريخ والآثار تأكيداً لتصريحات القائد المؤسس زايد الخير - طيب الله ثراه - فإن أقدم المكتشفات الآثارية للتبادل التجاري بين المنطقتين كانت من جزيرة أم النار ومنطقة هيلي بمدينة العين، وتعود للعصر البرونزي 2000 - 3000 سنة ق.م، وهي خناجر برونزية شبيهة بصناعات منطقة حوض نهر الهندوس. وتشير بعض المصادر إلى أن جانباً من نحاس ماجان كان ينقل إلى الهند. ومع الأيام وخلال القرون الأخيرة قبل الميلاد والقرون الميلادية الأولى؛ ازدادت أهمية الخليج العربي في خريطة التجارة الدولية، وزاد عدد الدول والحضارات التي تعتمد عليه كطريق تجاري لصادراتها والواردات، ليصبح هذا الممر المائي العربي رابطاً حيوياً بين تجارة الشرق الأقصى والهند من جهة، وتجارة الجزيرة العربية و بلاد الرافدين وسوريا ومصر واليونان وروما من جهة أخرى، وإذا كان أول من أتى الهند لنشر الإسلام في ربوعه هو حكم بن العاص الثقفي ومن ثم إلى الساحل الغربي للهند وميناء كجرات والديبل أخيه مغيرة بن العاص الثقفي، فإنه في سنة 44 للهجرة نزل ثغر الهند المهلب بن أبي صفرة ابن دبا في الإمارات، ومن بعده محمد بن القاسم الثقفي سنة 92 هجرية ليفتح السند. ويذكر المرزوقي المتوفى عام 421 الهجري في كتابه الأزمنة والأمكنة (سوق دبا) في المنطقة الشرقية للإمارات ضمن جملة أسواق العرب، إذ كانت دبا قصبة عمان ويشير إلى «وجود تجار السند والهند والصين وأهل المشرق والمغرب في هذا السوق». إذاً مع مجيء الإسلام في القرن السابع للميلاد ولغاية القرن العاشر كان هذا هو العصر الذهبي للعلاقات التجارية بين الهند والعالم العربي عموماً، وخلال العصر الإسلامي حافظ العرب على ريادتهم في التجارة عبر الخليج العربي، الذي بقي شرياناً تجارياً هاماً يربط تجارة الهند والشرق الأقصى مع تجارة أوروبا عبر العالم الإسلامي هذه المرة. وصار الساحل الشرقي للخليج العربي من جاسك حتى البصرة شمالاً.. والساحل الغربي من مسقط وحتى البصرة شمالاً، يزخران بالموانئ والمراكز التجارية التي يسيطر عليها العرب المسلمون، ومن الموانئ الهامة التي ازدهرت في فترة السيادة العربية الإسلامية: سيراف وقيس وهرمز على الساحل الشرقي للخليج العربي، ومسقط وصحار والبحرين وجلفار والبصرة على سواحل الجزيرة العربية والعراق. هناك كانت تفرغ حمولة السفن لنقلها لمدن الداخل أو لإعادة تصديرها إلى وجهات أخرى، وفي المقابل تحمّل هذه السفن ببضائع هذه الموانئ وما ورد إليها من بضائع المدن والدول الداخلية لتعود بها إلى بلدانها. وكانت أهم السفن الراسية في هذه الموانئ تلك القادمة ببضائع الهند والملايو والشرق الأقصى وشرق أفريقيا، فمن بضائع الهند السكر والأرز والحديد والمنسوجات القطنية والرصاص والقماش وأيضاً الفلفل. ومن جزر الملايو تأتي أهم التوابل كجوزة الطيب والقرنفل، ومن سرنديب أو سيلان حالياً تأتي القرفة، كذلك يأتي الفلفل من جاوة وسومطرة، وتعد التوابل من أهم ما يحرص الأوربيون على شرائه، ربما لما تضفيه من طعم مميز على وجباتهم، وما تشعله من دفء في أجسادهم، يمكنها من التصدي للبرودة القارسة في قارتهم. وكان أحد أهداف الكشوف الجغرافية التي قاموا بها في العصور الوسطى؛ الوصول إلى مصادر التوابل وكسر احتكار العرب لتجارتها. العهد الاستعماري تاريخياً مرت المنطقة بمراحل متعددة من الوجود الأجنبي بدأت بالسيطرة البرتغالية (1507 - 1550)، تلتها تنافس القوى الهولندية والبريطانية على المنطقة بين ( 1650 - 1820)، وقد انتهت بالسيطرة البريطانية التي شنت هجوماً واسعاً على الأسطول البحري الكبير للقواسم (حكام الشارقة ورأس الخيمة) لكونهم قوة إقليمية بحرية متنامية، بجانب القوة البرية المتمثلة في حلف بني ياس. وفي أعقاب هزيمة القواسم عام 1820 وقعت بريطانيا سلسلة من الاتفاقيات مع شيخ كل إمارة أضيفت لها لاحقا معاهدات تتعلق بالهدنة في البحار فأصبحت المنطقة تعرف باسم (الإمارات المتصالحة). وقد سيطر البريطانيون تماماً على تجارة الخليج العربي بدءاً من عام 1820م حتى ما بعد منتصف القرن العشرين. ولقد دافع أهل الخليج عن تجارتهم التي نافسهم فيها الغزاة، وحاربوا من أجل حماية هذه التجارة حتى وصلوا حدود الهند. العهد الذهبي للؤلؤ بدأ تنظيم الغوص لاستخراج اللؤلؤ في الإمارات عام 1279هـ/‏1861م، حين بدأ السكان صناعة السفن الكبيرة، وأخذ التجار يتوافدون من الهند لشراء اللؤلؤ، حينذاك ابتدأت الثروة تنمو شيئاً فشيئاً، حتى قدر ما يستخرج من البحر سنة 1235هـ/‏1905م بـ (15 مليوناً) من الروبيات الهندية. ووفق الأرقام والبيانات الواردة في بحث ميداني قام به معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة، فإن نصيب أبوظبي كان الأعلى، وكان أسطول الغوص التابع للإمارات يعدّ ألف وخمسمائة سفينة، في حين قدر أسطول تجار اللؤلؤ بحوالي ستين سفينة، وهذه السفن كلها موزعة بين أبوظبي ودبي والإمارات الأخرى بواقع 550 سفينة في أبوظبي، منها 520 سفينة لصيد اللؤلؤ وثلاثون سفينة لتجار اللؤلؤ، وفي دبي 510 سفن، منها 500 سفينة لصيد اللؤلؤ وعشر سفن لتجار اللؤلؤ. بينما توزعت خمسمائة سفينة أخرى بين الإمارات الأخرى، منها 480 سفينة لصيد اللؤلؤ وعشرون سفينة للتجار. وإذا استطردنا في هذا العرض العام للإحصائيات والتقديرات المتاحة، فإننا نهدف بذلك إلى تأكيد أهمية هذا المصدر حول (الغوص واللؤلؤ) بالنسبة لمواطني الإمارات في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. كما أن تلك التقديرات تفيدنا أيضاً بأنه «كان متوسط القيمة السنوية للآلئ المصدرة من الإمارات حوالى 20 مليون روبية، وتذهب معظم الأرباح إلى جيوب الممولين، فبينما يقدر متوسط الدخل السنوي للفرد العامل في صيد اللؤلؤ بين 200 - 300 روبية فإن دخل تجار اللؤلؤ قد يصل إلى 1500 روبية». وتفيدنا تقديرات أخرى أنه في عام 1905 بلغت القيمة السنوية لصيد اللؤلؤ في الإمارات نحو 80 لك (واللك تساوي مائة ألف روبية)، وبناء على تلك التقديرات للحصيلة السنوية من اللؤلؤ كوّن تجار الإمارات ثروة هائلة، وعندما تراكمت الثروة في هذه البلاد توسع أهلها في المأكل الطيب والملابس الفاخرة، وأخذت النساء يتحلين بالذهب المطعم باللؤلؤ ويلبسن الحرير والجوخ بأنواعه وأخذ الناس يسرحون ويمرحون بتلك النعمة. كما اعتمد حكام الإمارات الذين كانوا يفرضون ضرائب على كل مركب في هذه الصناعة كمصدر أساسي للدخل. ولقد كان المتاجرون باللؤلؤ وهم الطواويش يجمعون اللؤلؤ من الغواصين ويبيعونه في البحر أو يسافرون به لعرضه وبيعه في أسواق البحرين أو الهند (بومباي) وهؤلاء هم كبار الطواويش... لكن اللؤلؤ لم يكن سهلاً أبداً... درّة الخليج ونحن نودع صيفنا القائظ جداً، سرعان ما نتذكر معاناة آبائنا وأجدادنا (يراير الأعماق) الذين كانوا يخوضون مراحل شتى من المآسي والمتاعب والمشاق في رحلات يلفها المجهول منذ البداية لأجل «درة الخليج» تلك الجوهرة الطبيعية البهية الثمينة أجمل لآلئ الأعماق البحرية في العالم، وهي التي أحبها الهنود والصينيون وأباطرة الشرق وملوك الغرب وشعوبهم ووصفها الخليجيون بأنها «بوسبعة أرزاق». ومن أجل أن «تكتمل القلادة في عنق جارية تنام على وسادة، كان الأجداد والآباء يمسكون مرتجفين في فجر كل يوم مفلقة المحار، حسب وصف الشاعر الكويتي الشهير محمد الفايز، رحمه الله، وهو القائل أيضاً: أركبت مثلي البوم والسمبوك والشوعي الكبير؟ أسمعت صوت دجاجة الأعماق تبحث عن غذاء؟ هل طاردتك اللخمة السوداء والدول العتيد؟ وهل انزويت وراء هاتيك الصخور؟.. في القاع والرماي خلفك كالخفير؟.. يترصد الغواص؟.. ذلك هو صوت «الغيص»، أي الغواص، حجر الزاوية في صناعة اللؤلؤ، يأتي من الأعماق محمولاً على اللوعة، وحرقة الأسئلة التي تجسد معاني الألم والأسى. كيف لا، وهو سادر في طريقه المجهول لا يعرف إن كان سيعود أم لا؟ لم يكن الغوص على اللؤلؤ رحلة ولا نزهة، كان أشبه بعبور الجحيم مرة بعد مرة.. لكنها ضريبة الحياة، ربما ضريبة الجغرافيا أيضاً، حيث لم يكن أمام الخليجيين في ذلك الزمن سوى البحر، ليحصلوا منه على رزقهم وقوت عيالهم.. لهذا ارتبطت حرفة الغوص على اللؤلؤ بحياة الخليجيين ارتباطاً وثيقاً منذ آلاف السنين، واستمروا يزاولون الغوص حتى منتصف القرن العشرين، حيث شكل هذا العمل عماد الحياة الاقتصادية، وكانت الموانئ المنتشرة على طول السواحل الغربية عبارة عن مراكز لصيد اللؤلؤ من شط العرب شمالا وحتى عمان جنوباً. وكما كانت أيدي الغواص الخليجي الباسل تنتزع «درة الخليج» من بين فكي أسماك القرش القاتلة في أعماق المغاصات المظلمة، فإن صناعة الغوص وتجارته عبر التاريخ العريق حافلة بفعاليات الأخذ والعطاء وغنية بالعلوم والمعارف والخبرات النادرة والقيمة، وأيضاً بالعبر والدروس الخالدة، وهو تراث كفيل ببث الإضاءات المشرقة في آفاق مسيرة الحاضر والمستقبل، وجدير بإنعاش النبضات المتدفقة في روح حياتنا المعاصرة. سفراء بدرجة لآلئإلى بومبي، كبرى موانئ الهند، كانت تصل كل عام تلك الكميات الكبيرة الثمينة من إنتاج مغاصات اللؤلؤ في الخليج، وعلى ظهر بواخر شركة الهند البريطانية كان المئات من «الطواشين» تجار اللؤلؤ يتنقلون بين بلدانهم والهند محملين بثروات متفاوتة القيمة ما بين خمسة آلاف روبية إلى مئة ألف روبية فأكثر. كانت المادة المصدّرة ثمينة، قيّمة، متعددة الأنواع والأشكال والأحجام ومتفاوتة الأسعار. كان العرض كثيراً، وكذلك الطلب والتنافس، بينما السوق خارجي والتعامل فردي سلاحه «الشطارة» والخبرة والسعي، والعصر بدائي لا يعرف السفارات أو المراكز التجارية أو أية مؤسسات مماثلة. في تلك الظروف، اختار بعض أولئك التجار المتنقلين ممن يملكون الخبرة والمعرفة، أن ينصّبوا من أنفسهم سفراء غير رسميين لخدمة «طواشي» اللؤلؤ المتنقلين من ناحية، وللجدوى الاقتصادية الاستثمارية المجزية في القيام بهذه المهمة من ناحية أخرى، متكبدين في سبيل ذلك مشاق الغربة ووحشتها، إن جاز التعبير. تحضرني هنا أسماء: عبد الرحمن بن المدفع، حميد بن كامل، عبيد بن عيسى النابودة، (من أبناء الإمارات).. آل عبد الرزاق، والجنيعات، والشايع.. والبستكية مثل مصطفى عبد اللطيف، والعباسي، ومحمد على زينل الملقب (بملك اللؤلؤ)، وآل البسام (من الكويت). كل هؤلاء وغيرهم كانوا بمثابة سفراء غير رسميّين في الهند، يقومون بخدمة تجار اللؤلؤ الخليجيين، سواء أولئك المترددين على بومبي كل شتاء بعد توقف موسم الغوص في بلدانهم لتسويق حصيلة الموسم، أو أولئك «الطواشين» الكبار الذين يرسلون ما جمعوه من اللؤلؤ لبيعه في بومبي. وهناك أيضاً مجموعة أخرى من الشباب الخليجي الذين اختاروا البقاء والإقامة في بومبي ليمارسوا دور القائم بالأعمال، وبمهام مختلفة في عالم تجارة اللؤلؤ، تمثل أبرزها في الوساطة بين أولئك التجار الكبار «السفراء» وبين سوق اللؤلؤ ومشتريه، ومن ناحية أخرى «الدلالة» والإرشاد، ومساعدة أولئك المترددين على بومبي لتسويق اللؤلؤ، وذلك بحكم معرفتهم وخبرتهم وتمكنهم من السوق. مصايف الهند وثقافتها عودة إلى الشهور الصيفية المعاصرة يرسم لنا البرفيسور ذكر الرحمن رئيس تحرير مجلة ( ثقافة الهند) عام 2012 صورة أخرى مثيرة حين يقول: «تلألأت المصايف وتزخرفت، وتزينت بأزهار وورود وأشجار وثلوج، وشلالات نقية، وروضات بهية ، ومشاهد ثرية؛ فترى كشمير بثلوجها تفتحت كالوردة البيضاء وتبسمت ثغرات شيملا، واخضرت غابات كيرلا، وكأنها ترحب بسيّاحها وتحيّي زوارها ليقضوا إجازة صيفهم في أحضانها. وعلى هذا المنوال يأخذ البروفيسور قرّاءه في جولة ممتعة في رياحين أدبية وأسماء تاريخية ومصادر علمية ونظريات قديمة تربط القارة الهندية بالعالم العربي. لقد كنت، شخصياً، في نيودلهي صيف 2013. وكانت درجة الحرارة تراوح بين 40 - 45 حين وقع بين يدي هذا العدد أثناء زيارتي الخاطفة لسفارة الإمارات هناك، قادماً من تاميلنادو الحارة وأوتي الباردة. ولقد تعرفت في العام الماضي على البرفيسور ذكر الرحمن غزير العلم والخبرات الثقافية والدبلوماسية، ووقفت منه على أنشطة المجلس الهندي للعلاقات الثقافية والمركز الثقافي الهندي العربي - الجامعة الملية في نيودلهي، ومنها مجلة ثقافة الهند، إضافة إلى الاتفاقية المبرمة بين الجامعة والمجلس ومشروع كلمة في دار الكتب الوطنية - هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة. الهند في الثلاثينيات الصيف - وتحديداً - جون وجولاي وأغسطس من عام 1968 كان للأديب والصحفي الإماراتي الأول إبراهيم بن محمد المدفع حضور ثقافي أو قل تجليات بديعة، وقد زودنا ابنه الأديب القدير عبدالله مشكوراً ببعض من مخطوطات أرشيف والده ومنها قصائده عن الهند: دع عنك شيراز وشرذمة بها وارحل إلى الهند العزيزة عاجلاً واقصد إلى بومباي في أوقاتها في جون مع جولاي وقتا كاملا وكذا أغسطس فهو يكفي للذي يرجو المصيف هناك فذلك أفضلا لا يفوت المدفع وهو يجول بين مراتع العصر الذهبي لتجارة اللؤلؤ وسوقه العالمي الشهير في بومبي، وبين آثار المساكن والمجالس والعمارات والعقارات والأندية والمدارس للمجتمع الخليجي القديم هناك، الذي برزت فيه رموز تجارية وثقافية من عائلته وأصدقائه وأبناء الإمارات، أن يسجل ما ترى عيناه ويختلج به فؤاده شعراً، ليترك لنا وثيقة على الحضور الخليجي والإماراتي في هند الثلاثينيات: بومبي يا مرتع الغزلان من قدم وملتقى كل محبوب ونشوان بومبي يا من لها في القلب منتجع وذكريات بها للتاريخ مليان وكأن الفصحى لم تكف لتبوح بحاله وأحواله وتعبر عما يريد، فيلجأ إلى الشعر العامي لعله أقرب للروح موثقاً ذكرياته وغربته عبر استدعاء شخص هندي، لعله صديق، من سكان منطقة كيت واري من أحياء بومبي، ومطلعها: مريت أنا في «كيت واري» أبحث عن اللي كانوا سكون ما ريت فيها لهم طواري وإلا ذكر حتى يجيبون ان قصائد المدفع التي تصور لنا ذكريات الماضي الحيوي للمجتمع العربي في بومباي، ومن خلالها يمكننا رسم صورة حيوية، نابضة، لما كان يجري هناك.. ولعلنا نفعل ذلك في مرات أخرى... بومبي.. مجالس للأدب والفكر وبيع اللؤلؤ أول شخص تلقى تعليماً حديثاً تلقاه في الهند، وهو المرحوم حسن المدفع. كان مع والده عبد الرحمن بن حسن المدفع تاجر اللؤلؤ الشهير في بومباي، حيث أقام 40 سنة وتوفي هناك. وكغيرة من تجار اللؤلؤ كان يسافر إلى الهند كثيراً، ويترد في بومبي على ناد يجتمع فيه الخليجيون والعرب والهنود المسلمون لتبادل الأحاديث والاطلاع على الكتب والصحف والمجلات وغيرها من الأنشطة. كان يسمى «المنتدى» ولكثرة ما ولع به المدفع قام فور عودته إلى البلاد عام 23- 1924 بتخصيص غرفة في منطقة المريجة، بالشارقة، لتكون نادياً مماثلاً وسماه «المنتدى الإسلامي». وكان المنتدى الإسلامي مجلساً أدبياً وفكرياً يلتقي فيه الكتّاب والأدباء والمثقفون وذوو الفكر والرأي، كما كان تجمعاً لكثير من الأدباء العرب الذين تواجدوا في تلك الفترة أو الذين كانوا على صلات به. وكانت هذه اللقاءات تجمعهم على القراءة والاطلاع والأدب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوفرت به الكتب الدينية وقصائد المتنبي والمعري وغيرهما. وكان رجال الأدب والتجار الذين سافروا إلى الهند هم أعضاء هذا المنتدى ومنهم الشيخ عبدالله بن حديد وحميد الكندي وهما من رجال الفكر والأدب وآخرون. وما تزال آثار هذا النادي قائمة، حيث تم ترميمها مؤخراً تمهيداً لتوظيفها متحفياً بالقرب من مجلس المدفع المفتوح للزوار، كما كان شأنه في حياته رافداً ثقافياً فاعلاً ومؤثراً في مريجة الشارقة التي تفوح عبق الماضي وصداه من عمارتها التراثية المرممة والموظفة كشاهد على علم الإنسان وعمله. نقرأ عن المجتمع العربي في بومباي وعن الفعاليات الثقافية للمثقفين الخليجيين المقيمين والمترددين وعن عبدالرحمن بن حسن المدفع المزيد من المعلومات القيمة والمثيرة موثقة بخط الأديب والمؤرخ عبد الله بن صالح المطوع صاحب كتاب (الجواهر واللآلئ في تاريخ عمان الشمالي) في مراسلاته أو رسائله الموجهة من بومبي لصديقه الحميم إبراهيم المدفع. وتجدر الإشارة إلى أن عبد الله بن صالح المطوع صادف وجوده مع قيام الحرب العالمية الثانية في الهند ضمن مجموعات من أبناء الإمارات والخليج. أما الأديب مبارك بن سيف الناخي، الذي ولد ونشأ في الشارقة سنة 1318 هـ، وتوفى فيها سنة 1982م، فكان كثير الترحال بين الشارقة ودبي وبلاد الهند وأفريقيا، وكانت حالة الناخي المادية كتاجر لؤلؤ محدودة، ولكنها ظلت تمكنه من السفر إلى الهند والبحرين والكويت فيتصل برموز الثقافة وزعماء الإصلاح فيها، ففي الهند كانت حصيلة زياراته لها كبيرة لتكرار تلك الزيارات فكان يلتقي بين فترة وأخرى بمفكري المسلمين وزعمائهم مثل السيد محمد علي جناح ولياقت علي خان وشوكت علي وأبو الكلام أزاد، وكذلك بعض العلماء الندويين كالشيخ سليمان الندوي وكان لا يقطع صلته بالنادي العربي في بومباي وبأركانه مثل الشيخ محمد السديراوي، وكذلك بجمعية الثقافة العربية الهندية هناك، وكان قد زار الهند والتقى بعدد من علماء الجامعة المركزية الذين رحبوا به وكان من بينهم الشيخ أبو الحسن الندوي. وفي الهند، تمت طباعة الكتب والدواوين الشعرية الخليجية على مطابع الهند الآلية والحجرية خلال النصف الأول من القرن العشرين. ويروي المؤرخ عمران بن سالم العويس عن مكتبته الشخصية الحافلة أنه وضع نواة هذه المكتبة منذ أن كان طالباً في الهند، ذلك أنه خلال فترة إقامته هناك، والتي دامت ثماني سنوات متواصلة تقريباً، كان إلى جانب التحصيل العلمي مهتماً بالقراءة والاطلاع، خاصة في تاريخ الخليج وشبه الجزيرة العربية. ولحسن حظه، وجد في الهند مكتبات كبيرة تبيع الكتب العربية منها مكتبة السورتي في بومباي وهي ما تزال موجودة إلى اليوم. من هذه المكتبات كان يحصل على الكتب الجديدة التي تصدر في مصر أو أي دولة عربية أخرى، خاصة ما يرتبط بالتاريخ عامة والتاريخ الإسلامي خاصة. وذات مرة، كما يقول، حصل على ديوان «ابن دريد»، وهو من أبناء منطقة «قدفع» بالإمارات ولد في خلافة المعتصم العباسي إبان القرن الثالث الهجري، وقد حقق ديوانه بدر الدين العلوي أستاذ اللغة العربية في جامعة عليكر بالهند. ويروي عن بومباي: كانت بومباي يومها كبيروت قبل الحرب، من حيث حرية فرص التعليم والاطلاع، وكان هنالك مجتمع عربي يجمع تجار اللؤلؤ في الخليج إلى جانب غيرهم من أبناء الدول العربية. وهناك أتيحت لي فرصة الاطلاع على كثير من الكتب والتقارير التي كتبت عن المنطقة باللغة الإنجليزية، واهتممت أكثر بما كتب في التاريخ الإسلامي والعربي. فقد اطلعت مثلاً على كتاب الدكتور جواد علي، وقبله كتاب «تاريخ الطبري» وابن الأثير والمسعودي وغيرها، وجمعتني إقامتي هناك بعدد من الشخصيات المهتمة بالثقافة والعلم منهم عبد المنعم الزواوي وأولاده من (عمان). كذلك أتذكر السيد أحمد الشبيلي سكرتير السلطان تيمور بن فيصل الذي كان يقيم في بومباي، هذا عدا أهل الإمارات المعروفين، منهم عيسى اليوسف، ومنهم آل بسام، الشيخ عبد اللطيف العبد الرزاق الذي كان آنذاك في أواخر عمره، وهو من الشخصيات الكويتية المرموقة، وكان من نتائج ذلك تأسيس مدرسة عربية في بومباي. ومن الشخصيات المعروفة بعلاقاتها المتميزة بالهند، الشاعر المعروف سلطان بن علي العويس وسكرتير النادي العربي في الهند عبدالكريم بن محمد تقي يلقب بالكابتن، وغيرهم كثر من الناشطين في الهند، الذين أقاموا فيها. المدفع.. خزانة الطوّاشين عبد الرحمن بن حسن المدفع، غادر الشارقة عام 1932 ليقيم في بومبي حتى وفاته «رحمه الله» في 1948. كان بيته الكبير مفتوحاً لكل من قصده من تجار اللؤلؤ وأبناء الإمارات يترددون عليه طيلة مقامهم في الهند. وكان يمتلك خزانة كبيرة يحفظ فيها «الطواشون» ما بحوزتهم من اللؤلؤ الثمين، حيث يقوم بعد ذلك بشرائه منهم بنفسه، أو يقوم بتسويقه لهم بوساطة «الدلالين» للتجار الهنود في «موتي بازار»، أي سوق اللؤلؤ، مـن ناحيـة أخـرى، كان بعض التجار الخليجيين يقومون بإرسـال كمـيات كبيـرة من اللؤلؤ إليـه بوساطـة مراسلين أو مندوبين عنهم، فيتولى مهام تسويقـه، وإرسـال المـردود إليهم نقـداً، أو يصدر لهم ما يطلبونه من بضائع ومشتريات. حميد وعبيد حميد بن كامل وعبيد بن عيسى النابودة من تجار الإمارات الذين أقاموا في الهند، ولكن على فترات كانت تمتد ما بين 5 و7 سنوات. وكان الاثنان شريكين معاً، ولهما ممتلكات عقارية في الهند، وما زالت عمارتهما باقية حتى اليوم، مكتوباً عليها (H.O)؛ أي حميد وعبيد. وإلى جانب قيام هذين الاثنين بدور مماثل لعبد الرحمن المدفع، فإنهما كانا أيضاً يقومان بتصدير النوعيات الجيدة من اللؤلؤ، خاصة «الجيون» و«اليكة» إلى فرنسا؛ لذلك فإن حميداً خاصة كثيراً ما كان يقيم في باريس على فترات لتسويق اللؤلؤ هناك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©