الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أعالي الألب.. كتابة تعاليم العشب

أعالي الألب.. كتابة تعاليم العشب
27 ديسمبر 2018 02:10

لولوة المنصوري

إن الجبال ليست كما نراها في مستوى الظواهر المادية مجرد صور علوية تحدّها مجموعة علاقات حسابية وعددية كما في الاعتراضات المجرّدة للفلاسفة، إن حقيقة الجبال كامنة في التسلل داخل تلك الشعرية الحالمة، في الهالة السحرية والوهم المتحرك وفق عوالم تنبؤية، في الحلم البشريّ الذي يحفر الكتلة الداخلية ليسمح لنا بفهم المرئي.
إن العالم جميل في أعماقه، حميم في خفائه، والإخفاء وظيفة أولية للحياة، أما الفضول فهو العمق الكثيف في الأشياء التي نخالها وهماً وعبثاً في الحياة، إنه البصيرة النافذة للأنوار التي تكونت في قاع حسيّ كثيف الظلام، ومن الصعوبة بمكان أن ندير ظهرنا لهذه الكثافة المنتشرة بميتافيزيقية ساحرة، لا يمكننا إنكار الإغواء المثير للاشتغال الحُلمي داخل الأشياء. (1)
الألب.. هو الجذر الحالم لبذور الكلمات، هو العبور الجوهري الأمثل لمريدي الكتابة، منفذ لاجتياز الحدود الخارجية والاغتسال من الضجيج، فضاء أبيض للسكن داخل الأشياء الحميمة التي تجذبنا لتأملها داخل أجواء الرّاحة، الشبيهة في تجويفها الآمن لتلك الراحة البدائية الأولى لأوائل البشر على سطح الأرض، غير أنها في الآن ذاته راحة ممزوجة بحزن الوحدة، مشتعلة بلغز السؤال وعواصف المعرفة ودبيب المنطق وفيضان الفضول في المعنى، إنها راحة القلق، والكاتب الجوهريّ داخل دوائر هذه الراحة الغامضة أشبه بفراشة منجذبة إلى المصباح ! تكراراً يحوم حول ذلك الشك العظيم: من نحن؟ وأين هو حيّزنا بين كل هذه الضخامة والانتشار السريع والمريب في المجهول ؟ وإلى متى نجرُّ طلّنا العملاق على مياه الحياة؟ راضخين.. وأحياناً متمردين في الفراغ، رغم أن الطبيعة سائرة في عملية الاصطفاء بلا هوادة.

كوخ باشلار
في هذا الكوخ الرّمزي نسافر داخل كل مادة بيضاء انطلاقاً من مادة مظلمة، ففي عمق العالم المُظلم والمغلق أزهار وتشجّر وتلألؤ، وفي جبال الألب العظيمة يتكاثر الجمال التصغيري في الاكتشافات المجهرية الأولى، أينما مشيت تجد أمامك التناقض الهندسي الصغير الذي هو كبير في حقيقته، هو فكرة رحم، وصَدَفَة، وذرّة، غير أنه ضخم وعملاق في ذاته، أنت قادر على رؤية البصمات الدقيقة، رؤية ضباب تفكيرك، بالذهاب إلى الأعماق اللامتناهية في الصّغر.
إن داخل الشيء الصغير ضخامة تسع الأكوان، إنها ضخامة المعنى.
في الرّحيل إلى ضخامة الألب يعني أننا نبحث عن السكن في جوهر الشيء الصغير، (الصغير جداً هو الضخم!) عند ماكس جاكوب، للامتناهي في الصّغر قوة حلم عظيمة، تجذبك لسبر نبعه الرقيق الهشّ واكتشاف السلام الغنيّ بالعمق، ناظراً إلى مستوى أبعد من الغابات والجبال والمواقد والدّخان، داخلاً في ذرّات الشمس حيث تولد الأكواخ الفلسفية على منعطفات الزمن.
كل شيء يحدث في متناهي البطء في صيف الغابات وعلى القمم النائية السابحة في الامتدادات الكونية والكوخ هو الوقت، مركز الخيرات، المكان الذي يحتاجه الكاتب ليرى العالم بدقة عالية، نتملّك الكون عندما نصبح سادة الأكواخ، نتملّك النّور عندما نصير في مأمن من الغابة وسادة المحل المظلم المغلق على الأمان والأسرار والنموّ.
الكوخ هو أيضاً رحم أمّ غجريّة، ستلدنا حتماً في الغابة، وتكمل ترحالها، سننمو في الوحدة والسكون كالوحوش الكئيبة، ثم سرعان ما تحمينا العناية الإلهية بطقسها الغزير بالمحبة والرحمة، ويأتي الربيع والعشب ينمو من تلقاء ذاته، وينمو عقل الإنسان البدائي فينا من تلقاء ذاته، محاطاً بالنقاء والألم، ثم تجري بنا مياه اليمّ الكبير إلى ضفاف البحث والعذاب، وحينها يسطع السؤال الشعريّ الفلسفي العميق: (من نحن في هذا الهباء؟)
أكثر من هذا العذاب.. أعمق من هذه العذوبة، ماذا يريد الألب من الكاتب؟ ماذا يحدث أكثر داخل الغابة.. داخل العشبة.. داخل اللحظة المشتهاة التي من دونها ينهدم جسر بين العقل والقلب وتموت الفكرة؟
إن قوة الدهشة تنمو في الجبال من أوهن البيوت، ويكمن سؤال الحلم الحميم في الضعيف من الأشياء، خيوط العنكبوت تستوقفك، تنمو في الواجهة المقابلة للخطر، تبدو وكأنها كوخ العالم، يجذبك تأمل هذا الحيز الضئيل من الخيوط المنسوجة في مسارات متقاطعة ومتشابكة ومتنافرة بين الجيوب الأنفية للجسور الخشبية على الأنهار، بيت يقابل تماماً وجهة الرّيح الباردة وهبّة التيّار، ومن تحته يجري النهر الحيوي البرّاق الذي لا ينتهي، كيف تحدّى العنكبوت رعب ضآلته في هذا العالم الكبير؟ لماذا اختار نسج خيوط البيت في مكان الخطر تحديداً؟
سؤال عكس قوة العالم داخل بيت حشريّ ضعيف، ولاشك أن القوة الباطنية لهذا البيت تكمن في ربّ البيت، في الإرادة الخلاّقة لحشرة ضئيلة وسط هيجان الكون العظيم.
ووفق جدلية قلب علاقة الصغير بالكبير، فإن الجزء الضخم الظاهر من جمال جبال الألب لا يكشف لنا العالم الكامل من الحميمية الخيالية في الأشياء المنغلقة والمتوارية والصغيرة داخل ظلامها الصدفيّ الغزير باللطف والرّحمة، إن الخيال الدقيق يعشق السفر في الامتداد الباطني الرّحميّ للأشياء الصغيرة، في اللامرئي والخفيّ والضئيل والبعيد، وفي قفا كل الأشياء.

كوخ في الحُلم
في الخيال الأدبي تكمن العين الجوهرية الدقيقة الحساسة بفضل نعتين متعارضين في اسم واحد، أو من خلال صورهم الرمزية الثريّة في التماهي مع أحلام اليقظة، كمثل كافكا في لحظات الألم والرّغبة بالعودة إلى الحياة الحميمية داخل الرّحم، تخيّل أنه داخل قشرة جوز: (أفكّر في تلك الليالي التي انتُزعتُ في أواخرها من نومي، أستيقظ وبي إحساس بأنني سُجنتُ داخل قشرة جوز) (2)، وكأن كافكا أراد أن يتكثّف على ذاته وأثقال غربته الروحية، كي يُشفى من رعب الوجود الكبير.
إن طاقة اللفظة أو الصورة لا تأتي من فوضى الأشياء، وإنما من الخيال المستريح، حيث تكمن الذات المقوّية للصورة، ويحدث غالباً أن نحلم حلماً طفولياً بالسكن داخل الأشياء الدقيقة التي نحبها وهي في الأصل واقعة تحت دائرة أملاكنا الخاصة، ما إن نبدأ بالتفكير الحالم في عالم الشيء الصغير، حتى يكبر كل شيء فيه ويحدث انعطافاً كونياً وروحياً.
إنني غالباً ما أتخيّل أني أسكن في مبتدأ الضوء، لا في مساره الخارجي، هذا هو أبسط خيالاتي/‏‏ وأعمقها جنوناً، أي أن أكون بلورة ثلج تتباطأ في الذوبان داخل كأس الماء، أو أتخيل السكن داخل أضواء ملونة لوحدات البث في الراديو العتيق الطراز، أو السكن في الكرة الزجاجية المتدحرجة ذات الألوان القزحيّة الجميلة في ذاكرة ألعابنا الشعبية، أو أتأمل فضاء حجر كريم صغير على خاتمي، بكل هدوء يكبر هذا الحجر في عين الخيال، ويبدو كوكباً، وعند فركه تحدث فرقعة البرق والرّعد في أجوائه الملبّدة بسحر الألوان، أو أن أقيم داخل ثمرة كرز وأستعيد أحلامي البدائية في أزمنة الغابات والنداءات.
ولعل أجمل الخيال حين نقلب مساكن الأشياء الكبيرة في الطبيعة، كأن يسكن الكبير بكل ثراء حميمي داخل الصغير، على نحو فكرة فيثاغورس: (هناك موسيقى في الحجر)، وعلى نحو قولنا: (عطش يشرب شجرة)، (قطرة ابتلعت المحيط وأغرقت الجبل)، (غابة داخل وردة، وردة في فضاء البذرة).

قلب الكوخ
كما أن عين الخيال الدقيقة كامنة أيضاً في المنظور الجدلي المقلوب، المعبّر عنه بصيغة المفارقة التي يذهب إليها سارتر: «أن نخترع قلب الأشياء، إذا كنا نريد اكتشافها يوماً ما» (3)، ففي استعارة (السواد الخفيّ للحليب) لا يمكننا رؤية البياض إلا عبر سواده.
الأفكار مثلاً، هي لا مرئية، ومع ذلك هي هناك في العين الداخلية، دوّارة خلف الأصوات والأضواء والأفعال، أو بينها. وكما يذهب (موريس مورلو) إلى إمكانية التعرف على الأفكار في العتمة والصمت بواسطة طريقتها الخاصة دائماً والفريدة في الاحتماء خلف الأصوات والأضواء. (4) أي الاستشعار الخياليّ بوجودها وتفاعلها مع المحيط الحسي الملموس.
وفي الفكرة نفسها يعزو بول اوستر ذلك إلى أن «تلك الرغبة في أن نرى تحت البياض، قفا البياض، هي ما يدفع الخيال إلى تغميق بعض الانعكاسات الزرقاء التي تجري فوق سطح السائل الأبيض». (5)

كوخ هيدغر
الغابة السوداء في الألب تلهمنا، لا بعظم مساحتها فحسب، بل بكثافتها الحسيّة لروح هيدغر، تدفعنا إلى قوة الينبوع في الجبال، بحثاً عن كوخ العزلة المعشّبة بالكتابة والفكرة الوجودية، وشذا الإحساس الألبيّ بالحياة والسلام والاستنارة.
أي قوة هذه شيّدت كوخاً على منحدر وعر في العمق الضيق لواد عالٍ وكبير يقع على ارتفاع 1150متراً؟
أي بساطة صارمة دفعت هيدغر لترك كرسيّ الفلسفة في جامعة برلين؟ واللجوء إلى أعلى قمة في الغابة السوداء، حيث التجذّر في الأرض الشاقة وفي عالم الفلاحين، وحيث المساحات المغطاة بالثلوج الكثيفة.
إنه الثور نفسه في نص الشاعر الهندي كاكوان، والثيران العشرة في مذهب الزن:
«في مرعى هذا العالم، أدفع على نحو متواصل العشب الطويل جانباً من أجل البحث عن الثور» أوشو/‏‏ البحث، ص: 5 إن الثور رمز الطاقة والقوة الداخلية للبحث والسؤال القلِق، قوة تغذيها مشاعر الاكتفاء من الشهرة، وشوق العودة الارتدادية إلى الأم، حيث الحميمية البدائية ذات الأشكال الأكثر غموضاً، نوم أعمق في عالم الدفء واللطف الغامض، عالم الأطعمة الأولى، واتحاد في حياة أكثر هدوءاً ورغداً في البساطة، والتي تمثل بصفتها أحد أقوى أنواع النزوع للبحث والاشتغال الفلسفي الذي يبدأ بسؤال بسيط في الحياة: (من نحن؟)
يقول هيدغر: (في ليل الشتاء العميق تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت، وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذ يبدأ زمن الفلسفة، إذ لابد أن يكون سؤالها بسيطاً وأساسياً، إن صياغة كل فكرة لا يمكن أن تكون إلا قاسية وقاطعة، والجهد الذي تتطلبه قوّة الكلمات شبيه بصمود أشجار التنوب التي تنتصب أمام العاصفة).(6)
في الغابة السوداء الكبيرة عاد هيدغر للسكن في المسرّات الصغيرة، الغابة رمز للزمن العظيم، والكوخ رمز للكينونة الغامضة، فتحت جبال الألب الطريق أمام هيدغر للدخول بخياله الخلّاق في عمق المعنى عبر تعميق الزمن، بعد تعميق كينونته الإنسانية، فخرج من غابته يوماً، حاملاً للإنسانية أكبر مدونة فلسفية أنطولوجية، كتابه الوجودي العظيم: (الكينونة والزّمان).

كوخ الإلهام
جبال الألب هي الحضن الأمومي الشعري للفلاسفة، حيث تنحني القمم إلى بعضها، ويفيض خضوع الفكر للخيال.
إلى هذه القمم الألبيّة حيث العزلة الطبوغرافية لبحيرة «سيلس» هرب نيتشه من مُدن إيطاليا الصاخبة إلى شمالها الجبليّ، باحثاً عن عزلته في المسكن الحُلْميّ، مخترقاً أعماق الأشياء، وقد تصغّر للسّكن داخل ذاته، فمُنِحتْ له كنوز حميمية الأشياء، ووجد الطمأنينة والمحبة الداخلية بين أكناف الخليج الهادر، والذي كان مصبّه في بحيرة (سيلس) على بُعد خطوات من منزل نيتشه، هناك تحديداً راح يصلي من أجل تفوّق الإنسان وبعث الإنسان الأعلى، وهناك أيضاً نزل زرادشت وهو في الثلاثين من عمره من جبله الذي آوى إليه واعتكف أزمنة فيه، هبط على نيتشه كإلهام يأتي من نبع أغنية أزلية لونت فلسفته لاحقاً بقزحيات الشّعر، وأوحت له بأعظم كتاب (هكذا تكلّم زرادشت)، والذي اتخذه نيتشه كتاباً مقدّساً له في مراحل حياته:
ينشد نيتشه، ونسمع الصمت الخفيّ من وراء صوته، ونلمح ظل زرادشت يسير خلفه:
«جلستُ أنتظر هنا.. ولا أنتظر شيئاً
وأنعم بما هو فوق الخير والشر
أنعم بالضوء تارة، وبالظلّ طوراً
ولم أجد إلا أنهاراً وبحيرة وظهيرة وزماناً بديّاً
ومرّ بي زرادشت....!» (7)
هكذا هو الألب، شاعر كبير أبيض، شيخ باسط أذرعه وأضلاعه، محتضناً القارة العجوز، يجذب الكاتب إلى حافة فكرة شعرية كامنة في اللاوعي، أسئلة حرّة خاضعة لاندفاع داخلي بريء ومترع بالبحث عن ديمومة الأشياء وينابيع الثقة بالعالم.
.............................................
هوامش:
(1) غاستون باشلار، الأرض وأحلام يقظة الرّاحة، ترجمه عن الفرنسية: قيصر الجليدي، دائرة الثقافة والسياحة، مشروع كلمة، ص: 3.
(2) المصدر نفسه ص: 50.
(3) جان بول سارتر، الإنسان المقيّد، رسائل، الجزء الثاني، 1944.
(4)المرئي واللامرئي، موريس مولرو بوننتي، ص: 239/‏‏240 ترجمة د. عبد العزيز العيادي، المنظمة العربية للترجمة.
(5) جان بول سارتر، الوجود والعدم، ص: 691، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت.
(6) متاهات.. نصوص وحوارات في الفلسفة، المؤلف: مجموعة من الفلاسفة، ترجمة: حسّونة المصباحي، دار المعرفة للنشر، تونس./‏‏ يوميات فونتين، مايو 1945 ص: 129.
(7) فريدريك نيتشه نبيّ فلسفة القوة سلسلة إعلام الفلاسفة، الجزء 34/‏‏ ص:19.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©