السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قيرواني مسكون بأحلام السلالة

قيرواني مسكون بأحلام السلالة
7 سبتمبر 2011 23:53
محمد الغزي يسأل عن اليمانيين الذين لم يعودوا من أفريقية لا يجد الشاعر التونسي محمد الغزي (القيروان 1949) حرجا رغم حمّى الخلاف حول الحداثة والقدامة في إعلان افتتانه بالموسيقى، وتصوره أنها (من روافد الشعر الهامة)، وسيقوده ذلك بالضرورة إلى الاعتقاد بأن الكتابة الشعرية (ضربٌ من الإنشاد) وهو ما يتجسد في هندسة قصيدته لفظا وتركيبا وإيقاعا؛ ليجد الموضوع مكانة بارزة في شعره، ويهيمن الوضوح على الدلالة، ويتقدم المعنى كعنصر رئيس في القصيدة. يعيش محمد الغزي كقيرواني مميز بتماهيه مع المكان والزمان الذي يمر أو مر عليه، فيجد في التاريخ مناسبة للتعلق بالفضاء القيرواني الذي سيتخذ أشكالا مختلفة ينتجها الوعي به. وفي مقدمتها المبرر الموسيقي للقصيدة الذي ينافح عنه الغزي؛ فيقول في أحد لقاءاته الصحفية إنه وجد «آصرة بين القصائد التي يكتب والموشحات الأندلسية»، ويترك للقراءة فسحة البحث عن تلك الآصرة التي ستكون كالعلاقة بين قيروان اليوم والأمس.المرحلة القيروانية تستمر طويلا في شعره، لذا فستأخذ القيروان وجودا شعريا استثنائيا لديه . فضاء القيروان.. فضاء القصيدة ولا غرابة أن ينوه بالآصرة الأندلسية ولو من جهة الموشحات كفن متمرد على النسق الشعري التقليدي من حيث الهيكل البنائي والموضوع، وحضور الموسيقى في ثنايا الموشح، كونه مكتوبا للغناء والتلحين، والإيقاع المبني على الإنشاد وتنوع الصوت مع المقاطع التي يتألف منها الموشح كبنية ذات نظام مغلق، وهذا يتجسد في تمسك الغزي بالتفعيلة، وإعلان انزعاجه من الدعوة لكتابة شعر خال من الموسيقى التي يرى أن الشعر ينطوي عليها، كما ينطوي على فنون عدة كالدراما والرسم، ولكن النزعة التاريخية تتعدى التواشج مع الموشح في تقسيم المقاطع والتكرار والنشيد؛ لتصل إلى الموضوع نفسه، فكثيرا ما يأخذ الغزي موضوعاته من تاريخ الأندلس كإنعاش للذاكرة العربية والمخيلة الشعرية معا، وكتعويض عن الخسارات التي عاشها وشهد عليها جيل الغزي. في المرحلة القيروانية سيلجأ الغزي لترميز المدينة، ستصبح شيئا سريا غامضا يقصده القاصدون كأنهم سائرون في رحلة خيالية لمكان غير متعين واقعيا. مدينةُ وهم أو يوتوبيا تراود المخيلة وتناور التحقق الأرضي ولا تقبله، فيكون وجودها نفسه زئبقيا لا تمسكه يد أو تصله قدم او تبصره عين. في قصيدة قصيرة عن القيروان يقول الغزي: (قبل أن تبلغ القيروان/ سوف تبصر قصّادها بين حِلّ ومُرْتَحِل، وقوافلها بين باد ومنتجع/ وترى الريح من قبل نشأتها/ والكواكب من قبل دورتها/ والعناصر قبل انبثاق العصور. قبل أن تبلغ القيروان سوف تأوي إلى اِمرأة لست تذكرها، وستأكل فاكهة لست تعرفها وترى الليل قبل اشتعال الكواكب، والأرض قبل انعتاق العواصف/ والعشب قبل اندلاع الفصول). الطريق هنا وهمي أو حلمي، والوصول إلى القيروان رمزي يتم عبر رحلة يقوم بها المخاطب ـ المرشح المحتمل لدخول القيروان مسافرا إليها من خارجها أو محاولا الوصول الصوفي لها من داخلها ـ وسيرافقه فيها قصّاد وقوافل، وسيَرى ما لايُرى: الريح قبل التكوّن، والكواكب قبل الدوران، والعناصر ـ مادة الخلق ـ قبل النشأة، وسيرى كل شيء كما لو في حلم. وتلك المقدمات ستقود الغزي إلى مرحلة الصوفية؛ فتظهر عنايته بالتراث الصوفي دارسا ومدرّسا، ويستفيد من لغة التصوف وإشراقية الخطاب الصوفي ورمزيته؛ ليظل في أفق الحداثة في الكتابة الشعرية رغم القاموس التراثي، والإيقاعات الموسيقية المرتكزة إلى التفعيلة والاندفاع النغمي دون التقيد بالقافية، ما يدع القراءة تلاحق أنغاما وألحانا من الكلمات المتراصة في بنية جملية لا تتوخى التسلسل الخطي، بل تتنقل بين موتيفاتها وتعيد انتشار عناصرها ومفرداتها. وهذا ما سنراه في نص للغزي بعنوان «اليمانيون». وهو يحيل إلى الإطار التاريخي لفتح الأندلس والمغرب الذي جلب الشعوب العربية من منابتها لتنقل ثقافاتها وتقاليدها، فتحصل القيروان على حضور ملفت في الأحداث، وتظل بصمات الفاتحين على عمارتها وحرفها وآثارها القائمة. ويمكن رؤية اللمسة اليمانية في تلك اللقى البصرية القائمة في القيروان، ومن هنا بدأت القصيدة لترصد رحلة اليمانيين في لجة الفتح والتعايش المشرقي مع المغرب. السرد الشعري للتاريخ الدرس المستفاد من مقاربة التاريخي في الشعر الحديث، واستثماره لوقائعه ومحركاته الشعورية واستعادته حاضرا، يتلخص كما في نص الغزي «اليمانيون» في مجافاة الروايات الرسمية، واجتراح سيرورة للحدث او الواقعة تتحرر فيه المفردات والكِسَر التاريخية من ماضويتها. اليمانيون ليسوا فاتحين فحسب، ولم يستحقوا هذا التمجيد لأنهم أسهموا في نقل الدين والحضارة، بل لأن مواجعهم وآلامهم تتضاعف في رحلة يحف بها التذكر والضياع. فاليمانيون هنا يطول غيابهم في أفريقية وتشتاقهم الصحراء التي جاءوا منها.. وتنتظر عودتهم بعذاب وشجن. بهذا تقلق القصيدة شعور قارئها وتفلح في إثارة السؤال لديه، كما هيمن على بنيتها ذلك السؤال، واستهلت به (لماذا لم يعد من أرض أفريقية الرسل اليمانيون؟) لقد ضاعت آثارهم في الجهات والأزمنة. لا أثر يدل عليهم وليس ثمة ما يشير إليهم. ولم يجب أحد عن السؤال؛ فصارت الإجابة محتملة غير أكيدة: إن خيولهم عادت وراياتهم تعلو. الإرادة التي جعلتهم كالذؤبان يترصدون الطريق، ويقهرون ظلمته وبعده ووحشته. إنها صياغة جديدة لتاريخ الغزوات والهجرة والفتح، وخلف المسميات نتلقى حقيقة واحدة هي عذاب الفاتحين وهم يفرغون من مهمتهم في تلك الارض البعيدة. وذلك الانكسار معوض بالتوقع بأن الرسل اليمانيين عادوا بالبشرى للجزيرة التي خرجوا منها وبالوعد ببلوغ الأرض التي رأوها في أحلامهم. تتسق موسيقى القصيدة القائمة على تفعيلة الوافر وتباعد سكناته التي تتيح إيراد مقاطع طويلة متحركة يقطعها السكون، وتعطي بتتابعها شكل الأنشودة المرافقة نغميا لحالة الفتح والعودة المرتقبة. ويزيد الغزي من إيقاعية قصيدته بتجنب القافية التي قد تقطع التدوير المناسب تماما للرحلة وتصوير مشاهدها. لم يكن التاريخ إذن حاضرا للتنفج أو الزهو بالفتوح والمآثر والتغني بها، بل لتقليب موضوع الرحلة والعودة وما بينهما من عناء وتوق للوصول. لقد أفاد الغزي من تأثراته الصوفية لتفتيت ثيمة الوجد والتعلق بالغاية وتحمل المشقات من اجلها؛ فجعل الرحلة تتم في فضاء أسطوري لا فائدة من تعيين الأمكنة فيه أو التقيد بالزمن، فقام بنزع الدلالة ووضعها منزاحة عن القصد التاريخي لتسكن في المحتمل المغاير: ماذا جنينا بعد؟ يقول الضمير المسكوت عنه في هيجان البحث عن عودة.. كما كانت الرحلة ذاتها صوفية الغرض؛ فالأرض المفتوحة هي الارض التي بدت لهم في الرؤيا: (والأرض التي رأينا سوف نبلغها)، وهنا يصبحون كالعقبان المحلقة لا الذؤبان التي تعوي في الظلام؛ ليبلغوا الأرض بسرعة وكبر، لكن الدلالة تعود لحقل الندم والخسارة ؛ فالأرض الموعودة في الرؤيا لم تكن حقيقة. ويعود العواء في الظلام، كما يسكن الطاعون أحلام السلالة الآتية ايضا. لقد مرض الحلم وعمَّ الظلام وتلاشت الأمنيات والوعود؛ فتاهت الخطى. وبذا تخلصت القصيدة من رواية التاريخ ورواته والمروي عنهم جميعا، في دفقة واحدة من صعود اللغة إلى عصف صوري وعنف ذروي يخففه السرد ويوقفه بانتظار رحلة قادمة. اليمانيون لماذا لم يعد من أرض أفريقية الرسل اليمانيونَ؟ لا أحدٌ رأى مصباحهم متخافقاً في الليل لا أحد رأى راياتهم تعلو سألنا القافلين من الشمال فأطرقوا وأشاح أهل الليل عنا ما الذي سنقول للفقراء في أبواب نجد؟ ما الذي سنقول للغرباء؟ كلا، سوف نهتف أنهم عادوا سنهتف أننا في الليل أبصرنا الخيول تخوض ماء النهر والرايات تعلو في رباط البحر والرسلَ اليمانيين ينحدرون من أسوار وجدة يحملون لأهلنا البشرى بلى، قلنا سنبلغ نحن تلك الأرض لن نستوقد النيران في ظلماتها، لن نسأل القُصّاد نحن سنهتدي بالشم كالذؤبان نادينا ليهبط الغرباء والفقراء والموتى ليهبط كل من جاعوا على أسوار حوران وفي أبواب شاطبة فلن تخيب فراسة التاريخ والأرض التي رأينا سوف نبلغها وكالعقبان تنشب في السماء عيونها سرنا ولم نسأل رعاة الليل فلنأخذ عن الأنهار حكمتها القديمة ولنسر حتى تلوح الأرض لن نستوقد النيران في طرقاتها لن نسأل القُصَّاد نحن سنهتدي بالشم كالذؤبان وها أنّا وقد دارت بنا السنوات مازلنا نطوّف في دروب الليل مازلنا نخوِّض في مياه النهر مازلنا نقلّب في الظلام عيوننا والأرض ما بانت لقاصدنا ولا انعطفت إلى بيت الينابيع الخيول. على أبواب أفريقية احتشد اليمانيون كانت أرض فاس تختفي شفافة كالماء والأسواق تقفر أين منزلنا الذي في العدوة الأخرى؟ وأين نساء قرطبة؟ سألنا القافلين من الشمال فما ألمَّوا في الطريق بنا وأعرض أهلنا الرعيان عن رد الجواب وتلك رؤوسنا مرفوعة فوق الأسنة والذي خلناه بيتاً كان مختبأ إلى حين اجل عينيك في هذا الظلام وأصغ للذؤبان تعوي بين أنقاض المنازل ولتقل ماذا جنينا بعد هذا؟ عادت من جبال المغرب الرسل اليمانيون لم يجلوا لنا سراً ولاحملوا إلى أحفادنا البشرى هتفنا: ربما ساخت مدائن قد أقمنا ربما عدنا إلى الصحراء تسفع وجهنا شمس الجزيرة غير أنّا سوف نبقى مثلما الطاعون نسكن أحلام السلالة سوف نبقى مثلما الذؤبان نعوي في الظلام ولن نكف عن العواء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©