الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسطورة حبّ أم «لعب»؟

أسطورة حبّ أم «لعب»؟
7 سبتمبر 2011 23:56
«البرهامة» للبحريني علي الشرقاوي صدرت في الشارقة إن ذِكْر العديد من الأشكال الإبداعية قد يحيل إلى حال اندثارها وعدم قابليتها للعيش؛ أي للمقدرة على التعبير عن أكبر قَدْر ممكن من التعبير الفردي والجمعي عموما. وهذه الحالة ربما تنطبق تماما على ما تمّ استحداثه مطلع القرن العشرين وعُرِف في الثقافة العربية تحت مسمى “المسرح الشعري” وبرع فيه العديد من الشعراء العرب من بينهم أحمد شوقي. لقد استنفد هذا الشكل الشعري ـ المسرحي ـ الغنائي طاقته التعبيرية مبكرا فتسللت اقتطاعات منه إلى فنون أخرى كالسينما وما شابهها من فنون سمعية بصرية، لكن يظلّ فن الأوبريت الغنائي هو الأكثر قربا للمسرح الشعري بنسخته التي انتقلت إلى الثقافة العربية من الغرب إبان الحقبة الاستعمارية التي استمرت حتى منتصف القرن الماضي حيث كما لو أن هذا الشكل الإبداعي قد لفظ أنفاسه الأخيرة. الشاعر البحريني علي الشرقاوي، الذي هو كاتب مسرحي وكاتب لنص الأوبريت الغنائي، وفي مسرحية “البرهامة” التي ضمها كتاب “نصوص مسرحية بحرينية” الصادر مؤخرا عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة... الشاعر الشرقاوي يحاول إعادة الاعتبار لفن المسرح الشعري بأثر من التطورات التعبيرية والتقنية التي طالت الشعر العربي خلال السنوات الخمسين الماضية وكذلك باستفادة من خبراته في تأليف النص الأدبي للأوبريت والقصائد الغنائية إجمالا وكذلك التحديث الذي طال آليات كتابة النص المسرحي راهنا ليكتب نصا مسرحيا شعريا ليس قابلا للعيش فقط إنما من الممكن تقديمه على خشبة المسرح بوصفه أبريت غنائي من الممكن أن يكون للرقص دور تعبيري متقدم فيه أو إسقاط غنائيته كلها لتقديم مسرح حديث أو تقديم شعر محض يحمل رسالة مباشرة في قالب شعري مرفوعا على حاضنة غير شعرية هي المسرح. في “البرهامة” يختار علي الشرقاوي الذهاب إلى حاضرة “دلمون” التي ترقى حضارتها إلى عهد ما قبل ميلاد السيد المسيح حيث يشتبك الأسطوري مع التاريخي وحيث من المباح للمخيلة الابداعية أن تخلق من “كِسْرة” من التاريخ أو مما وصل إلينا من وثائق عالما قائما على تأويل الحدث والصراع والشخصيات وطبيعة التوتر الدرامي بما يسمح لقارئ النص أن يُحدِثَ إسقاطا على الراهن التاريخي أو الزمن المعيوش بما يحتمله النص ومخيلته الابداعية عندما لا يكون هناك إفراط في التأويل التاريخي ـ الأسطوري أو مبالغات في الإسقاط على الواقع. بهذا المعنى يقدّم علي الشرقاوي في “البرهامة” عملا مسرحيا ـ شعريا ـ غنائيا يقوم بالدرجة الأولى على البساطة في الحكاية والحدث الذي هو مطروق بالتأكيد من قبل في المسرح العربي، وفي نصه الأدبي على الأقل، ويقوم بالأساس على مسألة الصراع على السلطة إنما في شكل ورؤية مسرحية توظف الشعر والغناء لتجعل رسالة العمل أكثر قربا إلى المتلقي بصرف النظر عن مستوى ثقافته المسرحية. وربما، بسبب منطق صناعة العمل المسرحي ـ الأوبرالي، لا يذهب الشرقاوي إلى الصراع مباشرة بل يقدم في مشهد استهلالي طقسا جمعيا يضع قارئ “البرهامة” في الأجواء التي تجري فيها الحكاية وليس في الحكاية ذاتها، وهذا المشهد رغم أنه قصير بالمعنى الزمني إلا أنه يضع القارئ أمام العقل والسلطة التي تحكم مجتمع مدينة “دلمون” بما يتضمنه ذلك من مصائر فردية وجمعية تتقاطع وتتنافر وفقا لمشيئة الكهنة، أي أن المعابد تتحكم بأقدار البشر ومآل المجتمعات على الرغم من قوة الآلهة وكذلك أنصاف الآلهة من الحكام بحسب المنطق الأسطوري الذي كان سائدا في تلك الفترة اللاتاريخية فعلا والتاريخية إذا حملها القارئ على التأويل والمعرفة بالمنطق الذي يحكم آليات سلوك أية سلطة حديثة. وعلى مستوى البنية، وفي ما يتصل ببناء الشخصيات، فإن شخصيتي الثائرين “مرجان” و”البر” تحيلان القارئ مباشرة إلى الشخصيتين الأسطوريتين: جلجامش وانكيدو صاحبي أشهر أسطورة وصلت إلينا مكتملة تقريبا من عصور ما قبل التاريخ، والفارق أن جلجامش وانكيدو ينتميان إلى الطبقة العليا في المجتمع البابلي في ما ينحدر “مرجان” و”البر” من أسافل مجتمع “دلمون”، غير أنه هذا الفارق بين شخصيتي كل من بابل ودلمون يؤسس لفارق أساسي في السؤال الجوهري الذي يجري طرحه على أي قارئ للنصين من الزمن الراهن؛ ففي حين أن سؤال جلجامش وإنكيدو هو سؤال وجودي إلى حدّ بعيد ويتعلق بمصير الفرد في هذا الكون وعلاقته بمنظومة العلاقات التي تحيط به وتتحكم بطبيعة حراكه فإن السؤال لدى شخصيتي دلمون، بحسب نص علي الشرقاوي، هو سؤال واقعي تماما بل وله راهنيته أيضا، إنه سؤال يتعلق بالموقف “الطبقي” من السلطة والخروج على أساليب هيمنتها على مصائر الأفراد والمجتمعات التي تقوم بتقسيم المجتمع إلى مجتمع تراتبي يستمد ذرائع استمراريته كما هو عليه من بطش المعابد وقوة الطبقة العليا التي تنبذ أمثال “مرجان” و”البر” وتتركهما فتاتا يحيا على فتات، وحيث تجب عليهم الطاعة العمياء لقدر من الممكن تغييره أو إجراء تحويل في آليات عمله. إنهما من فئة العبيد الذين يتساءلون لماذا هم العبيد عند سواهم من البشر. ومع تدفّق مشاعر الحب الإنسانية بين “البرهامة” الأميرة و”البر” يتصاعد خطّ درامي تبرز عبر الموقف منه حقيقة كل شخصية على حدا، “الليث” القاسي والفاشل والذي يملك كل الدنيا بما فيها “البرهامة”، ثم شخصية “البر” بفروسيته وشهامته إذ يقوده الصراع على قلب المرأة مع منافسه الليث إلى المأساة ذات الطابع الشكسبيري الحديث حيث لا يبقى أحد من قطبي الصراع بين الخير والشر على قيد الحياة لكن يبقى المجد للحب في الأعالي. وهذا التسارع في إيقاع العمل يجعل القارئ يشعر أن “البرهامة” ينتهي سريعا وربما على نحو غير متوقع، فالعمل رغم مشاهده التسعة عشرة تتلاحق أحداثه بسرعة الغناء أو بسرعة أداء راقص إذ أن المخيلة لا تتوقف عن الدوران أثناء فعل القراءة وكذلك عن التأويل غير أن الإسقاط على ما هو راهن أمر محمول على الدلالة الواسعة والكبرى للعمل وليس على التفاصيل الدقيقة، ما يجعني أن أية قراءة له قد تجد إسقاطا من نوع آخر وسؤالا جوهريا يطرحه النص على القارئ مختلف تماما عما يدركه قارئ آخر. وعلى مستوى الكتابة الشعرية بوصف الشعر هنا هو عنصر درامي مرتبط بفعل الممثل وردّ فعل الممثل الذي يقابله، فإن الشرقاوي إذ يذهب غالبا إلى ما يبقي على الحوار جزءا من العمل المسرحي فإنه أحيانا ينزع إلى التكثيف والاختزال وتحديدا عندما يعبّر عن الحبّ أو المشاعر الأخرى، وأيضا فإذا كان دور الشعر هنا أن يجذب أذن المتلقي للعمل، متفرجا أم قارئا، فإنه في الوقت نفسه يبدو شعرا حداثيا قد استفد من راهن الشعر العربي بقصيدته الموزونة أو التفعيلة، سواء بما تنطوي عليه من الاعتناء بموسيقى الشعر بالتنويع الموسيقي الذي يسقط من اعتباراته ضرورات القافية في صوت الفرد أو بإعطائها أهمية خاصة في حال الإنشاد الجماعي وتحديدا مع جوقة الإنشاد الطقوسي؛ غير أن ذلك لا يترافق مع وجود قصيدة موزونة أو تفعيلة كما هو متعارف عليه بل نحن، على الأرجح، أما حالة شعرية مكتملة في قالب وزني هي أحد عناصر عمل فني آخر أكثر شمولية هو المسرح. يبقى القول أن ما يسعى إليه الشاعر الشرقاوي هنا ليس إعادة الاعتبار وحده لشكل المسرح الشعري عربيا بل هو يحاول “اللعب” إبداعيا مع المنطق الأرسطي للمسرح في محاكاته للواقع واقترابه من “أنصاف الآلهة” وجعل الشعر عنصرا مسرحيا كما هي حال المسرح والشعر والغناء عند الإغريق، وذلك من جهة، ومن جهة أخرى فهو يسعى إلى مقاربة للمأساة الشكسبيرية ونهاياتها المفتوحة بواباتها على الكارثة والأمل معا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©