الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أفق» البصيرة إلى أقـصاها

«أفق» البصيرة إلى أقـصاها
27 ديسمبر 2018 02:10

إبراهيم الملا

تبدو ثيمة «أفق» التي اختارها مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية عنوانا لدورته الحادية والعشرين، وكأنها تفتح مسارا مكتنزا برؤى سيّالة ومنهمرة في أفق البصر والبصيرة معا، مسار تتماهى فيه الأشكال الإبداعية والأنماط الفنية لتعبّر عن هواجس الروح في فضاء إشراقي تذوب فيه وبه انشغالات اليد والخيال، والجسد والنفس، والملموس والمجرّد، وسط ثنائيات تتدفق كنهرين متوازيين قوامهما الزهو والسحر، يجوبان أرض الإيهامات والإلهامات والخواطر النيّرة، هناك تماما حيث يقف الحرف على باب المعنى، حائراً ومتهيّبا، وقبل أن تكتمل الصياغة، وقبل أن يبدأ الشرح، يفيض المعنى على القول ويتبدّد في ليل الكلام، فيصبح كل واضح مبهم، وكل جليّ عصيّ، وكل ثابت متشعب، وكل صارم متخفّف، وكل متوحّد متعدد، لا لنفي المعنى وتحجيمه، بل لتحريره من كل شائبة قد تخالطه، ومن كل لبس قد يحيط به.
لم تراهن الدورة الجديدة من المهرجان في انتقائها للأعمال المتنوعة شكلا ومحتوى على «الهوية» الإسلامية والعربية وحدها، بل تجاوزتها إلى آفاق إنسانية مشتركة يتداخل فيها الوجد الصوفي، مع المعرفة الجمالية، والأنساق التعبيرية، حيث يمكن للمنمنمات أن تصير مخلوقات من الأشواق الطائرة، وأن تتحول الزخارف إلى كائنات مشعّة في سديم الكون، وأن يذوب معمار الوجد في ماء الكلمات، بينما تهيم كوكبة من الدراويش في مسالك النشوة الصافية، كي تستنطقهم لوحة أو منحوتة، وكي يبوح النقش في دروبهم، بذلك الصمت المبحر في تجلياته، والسابح في مداراته.

خارج الجغرافيا
تجاوز المهرجان بخياراته المتّسعة حدود الجغرافيا في نطاقها التوصيفي الضيق، ليرتحل إلى آفاق يتمنّع عن تأطيرها الوصف، مخترقا المحدود ومعانقا اللانهائي، ومغايرا العابر ومتآلفا مع الدائم، لذلك أتت معظم أعمال ونتاجات المهرجان من حواضر ومرجعيات وثقافات متعددة ومنفتحة، تغرف من نور المحبة السماوية والعاطفة الكليّة، وتصدّ ما يناوئ هذه المحبة المشتركة من ظلمة تشدّد وإنكار وتعصّب، لذلك لم يكن غريبا أن نرى في أروقة وقاعات وساحات المهرجان أعمالا مستضافة لفنانين من اليابان وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وبلدان أميركا الجنوبية، وغيرها من الحواضر البعيدة وهي تتواجد وسط كرنفال بصري إسلامي في عنوانه، وعالمي وإنساني في مقاصده وأهدافه وغاياته، فهو مهرجان مشرع على الأعمال المعاصرة والتراثية معا، وعلى التجارب التركيبية والتنزيهية، والتجسيدية و الرمزية، والإنشائية والتجريدية، وهو مختبر فني توّاق لاستجلاب المعنى الديني دون تقييده وربطه بتوجّه ظاهري وقياسي يحدّد هوى ونزوع وفكر الفنان وتأطير عمله في قالب التنظير الأحادي القاطع والمتزمّت.
وفيما يتعلق بأرقام وإحصاءات الدورة الجديدة من مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية الذي تنظمه دائرة الثقافة بالشارقة في الفترة من التاسع عشر من شهر ديسمبر الجاري وحتى التاسع عشر من شهر يناير المقبل، فقد شارك بهذه الدورة 63 فناناً يمثلون 20 دولة عربية وأجنبية، وقدّم الفنانون 377 عملاً فنياً ما بين تجهيزات وحروفيات وجداريات ولوحات في الخط الأصيل والزخرفة، إلى جانب تنظيم 144 ورشة فنية، وعرض 11 فيديو لتجارب فنية متنوعة، وتنظيم دورة تدريبية في الخط العربي، وبالموازاة مع ذلك يقدم المهرجان في الجانب النظري 26 محاضرة حول الفنون الإسلامية، ويشارك في تلك الأنشطة 161 ضيفاً من إعلاميين ومحاضرين وخطاطين ومشرفي الورش الفنية.
يتضمن المهرجان عدة معارض شخصية منها معرض الفنان المصري البريطاني الدكتور أحمد مصطفى الذي حمل عنوان «خريطة الطريق إلى الكنز الخفي» ويضم 12 عملا فنيا، ويستضيف المهرجان أيضا الملتقى الأول لخطاطات الخليج الذي يقام بالتعاون مع جمعية الإمارات لفن الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وتشارك فيه إحدى وعشرون خطاطة شابة من الإمارات والكويت والسعودية والبحرين وسلطنة عُمان، يقدمن اثنين وأربعين عملاً خطيا تتنوع فيها المدارس والتيارات والأساليب.

تنوع
توزعت أعمال الدورة الحادية والعشرين من مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية على عدة مرافق ثقافية وسياحية بمدينة الشارقة مثل متحف الشارقة للفنون، وساحة وقاعات مركز الخط العربي، ومنطقة المجاز السياحية وجمعية الإمارات لفن الخط العربي والزخرفة، إضافة إلى مرافق المنطقة الشرقية التابعة لإمارة الشارقة، وتميزت الأعمال المعروضة في المهرجان بتنوع اتجاهاتها وطرائق تنفيذها، فبينما حافظت فنون العمارة والرقش والطباعة واللوحات الحروفية التي أنتجها فنانون محليون وعرب ومسلمون على تكويناتها الجمالية المرتبطة بالتجريد والرمز والإشارة، فقد ذهبت بعض الأعمال باتجاه التشخيص المتوازن – إذا صحّ الوصف – كونها أعمالاً تنتمي للحداثة الموصولة بذاكرة استشراقية، وباستعادات ثيولوجية تتضمن تقاسيم وعلامات ودلالات مشبعة بالطقوس والشعائر من جانبها الأكثر ميلا للفردانية والتأويل الذاتي والانجذاب الروحاني، بعيدا عن التأطير أو التماثل في الوعي الجمعي المستلب، وجاءت أغلب هذه الأعمال من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية إضافة إلى دول شرق آسيا.

افتح يديك.. أغلق يديك
في عمل بعنوان: «افتح يديك، أغلق يديك» للفنانة اليابانية توموكو إيشيدا نرى هذا التداخل بين أفق التعبير الداخلي وبين آفاق تتعلّى فوق شرطيْ الزمان والمكان، من خلال عمل تركيبي يكسوه البياض الكلي المهيمن على فضاء القاعة، في إشارة ربما لعلاقة طفولية مع مشهدية تساقط الثلوج في اليابان، بياض يحيل أيضا على طهرانية مقيمة في تلك الذاكرة البعيدة والبريئة إزاء المآسي والحروب التي يتسبب في اندلاعها البشر وهم محاطون بنوازعهم الداكنة ونواياهم السوداء.
وتصف الفنانة عملها بأنه يشير إلى تعافي الأراضي والعقول اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، تماما مثل الذي ينظر للأطلال المحترقة، مدركا أنه يمكن تشجيع الناس من خلال طريقة التفكير والإيحاء، مضيفة: «حينما ألمس الورق الأبيض وأقبض عليه، ومن ثم أطلقه وأعيده مرة أخرى لأشاهده أمامي، أستشعر مدى تعقيدات حركات أصابعي، وكفّي، وظهر يدي وذراعي، للقيام بمثل هذه الحركات البسيطة، أشعر ببعض الطاقة تخرج مني، وتعود إليّ بسلاسة، وهذا يذكرني بأغنية طفولية في فترة الحضانة».
وترى الفنانة أنه وعلى الرغم من أن للفعلين (الربط) و (الفكّ) معنيين متعاكسين، إلا أن اليابانيين يجدون فيهما (معيارا مزدوجا) وذلك استنادا إلى طريقة التفكير (الزن) فيما يشبه تآلف الأضداد في سياق تصالحي مع ظروف الحياة وتجاوز الخسارات باعتبارها معبرا للنجاحات.

هندسة الضوء
وفي عمل للفنان الفرنسي جواني لوميرسيه بعنوان: «زخارف.. هندسة الضوء» نتلمس تأثر الفنان بتقنيات الزخرفة الشرقية، ولكن بمنظور متجاوز يوائم به بين القيمة والشكل، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، منجذبا كذلك لفكرة المكعبات ذات القدرة الإيهامية المتحركة حسب زاوية النظر للعمل الفني، فمع وجود الإضاءة المركّزة في منتصف اللوحة، تصبح الهوامش والحوافّ مظللة بعتمة خفيفة وزاحفة وكأن الضوء يتسلل إليها، ليمنحها حياة أخرى تنطوي على الرقّة والشفافية والديناميكية المتفرعة من أصل اللوحة ونواتها.
ويشير الفنان الفرنسي هنا إلى أن اهتمامه المبكر وهو في سن الخامسة بمنظر إسقاطات الضوء في الفضاء، وتأثيرها على إدراكنا، وهو الاهتمام الذي تطور لديه بعد ذلك خلال تعرّفه على الإبداع الفني للبرمجيات البصرية الحديثة المتعلقة بتصميم نقوش الأقمشة، والهياكل المادية في علوم الهندسة والفيزياء وفي التصورات الفلسفية الباحثة عن تفسير لكيفية استخدام الضوء في التلاعب بالواقع المدرك.

روح الأذان
ويقدم الفنان الإماراتي الدكتور محمد يوسف في عمله التركيبي بعنوان «روح الأذان» ما يمكن وصفه بالمزيج السمعي – البصري، المحتفل بحضوره الحميمي في المجتمعات الإسلامية، حيث يصل صوت الأذان إلى البيوت القريبة والبعيدة عن المسجد، ليصبح هو الصوت الواصل بين الصمت والصخب، وبين العزلة والاجتماع، ومقترنا كذلك بطقس الامتثال والتخفّف من أعباء الحياة، والسعي مشيا على الأقدام إلى مسكن الطمأنينة وبيت الحواسّ المجردة، والخلوة الضاجّة بالعشق الإلهي، يتكون العمل من مساقط ضوئية على بقعة داكنة ومغبّرة تحيلنا إلى لون التراب في دروب الأحياء القديمة وهي تعكس الخطوات المضيئة المتجهة للمسجد والملبية لنداء الأذان، بينما نرى في الجوانب العلوية ما يشبه القمر المكتمل وهو يتحرك في اتجاهات مختلفة وتتبعه خطوات الأرجل أينما ذهبت، في التفاتة رمزية لمواعيد الصلوات الخمس.
ويشير الفنان محمد يوسف إلى أنه يصبو في هذا العمل إلى الإجابة عن تساؤلات غير المسلمين حول ماهية صوت الأذان، ولماذا تتجه الجموع إلى مكان محدد، وما الذي يقومون به هناك، مضيفا أنه حاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال عمل فني يترجم الروحانية المتجرّدة للأذان، ويعكس الطاقة الكامنة في الصوت بما يحمله من دلالات نفسية وإيقاعات وجدانية تشيع نوعا من الصفاء وسط ضجيج المدن وازدحامها.

ملكوت الأسرار
ساهمت الشاعرة والمخرجة السينمائية الإماراتية نجوم الغانم برفد نتاجات المعرض بعمل نوعي حمل عنوان: «غرفة الأسرار» وشاركها العمل المنشد العالمي المعروف سامي يوسف، وجاء هذا العرض المشترك أشبه بمختبر حواسّ، تسمو فيه الذاكرة الدينية، وتلتحم في فضاءاته النظرة والنبرة، من خلال التصدي لعبارة عرفانية قديمة تقول: «عندما تقرر أن تبدأ الرحلة، سيظهر لك الطريق» وتلجأ نجوم الغانم لخبرتها السينمائية لمواجهة لوغاريتمات ماورائية ترتبط فيها الحروف بالأرقام، من أجل فك شيفرة الظواهر الكونية واستلهام المغزى من وجود أعداد تتوافر على طاقة سماوية وحضور قدسي، وصولا لتحليل الروابط الخفية بين علم الجبر واللغات السامية ومنها اللغة العربية، والاستقصاء عن الأسرار الكبيرة التي يخفيها جسد الإنسان، حيث تشير الفنانة نجوم الغانم إلى أنه إذا كان للتردد حقل مغناطيسي معروف، فإن ثمة قوة خارقة للحروف والأسماء وتردداتها وقياساتها الرقمية خاصة إذا كانت مرتبطة بالأسماء الحسنى.
ومن هنا يأتي عمل الفنانة والشاعرة الغانم ملتصقا بملكوت الأسرار ومحتشدا بأضواء وهالات وبقع نورانية تصل بين الفاني والباقي، والزائل والخالد، وكأن ثمة ديمومة وجودية تسري بين ما هو بشري وبين ما هو ملائكي، يرافق هذا العمل المتألق بنسقه الضوئي وسط ظلمة محيطة في المكان، دفق سمعي مرهف لأدعية وابتهالات صوفية وعرفانية ينقلها المنشد سامي يوسف إلى خيالاتنا الدينية المتفرعة من شجرة المنتهى، والمنتمية للاسم الأعظم، ونلحظ في أرجاء الغرفة وجود منصات صوتية تحوي تسجيلا لحسابات الجمّل التي تعود لبدايات ظهور علم الحرف في اللغة العربية حيث يستعاض بالأحرف بدلاً من الأرقام، وقامت الفنانة بربط الأحرف اعتمادا على قيمتها الرقمية وعلى تسلسل الأبجدية القديمة (أبجد هوّز) وانطلقت من هذا القياس لتكشف لنا عن قوة وعظمة أسماء الجلالة وكيف أنها تشمل الحروف والأرقام المرتبطة بكل اسم مذكور في القرآن الكريم، وما ينطوي عليه الاسم من أسرار ما زالت عصيّة على الكشف وبحاجة لبحوث معمقة، وكما تؤكد الغانم فإن محاولتها هنا هي واحدة من القراءات الكثيرة التي تحاول الاقتراب من معرفة الكامن والغامض في أسماء الله الحسنى وصفاته.

معراج
وقدمت الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه عملاً فنياً بعنوان: «معراج» اعتمدت فيه على تقنيات التجهيز لتستحضر الجانب الروحاني للمسجد الأقصى، بما يمثله هذا المسجد بالتحديد من ثقل ديني وانحياز أخلاقي تجاه الحق والحرية والسلام الإنساني، وبعيدا عن الجبروت والطغيان والاحتلال الذي جعل هذا المكان المقدس مثار إشكال سياسي وعقائدي شائك ومعقد، بدلا من أن يتحول إلى منارة للمساواة والتسامح والتصالح بين الديانات الإبراهيمية الثلاث.
اهتمت الفنانة فاطمة لوتاه بإبراز الطابع المميز لقبة المسجد الأقصى بلونه الذهبي الفاقع، والمتوفّر على قيمة دينية عالية، وقامت الفنانة بتحديد أركان وجنبات المسجد من أركان أعمدة فضية متراصّة تحتضن في وسطها سجادات صلاة مطرزة باللون الأحمر، الأمر الذي منح العمل بعدا بصريا يتجلى فيه الهدوء الداخلي، كما أن الفراغ الفاصل بين القبة وبين الهيكل العام للمسجد يشي بهذا التواصل الخفي بين العابد والمعبود، وبين الفقير والغني، وبين المؤقت والأزليّ، وترى الفنانة لوتاه أن طريقة تشييدها لهذا العمل ارتكز على مفهوم الحماية والعناية الإلهية انطلاقا من السماء ووصولا إلى الأرض، خصوصا وأن العلاقة بين الزوايا الثمان للمسجد وبين الشكل الدائري للقبة، هي علاقة تصف التداخل غير الملحوظ بين المنزّه والمشخّص، وتفتح مجالا لتخطي الراهنية المتلاشية للكائن، كي يتعلى في انخطافات النشوة السماوية، ومن دون أن تمنعها هذه الراهنية من السفر الذهني إلى آماد بعيدة وحالمة واستثنائية.
وأفصحت أعمال الفنانة السعودية أسماء باهميم عن معرفة دقيقة بفن المنمنمات الإسلامية، مستندة في ذلك على اطلاع واف بتحولات أساليب الرسم والكتابة والتعبير الشعري والخيال القصصي والروائي في العصور الإسلامية المختلفة، وبالتحديد في العصور التي شهدت مزجا بين الفنون العربية الأقرب للروي الشفاهي والتعبير التجريدي، وبين الفنون القادمة من حضارات بعيدة وأخرى مجاورة للمحيط العربي مثل الحضارة الصينية والفارسية والإغريقية التي اهتمت بالتصاوير والرسومات كتجسيد وتوثيق للملاحم والأساطير والشخصيات البطولية اللامعة في قصص هذه الشعوب وفي مروياتها المتوارثة، واستندت الفنانة باهميم في أعمالها المعروضة بالمهرجان على أفكار تراود مخيلة الأطفال، وتلحّ عليهم بأسئلة تقترن فيها الحيرة بالدهشة، مثل سؤال: «كم نجمة في السماء؟» الأمر الذي دفعها لإنتاج سلسلة لوحات بعناوين متفرعة من السؤال الأصلي وهذه العناوين هي: «العصفور الوحيد» و«سماء الحيوانات»، و«الرسالة» وغيرها من العناوين المشتملة على الربط بين الكتابة ورسم الشخصيات ذات الملامح القوقازية في إشارة إلى ازدهار فن المنمنمات في الحواضر الإسلامية شمال الهند وإيران وأثناء سيطرة المغول على المنطقة، ولم تخل أعمال الفنانة من وعي معاصر بالتقنيات الحديثة للرسم فهي تلجأ أحيانا لفن الكولاج المعاصر كي تخرج من الإطار الجامد للوحة، وكي تكسب العمل بعدا تجريبيا يعبّر عن استقلالية الفنان إزاء النسق التقليدي في الفنون القديمة، وللخروج أيضا من أسر التكرار والنسخ والمراوحة الذي وسم الأعمال القديمة بطابع تراكمي متشابه وغير معبّر عن التجربة الذاتية للفنان، وعن رؤيته الخاصة لأفق الجمال بمستوياته المتنوعة وأساليبه المتفاوتة وإمكاناته المتطورة.

سحر البراري
وفي عمل مشترك بعنوان: «كثبان الصحراء» للفنانين ماريو رودريغيز من كولومبيا، وفرانكو مينديز من الأرجنتين نرى هذا الانجذاب لسحر البراري وكأنه ينمو في مخيلة تواّقة للترحال نحو المبهم والمحفوف بالريبة، ولكن بعدّة وافية من حس المغامرة، وببضاعة متخمة بالفضول والرغبة في اقتحام المجهول، اعتمد الفنانان في عملهما النحتي على رسم تخطيطي يجمع بين الظاهر والخفي، ويوفّق بين الدالّ والمدلول، من خلال تسليط الإضاءة على شاشة مصنوعة من الزجاج الحراري، مع ضخّ المؤثرات الصوتية في الغرفة المغلقة والمحتضنة للعمل، ما يتيح للمشاهد فرصة للتأمل في مكونات الصحراء الافتراضية، والشعور بحركة الكثبان الرملية وهي تتجاوب مع إيقاع الريح وتناوب الليل والنهار، حيث يرصد المتلقي للعمل هذه الغنائية المشهدية في مجال واسع يتيح الانجذاب لآلية توسع الكون وتدرّج ألوان الأفق وملاحظة الغبار النجمي الأشبه بخريطة ملاحة لفهم الفضاء وأفول الكواكب وظهورها، كما تحيل هذه المنحوتة المتلألئة بانعكاسات الضوء إلى مدونات الرحالة والمغامرين العرب والمسلمين وهم يجوبون الصحارى للوصول إلى الحواضر والمدن البعيدة، ولاكتشاف ذواتهم في هذه الأسفار الروحية الشاقة والماتعة في آن واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©