الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإمارات تسرد روحها على هواها

الإمارات تسرد روحها على هواها
1 ديسمبر 2010 19:47
لولا أنها تجربة مهمة وتستحق التوقف عند تفاصيلها واستخراج مخبوءاتها والمعلومات الثاوية في تضاعيف حكايتها، لما استحقت الإمارات – التجربة التاريخية والتنموية كل هذا الاهتمام والعناية من الباحثين والمتخصصين، ولما وجدت ـ ربما ـ شهوداً كثيرين يروون هذه الحكاية، في بعديها الخاص والعام، بمثل هذا الدفء الذي لا يخلو من إعجاب، بما تتوفر عليه من ثراء ثقافي وتسامح ديني، سمح للحياة بأن تزدهر في جنبات الصحراء التي كانت، في الثاني من ديسمبر 1971، على موعد مع الحياة. لأنها استضافت بين ظهرانيها وافدين كثر، لهم في هذا التوافد أسباب متنوعة ومآرب شتى، كان للإمارات هذا الكم من المختزنات والمكنوزات التاريخية التي تحتفظ بها في روحها وأعماقها، وكان لها أيضاً في نفوس الساردين وذاكراتهم متسع ليحتفظوا فيه بالكثير مما يستحق الرواية... لهذا كانت الإمارات هي الساردة والمسرود عنها، هي الراوي والرواية، وهي التي تؤثث الذاكرة وتعيد ترتيبها وصياغتها على النحو الذي يرضيها. الذاكرة وطناً في مألوفيات شؤون التاريخ وشجونه، تحضر الذاكرة بوصفها شيئاً مضى وانقضى، تستحضر في مناسبة ما للفخر تارة، ولتعزية الذات الجريحة تارة أخرى، أو ضرباً على وتر الحماسة تارة ثالثة، وفي أحسن الأحوال يكون هذا الاستحضار على سبيل استعراض التجربة وقراءتها قراءة تاريخية... لكن حال الإمارات والإماراتيين مع الذاكرة شيء آخر... ها هنا تتحول الذاكرة الى معيش يومي وراهن، الى بحث عن هوية ما، عن زمن ما، عن حقائق وأناس وحيوات وسمات وحكايا ليست غابرة، إلى وطن يحتمى به... وكأني بالذاكرة هي الوطن الذي يصعب التخلي عنه أو نسيانه. من هنا، ربما، تأتي أهمية المشروع التوثيقي “مشروع ذاكرة الإمارات” الذي يعكف المركز الوطني للوثائق والبحوث من خلاله على توثيق الوطن، والذي تعتبر ندوة “ذكريات الإمارات من خلال السرد الشفاهي” لبنة أخرى تنضاف إلى لبناته، وهو مشروع صميمي لا يكرس حضور الذاكرة التاريخية وحسب بل يوثق هذه المرة لجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والرعاية الصحية والتعليم المبكر والتدريب المهني والمصارف وقطاع الأعمال ويومياتها وكل ما يتعلق بثقافتها، وهي الحلقة التي ظلت تعتبر “كعب إخيل” أو الحلقة الأضعف في حركة توثيق الذاكرة الإماراتية التي يقل شهودها يوماً بعد يوم، يرحلون بلا عودة، مشكلين في رحيلهم فقداً حقيقياً لتلك الجذور الرواسخ التي منحت للحياة – ذات يوم – نكهتها الخاصة. تلك القامات التي عاشت وشهدت ورأت كيف بنيت هذه الدولة صرحاً صرحاً، واحتفظت عبر ذاكراتها بشكل الحياة وطبائع الناس والتغيرات التي طرأت هنا او هناك وكل ما جرى خلال التجربة الإماراتية التي شقت طريقها الى التحديث والعصرنة بوتائر عالية يعترف كل من عايشها او كان على مقربة منها، إنها كانت شديدة السرعة بحيث يصعب الإحاطة بكل تفاصيلها، ما يجعل هذه التجربة أيضاً وأيضاً احتمالاً قابلاً للقول وإعادة القول، وما يجعل من هؤلاء الشهود الباقين على قيد الوفاء للوطن والذاكرة ثروة ينبغي الاستفادة منها قبل أن تذهب هي الأخرى فتغدو على قيد النسيان أو الفقدان... لكن هذا يحتاج على ما يبدو ليس إلى شهادات الرواة فقط، وهو بالتأكيد يتناسب مع عنوان الندوة الحالية (السرد الشفهي)، بل إلى بحوث علمية جادة وموثقة ومحكمة ربما تأخذ دورها على قائمة ندوات المركز المقبلة. قبل الولوج إلى أحوال البلاد والعباد من خلال الشهادات التي قدمها المشاركون في أعمال الندوة، لا بد من التوقف عند كلمة سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة، رئيس مجلس إدارة المركز الوطني للوثائق والبحوث، التي ألقاها نيابة عن سموه معالي الدكتور هادف بن جوعان الظاهري وزير العدل في افتتاح الندوة، وما حملته من تأكيد على أهمية الوعي بالتاريخ عامة ومصادره الشفاهية خاصة، ودعوته المواطنين والمقيمين الذين يحوزون وثائق تاريخية للتواصل مع المركز الوطني، بحيث يتم توثيق هذه المقتنيات وحفظها للأجيال المقبلة، والتي أشار فيها سموه إلى أن المركز سيقدم كل الدعم اللازم للمواطنين والمقيمين الذين يحوزون هذه المقتنيات، والتي أكد فيها سموه أن الوعي بالتاريخ عامة، ومصادره الشفاهية خاصة، كان من أبرز السمات الشخصية لمؤسس الدولة، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه”، وأن هذا الالتزام القوي ما زال مستمراً في ظل القيادة الرشيدة لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله”، معتبراً أن “حَشْد أكبر عدد ممكن من ذوي الخبرة من الإداريين والمهنيين البريطانيين، الذين تولوا مسؤوليات، وعملوا لسنوات طويلة في الإمارات، والاستماع لشهاداتهم وسجل ذكرياتهم، والحوار معهم سيكون تجربة سردية مهمة، تسهم في تقديم صور حيّة ومتنوّعة للأحداث والتجارب والممارسات غير المدونة، التي شهدها مجتمعنا بما يملأ الثغرات، ويدعم مصادر الثقافة الوطنية المكتوبة، ويفتح آفاقاً أرحب للبحث التاريخي، ويزود الأجيال بفهم أفضلَ للحاضِر، وتطلع راسخ نحو المستقبل”. كذلك، من الضروري التنويه إلى أهمية الوثائق والمقتنيات الأثرية النادرة التي تحتويها قاعة الشيخ زايد بن سلطان، والمتعلقة بتاريخ دولة الإمارات، إذ يعود بعض الخرائط إلى العام 1502 ميلادية، فيما ترجع بعض الوثائق إلى الحقب البرتغالية والهولندية والبريطانية، وقد حصل عليها المركز من الأرشيفات العالمية المتخصصة. فضلاً عن كونها تضم عدداً كبيراً من الصور التاريخية، التي ترصد منجزات المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد في مختلف المجالات، بالإضافة إلى شاشات العرض الإلكترونية، التي تقدم صورا شاملة حول منجزات القائد المؤسس الشيخ زايد، وصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظة الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولى عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكذلك الجناح الخاص بالدكتورة لطيفة، التي عملت ممرضة بمستشفى الواحة بالعين منذ العام 1962م. الرواية المحلية في محاورها، اتسعت الندوة لموضوعات عدة. وعلى مدى ثلاثة أيام استمع الحضور الى شهادات متنوعة جاء جلها من اشخاص بكروا في المجيء الى هذه البلاد، وبعضهم من أوائل من عمل في المجال الذي تخصص في الكتابة حوله. ومن أبرز الملاحظات التي يمكن الحديث عنها في هذه الندوة دعوة المركز ببعض الرواة المحليين والاحتفاء بهم وعدم الاكتفاء برواية الشهود الأجانب الذين جاؤوا الى المنطقة في وقت مبكر، وهو أمر مهم لفت إليه الباحث التراثي عبد العزيز المسلم وهو يلقي بحثه الموسوم بـ “الذاكرة الشعبية مورداً لتاريخ الإمارات وثقافتها” والذي تتبع فيه سيرة حياة الراوية جمعة بن حميد بن خلفان بن صالح وتعلمه وثقافته وأعماله وأسفاره واختصاصه مآثره والمرحلة التاريخية التي يرويها. ومن بين هؤلاء الشهود المحليين الذين حرص المركز على دعوتهم للاستماع إلى شهاداتهم: رجل المال والثقافة جمعة الماجد، خميس راشد بن زعل الرميثي تاجر اللؤلؤ والمستشار التراثي الذي يحلو لبعضهم أن يسميه “الموسوعة المتحركة”، فرج بطي المحيربي رئيس مجلس إدارة جمعية الإمارات للغوص وهو رجل أعمال وغطاس وصياد لؤلؤ متمرس، هزاع بن سلطان الدرمكي وهو من أوائل الضباط الذين انضموا الى فرق الدفاع في جيش الإمارات العربية المتحدة منذ بداية تأسيسها حتى دمج القوات المسلحة، ومحمد ربيع المهيري الذي تحدث عن التجارة في الأيام الأولى من عمر الدولة. بالإضافة الى د. سيف البدواوي خرّيج مدرسة كشافة ساحل عمان للأولاد الذي تحدث عن “التاريخ العسكري للإمارات العربية المتحدة: مدرسة قوة ساحل عُمان”. ونبه جمعة الماجد في ورقته إلى مسألة أخرى تتعلق بدور المثقفين والباحثين ورجال المال مفاده: “لقد منحتنا الإمارات الحرية في العقل والمال: فلننظر ما نحن بذلك فاعلون!”، وتحدث رجل المال والثقافة عائداً إلى منطقة الشندغة بدبي، محل ولادته ومسقط روحه، التي ما زال يحتفظ بها في ذاكرته وتمر أمامه كلما تذكر طبيعة الحياة في الزمن القديم، عن بيوت من الحجر والجص والطين والشعر، وعن أزقة تربط الحي بأطرافه في مختلف الاتجاهات؛ الواسعة تفسح مجالاً للجمال المحملة بالبضائع لكي تصل الى مراميها، فيما الضيقة تمنح المشاة ظلاً يقيهم حرارة الشمس. معرجاً على المعرفة العميقة للأجداد بالبحر الذي كانوا يتنقلون عن طريقه بسهولة كما لو أنهم كانوا يتنقلون على اليابسة، مستعرضاً أدوات تلك المعرفة وحال تجارة اللؤلؤ التي كانت مصدر رزق لسكان الخليج العربي الذي ترددت سفنه وبحارته على موانئ الهند وإفريقيا ما عزز مهاراتهم في أسفار البحار، وأنعش اقتصاد المنطقة وتداولاتها التجارية. وتطرق الماجد في ورقته، التي قدمها عبر تقنية التسجيل التلفزيوني، الى أنظمة الغوص وقوانينه التي وضعت وطبقت، حسب رأيه، لتكفل وتحمي حقوق الغواصين والتجار والمستثمرين، ثم الى انهيار سوق اللؤلؤ والصعوبات القاسية التي واجهها الناس بسبب استبدال لؤلؤ الخليج الطبيعي بلؤلؤ اليابان، ثم شرح أثر الأحداث تلك على تكوينه وكيف خاض الاختبارات الحياتية وتجاوزها، ماراً على شغفه بالعلم الذي دفعه الى تأسيس معاهد ومدارس خيرية وقفية ودعم الراغبين في التعلم لا سيما المرأة، ثم مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، مؤكداً أن مشواره لم يكن سهلاً وأن ما يقدمه هو من قبيل رد الجميل لبلاده. شهادات أجنبية حضرت الرواية الأجنبية بشكل واضح أيضاً ما يتيح لمن يرغب في المقارنة والتحليل باباً فسيحاً للخروج باستنتاجات مهمة، خاصة إذا كان من المتخصصين في تاريخ المنطقة والتجربة التي قامت عليها دولة الاتحاد. ومن الذين أدلوا بشهاداتهم حول تأسيس الإمارات وطبيعة الحياة في تلك الفترة: اللورد (باتريك) رايت ـ ريشموند، والسير/ هارولد ووكر KCMG الوكيل السياسي المساعد في دبي 1958-1960، وسفير في دولة الإمارات العربية المتحدة في 1981- 1986 في شهادته الموسومة بـ “1958-1960: موظف ناشئ في عصر التطوّر”، وإدريك ر. ورسنوب OBE ضابط سياسي في أبوظبي 1958-1959، وضابط تجاري في دبي 1959-1961 الذي سرد ذكرياته عن الحياة في الإمارات المتصالحة 1958-1961، وأوليفر مايلز CMG الضابط السياسي بالإنابة، الذي رسم صورة لما كانت عليه في أبوظبي 1961، وصامويل أنطوني كوستون كشافة ساحل عمان، 1959-1961 الذي تحدث عن “مشيخات الإمارات العربية المتحدة السبع: بين الأمس واليوم”، وأنطوني راندل ضابط في كشافة ساحل عمان، 1960-1962 الذي تحدث عن “الإمارات المتصالحة 1960 ـ 1962: نظرة شخصية بعد خمسين عاماً” وجون مايكل كيرتس كشافة ساحل عمان المتصالح، 1966-1968 “ظروف العمل منتدباً في كشافة عُمان المتصالحة 1966- 1968” ونيفيل جرين و ديفيد جلسبي و الستير ماكسكيل و مارجريت بولارد وباتريشيا موريس. وافتتح السير جوليان والكر ورقته الموسومة بـ “من الإمارات المتصالحة الى الإمارات العربية المتحدة (1953-1972)”، بمقارنة بين الأمس واليوم مؤكداً أن التناقض واضح بين الفقر وانعدام الأمن في الساحل المتصالح من جانب، والرخاء والأمان في الإمارات العربية المتحدة اليوم. لافتاً إلى أن الصراعات كانت في البر والبحر عام 1953، وأنهم كانوا يفتقرون الى الأمن والأمان بشكل عام. وتأتي أهمية الاستماع الى شهادة والكر من كونه الرجل الذي قام بترسيم الحدود بين الإمارات الشمالية المتصالحة، يقول: “كنا تحت تهديد امتداد السيطرة السعودية حتى وسط سلسلة جبال حَجَر داخل عُمان؛ ما يمكن أن يُقِلّصَ أراضيَ أبوظبي إلى ثُمْنِ مساحتها، إذ لم تكن دبي والشارقة وقرية أبوظبي معروفة دولياً. لكن واحة البريمي كانت قد تصدَّرتِ الأنباءَ بسبب تمرُّد قوات الحصار التي كانت تحت قيادة بريطانية ومقتل ضباطها”. وبعد أن يروي كيف كانت الحياة الاجتماعية والخدمات ويصف طبيعة حياته وصعوبات فهم الدارجة الإماراتية، يحكي كيف التقى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم؛ وسلَّم مائةَ بندقية للشيخ شخبوط في أبوظبي، والشيخ زايد في البريمي، والشيخ صقر الذي كان يتعقب تجارَ الرقيق في رأس الخيمة. مؤكداً أنه اكتسب المعرفة والخبرة السياسية تدريجياً، وعمل على ترسيم الحدود بين الإمارات الشمالية المتصالحة، وهو عمل لم يكن التنقيبُ عن النفط مُمكناً بدونه. ويضيف: “ساعدتُ في جَمْع المعلومات حول البريمي. ولم تكن هناك خرائطُ؛ فتعيَّنَ عليَّ توفيرها. إلا أنه لم يكن بوسعنا الإعلانُ عن شيء فالأدلةُ التي استخدمتُها في عملية الترسيم، وتلك التي عند السعوديين قد تكون متشابهة للغاية؛ لذا أعددتُ تقريراً مُفصَّلاً عن الحدود، ورفعتُه لوزارة الخارجية، (...) عُدتُ من إجازة، و كان التحكيم بشأن حدود البريمي في جنيف قد انهار؛ فأعدْنا احتلالَ الواحة، وأعلنّا عن الحدود التي كنّا قد رسمناها بين أبوظبي والسعودية. ويسرد والكر بالتواريخ تتابع الأحداث بعد ذلك وعمله مع المقيم السياسي ورحلاته بين مسقط والبريمي والشارقة حتى تمكن، كما يقول، من تسوية الجزء الأعظم من الحدود بين الإمارات المتصالحة وعُمان. وفيما يخص دوره في الاتحاد قال إنه آثر في البداية الابتعادَ عن المناقشات الخاصة بتشكيل اتحاد من تسع إمارات، وركّز على محاولة تقوية التعاون بين المشيخات في ظل مجلس الإمارات المتصالحة، ودعم رأس الخيمة، والشارقة في نزاعهما مع إيران حول الجزر؛ ومع ذلك فقد بذلتُ كل ما في وسعي لئلا يتحرك الشيخ راشد منفرداً. بعد جلسة افتتاحية عاصفة لمجلس الإمارات المتصالحة في ذلك الصيف؛ قَبلتُ أن أقوم بإقناع الحكام الشماليين بالمشاركة في إقامة اتحاد سباعي مع الشيخين راشد، وزايد. وكنتُ مشغولاً فلم أُخطِرْ وزارتَي الخارجية، والكومنولث بِدَوري الجديد. وعندما نَجَحْنا، طلبتُ منهم تقديمَ التهنئة للحكام. لقد حافظتُ على دستور الاتحاد الذي تمت الموافقة عليه حتى تم تأسيس الاتحاد بالفعل في نهاية ذلك العام. حضرتُ إلى أبوظبي في السنوات الخمس التي تَلَتْ ذلك للعمل مع وزارة الداخلية في الإمارات العربية المتحدة لحل مشاكل أخرى تتعلق بحدود الإمارات الشمالية. ربما لا تكفي المساحة لإيراد كل ما جاء في هذه الشهادات، وما خلقته أو أوحت به من أسئلة لكنها تكفي للقول إن الإمارات في هذه الندوة التي اعتمدت السرد الشفاهي محوراً لها، لم تكن مدار حديث الشفاه فقط، بل كانت مدار حديث العقول التي توقفت حيال ما حققته... كانت مدار قول الساردين وموضوعة السرد ومبتغاه... لكنها في أحيان كثيرة كانت تتقمص دور السارد فتصبح الساردة والمسرود عنها، ربما لم يظهر سردها في الأوراق مكتوباً لكنها وهي تستحضر تجربتها البادية في تفاصيل الندوة، وفي تفاصيل المكان وتفاصيل الصور كانت تسرد بشكل غير مباشر وخفي حكايتها الخاصة عن بناء الإنسان وتأسيس الأوطان... لقد كانت توثق روحها على هواها... شذرات من الشهادات تكاد يد التنمية لم تمس أبوظبي عام (1961)، إذ لم يكن ثمة طرق، ولا أطباء مقيمون، ولا مصادر للكهرباء والماء. ولم يكن هناك سوى ثلاثة أو أربعة منازل مبنية من مواد جامدة. لم يكن هناك مَن يتحدث أيَّ لغات أجنبية، وكان الجميع أُمّيين باستثناء القاضي؛ فلم تكن هناك وسائل للإعلام، ولا مدارسُ غير كُتَّاب صغير لتعليم القرآن. ولم يكن هناك أي مؤسسات حكومية باستثناء قوة صغيرة للشرطة كانت قد شُكلت قبل ذلك بعام أو نحو عام. أوليفر مايلز تعلَّمْنا من حكمة آبائنا وأجدادنا جواهِرَ الكلامِ؛ فالمَجالِسُ مَدارِسُ؛ وهي جُزْءٌ لايتجزَّأ من هُويَّتنا وتراثنا. كان جَدّي شيخَ عِلم، وأبي خريجٌ متفوّقٌ في مدرسة الحياة. فأنا لا أنسى اختبارَه لي عندما قال لي: “لاتُجالِسْ إلا مَن كان أعرفَ منكَ” وبعد أيام سألني مَن هم أصدقاؤك؟ فأجبتُه: أنا أصادق مَن هو أحسنُ مني. فردَّ عليَّ مُصَحِّحاً:” لا، هو ليس أحسن منك؛ فأنا لا أقبلُ أن يكون هناك مَن هو أحسنُ منك. ولكنني طلبتُ منك أن ترافق من هو أعلم منك فتتعلم منه ما تجهل”. لقد تعلَّمنا من تلك المجالس الأخلاقَ العالية والجرأة، والشجاعة والصبرَ، والحِلمَ عند الغضب. كنت شغوفاً بجمع معلومات عن اللؤلؤ، ومارستُ تجارته فأصبحت ملماً بمسمياته، وأوزانه وأشكاله، ومقاييس جماله، وتثمينه على هذا الأساس. لقد احترم سكان الخليج البيئة؛ فتركوا البحر ثمانيةَ أشهر في السنة ما أسهم في اكتمال نموّ اللؤلؤ ووجوده عاماً بعد عام. وللؤلؤ حكاية حكاها لنا أسلافنا: اللؤلؤ لم يتكوَّنْ من ذرَّةِ رملٍ حاولت المحارةُ التجانسَ معه بتغطيته بجزء من مكوناتها حتى أصبح أملسَ كجدارها الداخلي! ولكن على عكس ذلك؛ فيروي لنا أجدادنا: أن اللؤلؤ يأتي من سقوط حبةِ مَطرٍ في المحارة، ولديَّ دليلٌ قاطعٌ على ذلك. خميس راشد بن زَعَل الرُمَيثي الذاكِرةُ الشَعْبية مِرآةٌ صادِقةٌ لثقافةِ الشعوبِ وتاريخِها، وغالِبُها الحقيقةُ الواضِحةُ غيرُ المُزَيَّفةِ أو المُنمَّقة، وهي تحفظُ الأحداثَ على بشاعتها لأجيالٍ مُتعاقِبة؛ يتناقلُها الحُفّّاظُ جيلاً بعدَ جيلٍ، وهيَ لا تموتُ لكنها قد تتحوَّلُ الى حكاية من حكايات الحِكْمة؛ ويفكّر فيها الناسُ، ويأخذون منها العِبَرَ. عبد العزيز المسلم لقد تعلَّمْنا منذُ الصِغَر أنّ “المال يغدي والرجال تييبه”!. إن ارتباطي بالبحر له جذورٌ بعيدةٌ؛ فعلى مدى الخمسة والأربعين عاماً الماضية ارتقيتُ من صبيًّ صغيرٍ يعمل على سفينة للغوص إلى قبطانٍ لسفينة غوص. وللغوص أنظمةٌ مُحْكَمَةٌ؛ فعلى كل سفينة أَدوارٌ ومهامُّ وظيفية محددة يُعمَل بها حسب الأصول والأعراف التي تُنظِّمُ العملَ طوالَ رحلة الغوص، والذي يكون تحت مسؤولية وإشراف النوخذة المسؤول عن السفينة منذُ لحظة إبحارها حتى عودتها إلى الَبرّ سالمة. لقد كان البحر كاليابسة مَصدرَ رزقٍ وكانا مجمعاً للعلوم أيضاً تُقاسُ بهما المواسمُ و الفصولُ؛ فتُحسبُ سرعةُ الرياح و عُلوُّ الأمواج، وسَيْرُ النجوم وجفاف الأرض، وسقوط الأمطار. لقد كانت رحلات الغوص على اللؤلؤ شاقّةً وتمتد إلى شهرين؛ يعودُ الغوّاصون بعدَها إلى اليابسة لعشرة أيام؛ ليذهبوا بعدَها في رحلة غوص أُخرَى تُسمى “غوص اللازم” لمدة أربعة أشهر، ثم يعودون في شهر اكتوبر وتُسمَّى رحلةُ العودة “القفال” أي انتهاء موسم الغوص. لقد مَنَّ اللهُ على الإمارات بالخير؛ فَقاعُ البحر فيه لُؤلؤٌ، وفي بطن الأرض نِفْطٌ، وعلى سطح الأرض ما يقرب 100 مليون نخلة، وما لا يَقِلُّ عن 30 مليون جَمَلٍ! فَرَج بِطي المحيربي التحقتُ بقوة ساحل عمان وأنا في التاسعة من عمري. وانتقلت للعيش في السكن الداخلي كطالب في مدرسة الأولاد في إمارة الشارقة فعرفتُ كثيراً من الزملاء الذين استمرَّتْ علاقتي بهم إلى وقتنا هذا. أثناء وجودي هناك تلقيتُ الدراسةَ والتدريباتِ اللازمةَ والتي بفضلها أصبحتُ نظامياً ومنضبطاً. لقد كان التعليم بالكيف وليس بالكمّ. وكانت النفوس صافية، والمعلمون متفانين في عملهم؛ فيبذل المُدَرّس قُصارى جهده في صقل مواهب الطفل، وتنمية شخصيته ما يُسِهمُ في تأهيله لاحقاً لمواجهة التحديات، ومُعترَك الحياة بثقة وجدارة. كنتُ من مُعاصِري الشيخ زايد طيب الله ثراه، ومن المُتَردّدين على مجلسه؛ كان ـ رحمه الله ـ نِعمَ القُدوة والقائد؛ كان وسيماً، وقويَّ البُنْيَة، شجاعاً وكريماً، ذا هيبةٍ ومحبوباً من الجميع، وكان اجتماعياً ومُستمعٌاً جيداً عندما يستشيرُ الناسَ في قراراتٍ يتخذها. تميَّز المغفور له بذكاء خارق، وذاكرة قوية؛ فهو يميز الأشخاصَ ويَعرِفهم من الوهلة الأُولَى ومُدَقِقٌ تدقيقاً حاداً إذ يتابع أعماله كلها أولاً بأول. لقد تعلّمتُ من مرافقته الجليلة فهو جامعات في جامعة. وهو الذي طوَّرَ إمارة أبوظبي، وسعى لجمع المصالح المشتركة فأسَّسَ اتحادَ الإمارات. ومن مبادراته ومساعيه لِلَمّ الشَمْلِ انبثقَ مجلسُ التعاون لدول الخليج العربية. لقد صَبَّ - رحمه الله - طاقَتَه في خدمة الوطن والمواطن حتى أكسبَ الإماراتِ الاعترافَ الدوليَّ الذي تستحقه. هَزّاع سُلطان الدَرْمكي لا زلْتُ أَتذكَّرُ لحظةََ وصولي إلى مطار الشارقة قادماً من البحرين؛ إذ كنت كمن دخل في حمام بخار! واستقبلني بيتر تريب؛ أولُ الاثنين اللذَينِ شغلا منصبَ الوكيل السياسي، والذين عملتُ تحت رئاستهم في دبي، وكلاهما كانا قد خدما في السودان أثناء الحكم المصري - الإنجليزي، وكان ذلك خيرَ مُعينٍ لهما في عملهما بالإمارات المتصالحة. كان ملعب للتنس ملحقاً بذلك المنزل، وكان- على ما أعتقدُ - الوحيدَ في الإمارات المتصالحة. ويستحيل عليَّ الآنَ تحديدُ موقع ذلك المنزل. كنتُ أستقلُّ قارباً ذا مجاديفَ للانتقال يومياً إلى دار الوكيل السياسي. وكان عدد العاملين فيها قليلاً جداً: الوكيل السياسي، ومساعده، وموظفان من المملكة المتحدة يعملان لتناول الشؤون الإدارية، ومحاسب تم تعيينه محلياً. السير هارولد بيرنرز والكر قُمتُ برحلة شاقَّةٍ إلى أبوظبي عند صولي إلى دبي في نهاية يوليو 1958. كانت أبوظبي بصفة عامة لا تزال تعيش عهدَ العصور الوسطى، وكان تعداد السكان ضئيلاً، ولم يكن فيها سوى ثلاثة من الأوروبيين المقيمين. بينما كنا نغادرُ أعربَ الحاكمُ عن سروره لِزيارتنا المُرْتَقَبة إلى ليوا. وكان مارتن قد عقد العزم على القيام برحلة وداعٍ؛ وكانت بالفعل مُغامرةً رائعة!. خلال فترة عملي في أبوظبي ودبي والتي امتدَّتْ ثلاث سنوات التقيتُ الشيخَ زايد اثنتَي عشرة مرةً تقريباً في أبوظبي والعين، وسَرعان ما تَبيَّنتُ صفاتِهِ المُميزةَ الكثيرة؛ فقد كان فارِعَ الطُول، قويَّ البنيان، وكان ينعم بِلُطفٍ فطريّ، وخِفَّة ظِلّ ما أضفى عليه الجَلال والقوة. وأَنَعَم اللهُ عليه بالحكمة والذكاء، وكان صلباً وسخياً. وعندما ساقَه قَدَرُهُ إلى مناصب عليا لم ينسَ قطُ جذورَه القبليةَ، وفخارَه بمشيخته، وحبَّه لشعبه!. أدريك رولاند ورسنوب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©