الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بصمات متبادلة بين الحضارات

بصمات متبادلة بين الحضارات
7 سبتمبر 2011 23:55
بحوث في موقف الديانات السماوية من العنف في ذكرى هجمات سبتمبر صدر مؤخرا عن “منشورات الزمن”، سلسلة “شرفات”، الطبعة الثانية من كتاب “الديانات السماوية وموقفها من العنف”، وهو كتاب جماعي شارك فيه كل من الأساتذة: برهان غليون، أبو زيد المقرئ الإدريسي، عبد الهادي بوطالب، محمد يتيم، فيليب بيك، شادلوت إلشيفا، روبيرت، عبد الكبير العلوي الإسماعيلي. وقدم له المفكر والفيلسوف المغربي المعروف الدكتور محمد سبيلا الذي اعتبر أن “هناك مفارقة أساسية في تاريخ البشرية، وهي ممارسة العنف والدعوة الى السلم. فالعنف مرتبط بالطبيعة البشرية، في جذورها البيولوجية نفسها، لدرجة اعتباره مسلمة أساسية في العلوم البيولوجية والاجتماعية كلها، ابتداء من داروين إلى لورنز، ومن هوبز إلى ماركس وفرويد. وتاريخ البشرية، برأي سبيلا، “خير شاهد على ذلك لأنه، في جزء كبير منه، تاريخ العنف والصراع الذي كان وما يزال بمثابة وقود أساسي للحياة البشرية، على المستوى الفردي والجماعي. إلا أن هناك وجها آخر للحياة البشرية، وهي أيديولوجيا السلام، والمحبة، والتعاون والتكافل، سواء اعتبرناها بلسما، أو رحيقا، أو تمويها أو أملا”. ولعل الديانات تعكس ـ من حيث أنها جوهر ونواة كل ثقافة بشرية ـ بدرجات متقاربة، هذه الثنائية التكوينية العميقة. فكل الديانات تتضمن وتتطلب دعوات حرب ضد الآخرين، المنحرفين، أو الضالين، أو المشركين أو المنكرين، لكنها في نفس الوقت، وربما بنفس القدر، تتضمن دعوات الرأفة والمحبة والتعاون مع الأنصار والمتعاطفين والمؤمنين. تطور العنف وبحسب الدكتور سبيلا فليس الإسلام استثناء في هذا الباب، إذ هناك تعايش، في الثقافة الإسلامية، يجاور بين آيات السيف وآيات الحوار بـ”التي هي أحسن” أو بين ثقافة وايديولوجيا الحرب والقتال، وثقافة وايديولوجيا السلام والنجدة والتعاون، بل إن هذه الأخيرة أكثر حضورا وأقوى دلالة. فكل الثقافات وكل الديانات تتضمن هذه الثنائية العميقة، باعتبارها مخزونا ثقافيا وايديولوجيا، يتم استعماله وتفعيله في الظروف التاريخية العينية، ومتطلباتها والتوجهات السائدة فيها. وبما أن العنف، بمستوياته المختلفة، هو أيضا معطى خاضع للتحول والتطور. فهو يتطور بنوع من التناسب الطردي مع التطور التقني، أي مع تطور أدوات الحرب والعنف لدرجة تسمح لنا اليوم بالحديث عن عولمة العنف، أو عن العنف المعولم، بل إنه من الطريف أن العنف يتناسب كذلك تناسبا طرديا مع التطور التقنومعرفي الذي تشهده البشرية اليوم، كما يتمثل ذلك في كون أعظم اكتشاف معرفي وتقني، في تاريخ البشرية، والذي تمثله الشبكة العنكبوتية، قد أصبح بدوره خزان عنف أو مدرسة عنف، تكرع وترتوي منه، وتسترشد به كل جماعات العنف، وكل من يتقصد استعماله وصناعة أدواته. إن تحريك السواكن الثقافية رهين بتوافر الإرادة السياسية التجديدية، وبتهيؤ النخب الفكرية والثقافية للانفتاح والتجديد والتهوية، وهذا هو الشرط الثقافي والفكري الضروري لعقلنة الثقافة العامة، وإرخاء قبضة التشدد، والتعسير في التصورات والأحكام والمواقف التي تحكم قبضتها على المجتمع، نتيجة الانكسارات والخيبات، وعدم تحقق الانتظارات. فالنخبة المثقفة المستنيرة لا تلعب دورا اجتماعيا فاعلا في هذا الاتجاه، بسبب قصور ذاتي، بل بسبب عطب اجتماعي يتمثل في انغلاق الدائرة، سلطة سياسية/ جمهور. فالمستوى الفكري العام (لا فقط الثقافي)، للنخب السياسية الحاكمة، لا يمتلك القدرات الاستشرافية اللازمة، لأن شرط نجاحها هو أن تظل وفية لثقافة القرب، وان تتزلَّف الدرجات الدنيا من الوعي والثقافية حتى تُبقي على سيادتها، قاصرة دورها على التدبير المالي والأمني بعيدا عن أي دور ثقافي ريادي أو استشرافي ومستقبلي. إن مسألة العنف السياسي الذي يطلق عليه لفظ الإرهاب هو مسألة سياسية وأيديولوجية مركبة، لكنه يعكس حالة ثقافية، ويضمر محددا ثقافيا عميقا لم تجرؤ النخب السياسية الحاكمة على النبش في جذوره الفكرية العميقة، بهدف تحييده أو الحد من “مشروعية” استثماره، ومن توظيفه في إطار الصراعات المحلية والدولية الحالية”. البحث عن الأسباب أما المفكر المعروف برهان غليون في مقالته “الإرهاب العالمي بين انغلاق الإسلام وتناقضات السياسة الدولية”، فيرى أنه “لا ينبغي لمشاعر التعاطف العميق مع ضحايا الكارثة التي حلت بنيويورك وواشنطن، ولا إدانتنا المطلقة لها، أن تمنعنا من السعي لتفسيرها والبحث الموضوعي في الأسباب الحقيقة التي يمكن أن تكمن وراءها. ومن الصعب أن نفهم ما حصل من دون أن نشير إلى نقطتين”، حددهما غليون في “الأولى تتعلق بحجم المسؤولية التي وضعت الولايات المتحدة في موقعها منذ عقدين على الأقل، وهي مسؤولية القيادة العالمية، كما عبر عن ذلك مرارا العديد من الرؤساء الأميركيين مع الكثير من الاعتزاز والفخر، إن لم نقل من الخيلاء. والثانية تتعلق بطبيعة هذه السياسة العالمية التي تقودها واشنطن، وبمعرفة فيما إذا كانت لا تنطوي هي نفسها على تناقضات، وعدم اتساق، يمكن أن تفسر تنامي الدوافع إلى العداء للولايات المتحدة الأمريكية والتعرض المباشر لأهداف فيها. ولا يشك أحد اليوم في أن واشنطن هي التي تقود دفة السياسة الدولية منذ عقود طويلة، وهي التي فرضت على الجميع، وما تزال تفرض، نوع الحلول وطبيعة المعالجات المطلوبة لمواجهة مشاكل التطور العالمي. ولعل أفضل مثال على ذلك منطقة الشرق الأوسط التي تشكل اليوم المورد الأول، ربما للعنف الانتحاري في العالم، وقد بدا دورها هذا، أعني الولايات المتحدة الأمريكية، في الواقع، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها المنتصرة الرئيسية. وقد سلمت لها جميع الدول الأوروبية ذات التاريخ الاستعماري والإمبراطوري الطويل بهذه القيادة التي شملت الميادين الاستراتيجية والاقتصادية”. أزمة الحضارات ويرى المفكر المغربي عبد الهادي بوطالب في بحثه الموسوم بـ”الإسلام والإرهاب”، إن قراءة متفحصة لتاريخ الحضارات العالمية في القرنين السادس والسابع الميلاديين تتيح للباحث والمؤرخ، استخلاص استنتاج علمي: مفاده دخول الحضارات العالمية في أزمة تراجع أصبح معها العالم يتطلع إلى نظام عالمي، يقوم على مفاهيم جديدة ويصحح مسيرة الحضارات ويقوّم مُعوجَّها ويصلح فاسدها، وينتشلها من هوة التراجع والتردي. وقد طبع هذا التراجع والتردي الحضارات القائمة آنذاك بدون استثناء، لا تختلف في ذلك الحضارة العربية عن الحضارات الرومانية أو الفارسية أو الصينية أو الهندية أو اليابانية، ولا تشدُّ في مسلسل التراجع ديانة من الديانات، ومن بينها الديانتان اليهودية والمسيحية. وقد أسس الإسلام للتعامل البشري أسس وقواعد هذا التعامل ودقائقه، بما جاء في القرآن الكريم من آيات وفي السنة من أحاديث تشرع بدقة قواعد السلوك في التعامل البشري، وتجيب بشأنها على كل سؤال. والحكم على كل حضارة أولها مرتبط عضويا بنمط تعاملها البشري مع الذات والغير. والنمط الذي جاء به الإسلام نمط حضاري متميز، قوامه جملة من الأخلاقيات والمُثُل الخيرة والقيم النبيلة، وكلها تساير سنة الفطرة البشرية، أي طبيعة التربية النظيفة التي يولد فيها الإنسان وترفض أن يبذر فيها غير الصالح، ولا تنبت فيها غير البذور المتلائمة مع طبيعة البشر. وهي في أصلها طبيعة صفاء ونقاء. وإذا ما زاغ بعضها عن هذا النهج، فهو ليس إلا استثناء يُثبِّت ويرسخ القاعدة. تقوم نظرة الإسلام للإنسان على اعتبار خلقه بالطبع بشرا صالحا مولودا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أي على مبدأ الخير ولإصلاح، متفتحا على ما يتلقاه من تربية سليمة، وعزوفا عن الشر والبغي والعدوان. بيد أن الإنسان قد ينحرف عن هذا النهج أو يزيغ، لكنه سرعان ما يعود إلى طريق الهدى عندما يتلقى التربية الصالحة التي يولد مهيأ لتقبلها، “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات” (قرآن كريم). وإذا كانت تعاليم الإسلام تطرح ثنائية الخير والشر عند الإنسان، فإنها لا تساوي ـ على عكس المانوية ـ بينهما. بل الإسلام يعتبر الإنسان أقرب بطبيعته إلى الخير منه إلى الشر، وتزويده التعاليم السماوية اتقاء وتحصينا من الانحراف إلى الشر والبغي والعدوانية والبطش والكراهية والبغضاء. وأين نضع نزعة الإرهاب التي ترشح نفسها لاقتعاد خانة الشر والعدوان والكراهية والتطاحن، في شذوذ صارخ تقصي به نفسها عن مجتمع الخير والسلام والتعاون والتفاهم؟ وما رأي الإسلام فيها؟ وما هي نظرته إليها؟. للجواب على هذه الأسئلة، يقول بوطالب، علينا أن نضع السؤال الأول الذي يفرض نفسه: ما هو الإرهاب؟ والسؤال كما يقول الحكماء نصف العلم. بكل أسف، لم يضع المجتمع الدولي هذا السؤال للنقاش المعمق، وبالأحرى أن لا يكون قد أعطى عنه جوابا لحد الآن. هل الإرهاب هو اللجوء إلى قوة السلاح كيفما كان هذا السلاح ومهما تنوعت أسباب استعماله وتضاعفت آثاره، إلى حد التخريب الشامل الذي يستعمل فيه السلاح للهدم وإزهاق الأرواح، وحصد الأخضر واليابس، وحشر جثث البُرءاء تحت حطام زلزاله، وإصابة أمم وشعوب بآثاره الوخيمة، وما يتبع ذلك من إقامة مجتمعات الخوف والرعب بين البشر، وما يفرز من نشر الذعر والرعب، وما ينضاف إلى ذلك من فقد الأمن المادي والفكري والروحي والغذائي وزعزعة الاقتصاد وشل حركة الحياة، وهو الجو الذي يسود عالمنا بعد كارثة يوم الثلاثاء الأسود 11 سبتمبر 2001؟! دلالات وتأويلات أما المفكر والفيلسوف المغربي محمد الشيخ، فقد ترجم في هذا الكتاب مقالة لفيليب بيك “عنف ورعب في الفضاء الثقافي المسيحي الغربي”، حيث يرى كاتب المقالة أن العنف يوجد “في قلب جميع الديانات، كما يوجد حتى في تلك الديانات الشبيهة بالمسيحية، والتي تبدو نصوصها المؤسسة رافضة للعنف. والحق أن على المؤرخ أن يأخذ حذره من هذا النوع من التعميمات اللبقة، لاسيما وان من عادتها أن تطرح جانبا الخصوصيات والديناميات اللصيقة بكل ثقافة على حدة. وهي الأحداث، قريبة العهد، قد جاءت لتدفعنا إلى التساؤل حول الدلالات الخصوصية للغرب، عبر استمراريته التاريخية الطويلة، وبالنظر إلى رصيده الثقافي المسيحي. وكل ذلك انطلاقا من ظواهر ثلاث: العنف، والاستشهاد، والرعب والترهيب، نعم إن هذه الدلالات الثلاث هي التي تحدد التأويل الأوروبي الأميركي لاعتداءات 11 سبتمبر 2001. ولعلها أيضا ربما تكون قد أثرت في عقليات منفِّذيها، باعتبار أن البصمات المتبادلة بين ثقافة وأخرى في موضوع الموت طوعا لم تكن مستحيلة الحدوث. وهكذا فإن الشهيد المسيحي هو مدين بشكل كبير إلى نوع من الأسطورة الرومانية وغير المسيحية، أو إلى تلك التضحية بالنفس من لدن المنتحر واهبا إياها إلى القوى الإلهية، بحيث يفعل ذلك متحكما في الموت بحضور أحد القواد العسكريين، وذلك بهدف تحقيق النصر. بل إن هناك من زعم بان مفهوم الشهيد، كان غير معروف كلية لدى اليهودية التي انبعثت منها المسيحية، وذلك قبل أن يخضع اليهود للتأثير الإغريقي الروماني. ودائما في نفس السياق، تندرج هندوسية متعصبي كارسيفا، الذين إن دمروا مسجد باهور بايودهيا بالهند، في دجنبر 1992، صرحوا بأنهم كانوا على استعدادا لملاقاة الموت من أجل هذه العملية. وتعتبر هذه الهندوسية قد اقتبست عن الإسلام (دين المنغول الذين حكموا الهند من 1526 إلى 1858) مفهوم الشهادة”. أما في شأن كلمة هندي التي تعني شهيد، فهي مقتبسة عن اللغة الفارسية، هذه الأخيرة التي أخذت نفس المفهوم عن اللغة العربية. وكيفما كان الأمر، وانطلاقا من وجوب اتخاذ الدقة الصارمة في مثل هذه الأمور، فالواجب يلزمني، في هذه الساعة، بصفتي مؤرخا، أن ألغي رأيي الخاص حول الهوية الحقيقية لإرهابيي يوم 11 سبتمبر. وحتى في حالة ما إذا تبين بأنهم إسلاميون متطرفون، وهو الأمر الذي أرجحه شخصيا، فيجب مع ذلك النظر في شأن هؤلاء الرجال، مع الأخذ بعين الاعتبار ثقافتهم الإسلامية الأصيلة (حتى وان كنا في هذا الإطار نستطيع، أو قل إنه من المفروض علينا، المناقشة حول لا نموذجية هؤلاء الرجال). غير أن النظر في ذلك الرقم وحده، أي الرقم المتعلق بعدد الاعتداءات، الموصوفة بكونها إرهابية، والمقترفة منذ نهاية القرن التاسع عشر، ثم على امتداد القرن العشرين، من لدن الغربيين، (ثم بداية عقد السبعينيات، من لدن بعض الغربيين المؤيدين للقضية الفلسطينية)، كل ذلك يؤكد بأننا هنا آخذين في رسم شجرة نسب سُلالة لماضي الرعب بالغرب. إن كنه الثقافة السياسية الغربية، وطابعها، يضمان توليفا جامعا فيما بين التصورات الجماعية المشتركة للإمبراطورية الرومانية، وبين المحمول الثقافي للمسيحيين الأوائل، أولئك الذين نجدهم في حد ذاتهم، يكونون فرعا منحرفا عن اليهودية القديمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©