الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المثقَّف منقذاً

المثقَّف منقذاً
6 يناير 2016 21:14
إيمان محمد اختار الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب موضوع «أزمة المفاهيم حول الحريات وحقوق الإنسان» لمناقشته في المؤتمر العام السادس والعشرين الذي أقيم في أبوظبي من 24-29 ديسمبر الماضي. ورغم أن أوراق العمل المقدمة اتفقت على صعوبة تحديد مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان في ظل الخلط الكبير فيها على المستوى العربي، واستغلال ذلك الخلط سياسياً ودينياً لتحقيق المزيد من السلطات والنفوذ والمكاسب المادية أيضاً، إلا أنها لم تسقط مسؤولية المثقف أمام فوضى المفاهيم، ودوره المطلوب لإعادة تقويم الوعي المجتمعي. هنا قراءة لأوراق العمل التي ركزت على دور المثقفين والأدب في مواجهة الأفكار التي تعوق تقدم المجتمع وتقف عقبة أمام الحريات وحقوق الإنسان. جاء في طليعة أوراق العمل التي ركزت على دور المثقف حالياً في مواجهة الأفكار الظلامية ما قدمته فريدة النقاش، اليسارية المصرية التي ذاقت مرارة السجن أكثر من مرة بسبب كتاباتها، فقد رأت أنه من الأجدى الآن «التوقف أمام المسؤولية الملقاة على عاتق المثقفين، النقديين منهم على نحو خاص، بما أن حلول المشاكل تأتي عبر العقل الناقد ولا يصنعها البؤس المحض أو الشعور به، كما أن السخط لا يصنع المقاومة وإن كان بوسعه أن يستدعيها، وإنما يصنعها على نحو فعال كل من الوعي النقدي وتنظيم الجماهير حتى تصنع قيادتها، فمن الخطأ الكبير تحويل الشعب غير المنظم إلى أسطورة مقدسة». وحاولت النقاش تحديد المثقفين النقديين بتوسيع هذه الفئة بحيث لا تقتصر على الكتاب والأدباء والفنانين فقط، بل تشمل كل المواطنين وإن لم يمارسوا وظائف المثقفين، ومهمتهم العمل مع قوى التغيير الاجتماعي وتفعيل أوساط التغيير بشكل مباشر. نقد وتفكيك ورصدت النقاش انشغال الساحة الفكرية والساحة السياسية هذه الأيام بتجديد الخطاب مع التركيز على الخطاب الديني التكفيري على نحو خاص، وقالت: «إن كانت أجندة المثقفين النقديين قد وسعت من نطاق الحاجة للتجديد، وقد اختاروا أن يقوموا بهذه المهمة التي تدعونا للتوقف أمام شروط هذا التجديد وآلياته بدءاً بتفكيك الخطابات القائمة، واستشراف عناصر جدول أعمال لو توافق حوله المثقفون النقديون والطلائع السياسية سوف نقطع أولى الخطوات في اتجاه إنجاز أهداف الانتفاضات والثورات وعلى رأسها تأمين الحريات العامة». وبتحليلها للخطابات السياسية الرئيسية في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي، تجد النقاش أن غالبيتها تستخدم نفس الآليات المعرفية للتكفيريين، ولو بلغة مغايرة، بل كثيراً ما تسعى لإكساب خطابها شرعية بنسبته إلى الدين، وإضفاء قداسة على السياسة حتى يكون من السهل بعد ذلك تأليه الديكتاتور، أو الرئيس الملهم أو الزعيم الذي لا يخطئ، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لكل صنوف الاستبداد وطرائقه والتي طالما قادت البلدان إلى كوارث كبرى. وتجد النقّاش ملامح هذه الآليات في خطابات غالبية القوى السياسية، «فقد فشلت هذه القوى غالباً في إحداث قطيعة مع السجل الطويل لخلط السياسة بالدين، وبالتالي لن يكون العمل من أجل تجديد الفكر الديني وخطابه مجدياً دون تفكيك المنظومة بأكملها، بجوانبها السياسية والثقافية، في مناخ من الحرية الفكرية والسياسية تتفتح فيه كل الزهور، وهو مناخ لن يتحقق بقرار من جهة ما، وإنما سينتج عبر عملية صراعية ونضالية طويلة المدى تبدأ بنقد ذاتي نزيه يمارسه ممثلون مسموعو الكلمة للتيارات السياسية والثقافية الرئيسية في البلاد، مع الحاجة إلى فض الاشتباك الظالم الذي نجح المتطرفون الدينيون في إنتاجه بين العلمانية والإلحاد، وهو ما يقتضي تسليط الأضواء القوية على الإنتاج الفكري الثري، في هذا السياق، لعدد من المفكرين العرب والمسلمين توفرت لهم الحرية الفكرية في بعض الجامعات الغربية والعربية، فأنتجوا أعمالاً مهمة جرى تهميشها ضمن عمليات التهميش الواسعة التي تعرضت لها التوجهات العقلانية التنويرية في الثقافة العربية الإسلامية عبر العصور، وتحتاج كل من مؤسسات التعليم والإعلام إلى إعادة بناء خروجاً من التلقين والغوغائية والإثارة إلى تكوين العقل النقدي وفتح أبواب السؤال دون إملاء الإجابات المسبقة». الأدب والحقوق وفي معرض تناولها لموضوع «الهوّة بين شعارات الربيع العربي الحقوقية واستراتيجياته السياسية: ثقافة السلام نموذجاً ومآلاً» رأت البحرينية انتصار قائد البناء، أن الأدب يصب إلى حد بعيد في مجرى الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، «فكثير من الأعمال الأدبية التي صنفت بأدب السجون أو أدب المقاومة أو الأدب السياسي أو غيرها كانت تتناول قضايا حقوقية متسقة مع مفاهيم حقوق الإنسان. وقد نالت بعض تلك الأعمال، باعتبارها عملاً حقوقياً نضالياً، ما تناله الأعمال الثقافية الحقوقية من المنع والحظر من بعض السلطات الحاكمة، ونال بعض الأدباء ما نال الناشطين السياسيين من السجن والتهجير والتهميش وغيرها من الممارسات ذات الطابع الأمني، ويمكن تفسير ردة الفعل السياسية تجاه تلك الأعمال الأدبية بالآلية (الأمنية) في تلقي بعض السلطات الحاكمة والأجهزة الأمنية لتلك الأعمال الأدبية التي تمارس حرية التعبير عن الرأي، فالأجهزة السياسية تنظر إلى تلك الأعمال الأدبية ليس باعتبارها أعمالاً فنية تعبر عن نظرة للحياة والإنسان والحرية، بل باعتبارها فعلاً سياسياً تحريضياً مؤدياً إلى الإخلال بالأمن والاستقرار ومهدداً للنظام الحاكم». وترى البناء هذه المعضلة تجلياً آخر للفهم الملتبس لمبادئ حقوق الإنسان وتلبيس ما هو حقوقي وثقافي بما هو سياسي وحراكي «إنها أزمة ثقافية عربية ناتجة عن البناء السياسي الأمني لبعض الأنظمة الحاكمة التي كان لها انعكاسات سيئة على فهم قضايا حقوق الإنسان والتعامل معها، وهو ما فتح الباب واسعاً لتراكم الملفات الحقوقية العربية بين أيدي المنظمات الدولية وفي أروقة مجلس حقوق الإنسان الدولي. وهو، أيضاً، ما جعل القضايا الحقوقية حقلاً خصباً لابتزاز العديد من الدول العربية وتهديد أمنها الوطني وسلامة أراضيها.. الأمر الذي جعل الفهم المتزن لمبادئ حقوق الإنسان أكثر تعقيداً في ظل الوضع الحرج وغير الآمن في الوطن العربي». ورأت أن أحد المؤشرات الخطيرة على تسييس قضايا حقوق الإنسان، هو أن تنتهي المطالب الحقوقية التي بدأ بها حراك ما يسمى بـ«الربيع العربي» مبشراً بـ(ثقافة السلام) إلى صراعات سياسية وحروب أهلية وتدخلات خارجية عسكرية. حمولات أيديولوجية ضاغطة أما علي حسن الفواز، الباحث في المركز العربي الأوربي لحقوق الإنسان والقانون الدولي، فقد قدم شروحات معمقة عن السياقات المعقدة التي جعلت من الصعب استخدام المفاهيم الحقوقية بتجرد قانوني، أو موضعتها خارج المهيمنات الاجتماعية والتاريخية السائدة في هذه الدولة أو تلك، «فالكثير من هذه المفاهيم والمصطلحات تتسم بحمولات سياسية أو ثقافية أو أيديولوجية، وهو ما يجعلها أطراً ضاغطة، ومهيجة لثقافات شعبوية تكرس النظرة الدونيّة للآخرين، ولاستثارة مشاعر عنفيّة تتمظهر في اللاوعي الجمعي للجماعات والأحزاب أو القوى غير الدوليّة، أي أنها ستعكس تأثيراتها على الكثير من المواقف والآراء والسياسات والعلاقات التي تحكم علاقة المواطن بالسلطة والجماعة والتاريخ والأعراف والتقاليد والقيم السائدة في هذا المجتمع أو ذاك». وأرجع الفواز كل ذلك إلى طبيعة بعض الأنظمة ذات السياسات القهرية والتي «تمثل أكثر العوامل خطورة على حقوق الإنسان، وفي تشويه تأصيل وتداول هذه الحقوق والحريات، بدءاً من التسييس القسري للأطر القانونية والثقافية، وفرض رقابة على حريات الرأي والتعبير، وقمع كل أشكال المعارضات المدنية، وصولاً إلى توريط شعوبها في الصراعات الأهلية، وفرض هيمنتها على وسائل التعبير والرأي، ومنها وسائل الإعلام مثل القنوات الفضائية والصحف، كل هذا يتعارض وما تقرره المادة التاسعة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من أنّ لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيّد بالحدود الجغرافية». هوَّة بين التمثل والتطبيق هذه الحالة وصفها الباحث السوري الأرقم الزعبي بالهوَّة بين ما نتمثل وما نطبق، في معرض شرحه لتطبيقات الحريات وحقوق الإنسان وفق المنظور الإسلامي، وما يماثلها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان «فمنذ أن أعلن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهناك تحفظات على مضمون الإعلان، واتهامات وتقارير دولية تصدر حول قهر الحريات وانتهاك حقوق الإنسان في أغلب الدول العربية، قائمة على ما هو وارد في منطوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليس وفق الثقافة المحلية لمجتمعنا. يضاف إلى ذلك تزايد الحروب البينية في عالمنا العربي، وما نتج عنه من انتشار للتيارات التكفيرية وتطبيق حد المرتد واستسهال هدر الدماء، وسماح شيوخ التكفير لأنفسهم بتفويض من الذات وليس من المجتمع أو ذي علم بالاستنتاج أن شخصا ما قد كفر دون إعلان هذا الشخص جهارا أنه كفر بالدين». وخلص الزعبي إلى أن «ما يجري في مجتمعاتنا – ولو بشكل متفاوت – من استباحة دم وتسويق لظاهرة التكفير التي أصبح لها علم وحدود جغرافية وموارد ومحطات إعلامية وغير ذلك، إلى جانب وجود ظواهر علمانية لقهر الحريات تتآخى مع الظاهرة التكفيرية المنتشرة بجوهر الفعل لجهة الاعتداء على الحريات وحقوق الإنسان... كل ذلك يشكل أسوأ حالة لتطبيق حقوق الإنسان... إذا لم يحسم هذا الصراع لا حرية ولا حقوق للإنسان تستحق الذكر». خيبات المثقف رغم رصده للجهود الدولية لدعم حقوق الإنسان طوال العقود الستة الماضية عبر تتبّعه للصكوك والمواثيق والإعلانات لحقوق الإنسان، والتي وثقتها منظمات دولية وإقليمية ومحلية، إلا أن الدكتور يوسف الحسن يرى أن هذا الكم الهائل من المواثيق والآليات والمؤسسات، لم يتح للحريات وحقوق الإنسان الاحترام الكامل، وتساءل عن مدى مسؤولية الأدباء والكتاب عن هذه الخيبات والفوضى؟ وهل لهم دور مؤثر في عصر «الفهلوة» السائدة اليوم؟ واستدرك الحسن بقوله: «لست مع جلد الذات، ولست مثل ذاك المثقف الكاتب الذي يرمي من برجه العاجي في باريس، كل الأدباء والكتاب العرب بالجبن والخيانة، لكني أصف المشهد الراهن، في اللحظة الحاكمة الآن، وكيف تؤثر وتتحكم فيها «نخبة» جديدة لم يعد يهم أن تكون «مثقفة» أم لا، المهم أنها تحكم الموقع المحوري في الوضع الراهن، فعلى مدى السنوات الخمس الماضية ظهرت أمثلة كثيرة، منها حركات الإسلام السياسي التي لم تنتج على مدى سبعة عقود مبدعاً معترفاً به في مجال الثقافة والإبداع والفنون وبقية حقولها، ورغم ذلك سطت على المشهد وتسيَّدت، مثلها مثل «مافيات» المال و«مافيات» الإعلام والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، وأنصاف العلماء والفقهاء، والعرافين تحت الطلب.. هل هذه التركيبة تصلح أن تكون المعزز للحريات ولحقوق الإنسان، ولمشروع بناء ثقافة جديدة للمستقبل؟». وطالب الحسن النخب المثقفة المبدعة بالتفكير بطرق وأدوات وآليات جديدة، تجمع ما بين الحريات والحقوق، وبين الآليات الضامنة لكل أطراف المجتمع ضمن دولة عادلة، و«لنتذكر أن كل هذه التقانة التي بين أيدينا وننتفع بها، لم تنتجها سوى علاقات قائمة على الحرية والإبداع والمعرفة». تطبيق مزدوج ومتحيِّز ويبدو أن الخلط في مفاهيم وممارسات الحريات وحقوق الإنسان لا يقتصر على التجربة العربية، إذ خصص الدكتور مسعود عمشوش من جامعة عدن ورقته عن «المفاهيم الفرنسية لحقوق الإنسان والحريات العامة ومدى تطبيقها تجاه العرب» والتي أقر فيها «أن الحقوق والحريات التي تمّ إقرارها في الدساتير ولوائح المنظمات الدولية، في مرحلة كانت معظم شعوب الشرق والدول النامية تخضع سياسياً وعسكرياً لهيمنة الغرب، هي في الحقيقة صناعة غربية، شارك الفرنسيون كثيراً في صياغتها وقولبتها وتحويرها وفق تطور معتقداتهم ورؤاهم ومصالحهم الاقتصادية والسياسية». ويرى عمشوش أن الفرنسيين يتباهون اليوم بالدور الكبير الذي قاموا به في سبيل ترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة أو حقوق المواطن في العصر الحديث، و«يذكِّرون عادة بإسهامات الفيلسوف جان جاك روسو في هذا المجال، ويحرصون دائماً على تضمين نصوص من كتابه (العقد الاجتماعي) في مناهج تدريس لغتهم للأجانب، ليؤكدوا أنهم صانعو حقوق الإنسان، وإذا كان من الصعب اليوم إنكار ذلك الدور الفرنسي في بلورة وصياغة مفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة، سيكون من اليسير أيضاً إبراز حقيقة أن تلك المفاهيم التي تضمنتها الدساتير والإعلانات الفرنسية قد ظلت في كثير من الأحيان بعيدة عن التطبيق، لا سيما حينما يتعلق الأمر بحقوق العرب في فرنسا نفسها، أو في بعض مناطق الوطن العربي كالجزائر وبلاد الشام». ومع تسليمه بصحة ما تضمنته دساتير وأنظمة الدول الغربية من تشريعات تؤكد حرصها على احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة، إلا أن الممارسة والواقع، كما يقول عمشوش، يبرهنان باستمرار أن تلك الدول، ومنها فرنسا، رغم ما تملكه من وسائل حديثة ومتطورة و(ناعمة) لمكافحة مختلف أنواع الجريمة، لا تتردد في تعطيل تلك الحقوق والحريات والأنظمة التي وضعتها لحمايتها، وبوسائل مختلفة، لن يكون أجملها اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ، أي (حالة اللاقانون)، ولفترات طويلة. وفي المحصلة، ينتهي عمشوش، إلى أن «التطبيق المزدوج والمتحيّز لنصوص حقوق الإنسان والحريات العامة من قبل فرنسا يسلب تلك النصوص مصداقيتها، ويجعلها مجرد أدوات أيديولوجية، لكن ذلك لا يلغي حاجتنا لتلك النصوص التي ينبغي أن تظل قائمة بأبعادها العالمية بهدف الحفاظ على السلم المحلي والعالمي. فمن المؤكد أن التناقض بين الخطاب والممارسة، وبين الشعار والواقع في التجربة الأوروبية – كما يقول محمد سبيلا- لا يلغي البعد الكوني لمفهوم حقوق الإنسان». تغيير الأنماط ويذهب الدكتور ريمون غوش، أمين الشؤون الداخلية في اتحاد الكتاب اللبنانيين، إلى أن التطوّر العلمي خلق أنماطاً من الحياة وطرق عمل وعيش مختلفة عمّا عهدته البشريّة، «فالتطوّر الإلكتروني الذي قرّب بين القارات عن طريق الصوت والصورة جعل تفاعل العقول المختلفة ممكناً، وهذا لعب دوراً كبيراً في تغيير أنماط العيش إن كان في الاقتصاد أو السلوك أو الاهتمامات من عيش وتسلية وحبّ ركوب المخاطر والتمتّع بالأسفار والتنقّل بين البلدان. وقد أدّى هذا التطوّر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وهدم حائط برلين إلى نقلة نوعيّة في الاقتصاد الليبرالي حيث ظهرت شركات كبرى عابرة للقارات تتخطّى حدود الدول وفرضت نفسها على معظم شعوب العالم، لقد أخضعت هذه الشركات حكومات الدول كي تسهّل انتقال السلع وتدافع عن اقتصاد السوق وتحمي منتوجاتها». هذه النقلة النوعيّة في الاقتصاد والحياة، ولّدت على المستوى العلمي وبخاصّة الفلسفي أزمة في المفاهيم حول الحريّات كما يرى غوش «فالمفهوم أصبح له أبعاد اقتصادية ومنافع ماليّة وطموح سلطوي – سياسي، أي أنّ مفاهيم العولمة الجديدة غيّرت في مفهوميّة الحريّة التي تناقلتها الأجيال، والتي كانت قائمة على تصوّرات ذهنيّة مجرّدة وثابتة... بحيث إنّ مفهوم الحريّة الذي أعطاه أفلاطون أيَّام اليونان بقي معناه ثابتاً على مدى القرون وعند مختلف الشعوب. وقد رأينا ماذا عنى عنده التحرّر من الجهل السياسي والاقتصادي والتربوي والديني، والتحرّر أيضاً من العبوديّات عن طريق الابتعاد عن النزوات والعمل على السيطرة عليها والتحكّم بها للمحافظة على السلوك». أمّا مع العولمة، فأصبحت الحريّة تتمتّع بسلطة كبرى وتفرض نفسها على الشعوب عن طريق دفع الأفراد إلى اختيار السلع التي تروّج لها وسائل الإعلام والإعلانات على أنواعها: «لم تعد الحريّة مرتبطة بالفضيلة كما شاهدنا عند فلاسفة العهد السقراطي، وبالتالي بالمعرفة... ولم تعد الحريّة هدفها المحافظة على عصاميّة الأفراد وأخلاقهم وطرق عيشهم، بل أصبحت الحريّة تحرّراً من أيّ قيود ومن ضوابط وسلوك. فالأهل يطلبون الحريّة الكاملة لكي يستفيدوا من الحياة فينكبّوا على الملذّات، غير آبهين بتربية أولادهم وبتعليمهم وبمراقبتهم علميّاً وسلوكياً وكيانياً. لذلك يستفيد الأولاد بدورهم من هذا التفلّت التربوي ويُقبلون على الحياة بشغف أقوى من أهلهم... فيتحوّل المجتمع إلى دروب الاستهلاك على أنواعها وبخاصّة طلب الملذّات... رافعين مبدأ الحريّة كمفهوم يجب احترامه بغية الاستفادة من التفلّت الأخلاقي والوجودي. فالحريّة تصبح هنا نسبيّة ولا يحقّ لأحد أن يحدّدها». الحرية المحاصرة ولخص الدكتور مصطفى الكيلاني من تونس رؤيته للواقع العربي بأنه: «حرية محاصرة، ومُواطنة مرجأة، وعُنف مُستبدّ موروث مُعلن وخفيّ تمارسه السلطة، مثلما يمارسه المتمرّدون عليها بتوحش دال على موروث أحقاد وثارات، ونظام مُتقادِم هالك وفوضى سائبة، وديموقراطية مغشوشة». ومن هذا المنطلق يرى الكيلاني تاريخنا السياسي السالف والحادث دائرة شبه مُغلقة، «هي حركة الاستدارة بالمراكمة تليها مُراكمات من غير إبدال، كأن يستمرّ الحكم الاستبدادي كما هو واحديّاً رافضاً لحقيقة التعدُّد وواقع الاختلاف وطبيعة أصل الحُريّة الماثلة في صميم الذات الإنسانيّة. وإذا الفرديّة العربيّة الإسْلاميّة إشكاليّة بحُكْم تردُّدها العنيف بين وهج الحرية الطبيعية الكامن في روح الإنسان الفرد وبين تعطّل آفاق الحرية العملية نتيجة أوضاع الحُكم الاستبداديّ الرافض لأيّ حقّ للاختلاف القامع لأيّ ابتداع أو اجتهاد. لذا تتجاذب هذه الفرديّة المحاصرة الرغبة ونقائضها، إمكان الحلم واستحالة الواقع، ذلك ما يُعلّل انجراحها العميق والتباسها الحادّ ونقائضها المستفحلِة بين قِيم وأخرى مُضادّة، بين المحافظة حدّ الانغلاق أحياناً وبين الانفتاح على الآخر حدّ التنكّر للذات أحيانا أخرى، بين أخلاق مُطلقة وسلوك مُضادّ، بين إظهار وإضْمار بما يعني سلوكاً مُتذبْذباً لا ينتهج سبيل أخلاق واضحة». صورة جامعة الواقع العربي: حرية محاصرة، ومُواطنة مرجأة، وعُنف مُستبدّ موروث مُعلن وخفيّ تمارسه السلطة، مثلما يمارسه المتمرّدون عليها بتوحش دال على موروث أحقاد وثارات، ونظام مُتقادِم هالك وفوضى سائبة، وديموقراطية مغشوشة. إجراءات استثنائية تسعى سلطات الدولة المعنية إلى فرض ما تعده الأمن المطلق من خلال اللجوء إلى إجراءات استثنائية لفرض القانون والنظام، وفرض القيود على حريات من تشتبه بأنهم يهددون أمن الدول. وقد يؤدي استمرار مثل هذه القيود على حريات المواطنين في الواقع إلى تهديد أمن الدولة نفسها عندما تتضافر جهود بعض المواطنين وقوى أجنبية لها مخططاتها، على أراضي الدولة، وعندما ينجح هؤلاء، بمساعدة تلك القوى، في إطاحة حكوماتهم. وهم، بعملهم هذا، إنما يمهدون لوقوع بلادهم ضحية الاحتلال الأجنبي والتفكك الداخلي. تقرير التنمية الإنسانية العربية 2009 ديالكتيك الحرية حاول الفكر الهيغلي أن يجمع أفكار القرن الثامن عشر القائمة على الحريّة والحقّ والعقل والتطوّر في توليفة شاملة، بهدف جعل الفكر الفلسفي يشمل مسألة صيرورة تاريخ المجتمعات وبخاصّة القوى الفاعلة و«قوانين التاريخ» و«مبادئ التجاوز» التي تقود البشريّة نحو مصير مشترك. وبالتالي يكون قد أسّس لقيام مفهوم «الدولة – الأمّة» التي هي مكان لتوحيد المتناقضات وجمعها بهدف خدمة التطوّر. فالتاريخ هو تاريخ الذكاء البشري الذي يعمل بدافع الحريّة المعطاة للإنسان. ويؤدّي صراع المتناقضات الحرّ في ذهن النخب عبر التوليفة التي تستند إلى المنهج الديالكتيكي إلى خلق أفكار جديدة تكون عامّة وموضوعيّة وتقود البشريّة من نصر إلى آخر. وهذا الإبداع يظهر في المؤسسات والعادات والتقاليد وفي أعمال الدين والعلوم والفنون وفي تطوّر الأحداث. إنّه يعبّر عن تجاوز البشريّة لواقعها من أجل أن تنطلق نحو آفاق جديدة. د. ريمون غوش تنسيق قرر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في اجتماعهم الأخير في أبوظبي، تنسيق الجهود مع اتحاد المحامين العرب لتوفير أفضل الضمانات للحريات العامة، وللدفاع عن المعتقلين من الكتاب في الدول العربية، حيث أكد تقرير الحريات، الذي أقره المجتمعون، تمسك المشاركين بمواقفهم المبدئية والثابتة للدفاع عن حرية الأدباء والكتاب حيثما وجدوا، حيث لا شرط على الحرية إلا المزيد منها. ورصد التقرير الذي تمت صياغته، بناءً على مجمل التقارير الواردة من الاتحادات والروابط والأسر والجمعيات أعضاء الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، تغليبا للمفهوم الأمني على مفاهيم الحرية في محاولة لرد الهجمات الإرهابية، ولحماية المجتمعات والدول من خطر الجماعات الظلامية التكفيرية، التي تستبيح الإنسان العربي وكل ما يرمز إلى الحضارة العربية والإنسانية الأصيلة، فتلجأ بعض الجماعات والقوى الدينية إلى إرهاب المبدعين وتكفيرهم بالادعاء عليهم أمام القضاء بذريعة ازدراء الأديان، وفي نفس الوقت، تقوم بعض الأنظمة والمؤسسات الإعلامية بتكميم أفواه الإعلاميين، ومنع بعض الوسائل الإعلامية من البث الفضائي، رغم وفرة القنوات الإعلامية التي تبث الحقد والفرقة والضغينة بين أبناء الوطن الواحد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©